
بكر على رسول الله ﷺ فقال أنت عتيق الله من النار قالت فمن يومئذ سمّي عتيقا».
وجاء في ثانيهما «قال النبي ﷺ لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمّهم غيره» «١».
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
. (١) عرضا قريبا: بمعنى الهدف القريب والغنيمة السهلة المنال.
(٢) سفرا قاصدا: رحلة قصيرة قليلة العناء.
(٣) بعدت عليهم الشقة: رأوا الرحلة بعيدة شاقة.
(٤) انبعاثهم: خروجهم.
(٥) خبالا: اضطرابا وفسادا.
(٦) ولأوضعوا خلالكم: لسعوا بينكم بالنميمة والفساد. وأصل الإيضاع الإسراع في السعي والسير.
(٧) قلبوا لك الأمور: بذلوا جهدهم في الكيد لك.
في هذه الآيات: تنديد بالمتثاقلين عن استجابة دعوة النبي ﷺ إلى النفرة في

سبيل الله والمستأذنين المتخلفين عنها. وبيان لحقيقة أمرهم من جهة وتطمين وتسلية للنبي ﷺ والمسلمين من جهة أخرى بالتقريرات التالية:
١- لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة المنال أو رحلة قصيرة المسافة قليلة العناء لاتبعوه حرصا على المنفعة الدنيوية. ولكنهم رأوا المسافة بعيدة والرحلة شاقة فبدا منهم ما بدا من الاستثقال.
٢- ولسوف يحاولون الاعتذار ويحلفون أن لو استطاعوا لخرجوا مع النبي ﷺ في حين أن الله تعالى يعلم أنهم كاذبون. وليست أيمانهم إلّا لتزيد في إثمهم ووسيلة جديدة لهلاكهم وعذابهم.
٣- وأذن النبي لهم بالتخلّف حينما استأذنوه بذلك كان خطأ عفا الله عنه.
وكان الأحرى به أن لا يأذن حتى تظهر له حقيقة أمرهم ويتبين بذلك الصادق من الكاذب. فإنه لا يمكن لمؤمن مخلص بالله واليوم الآخر أن يستأذن بالتخلف وبأعذار كاذبة عن الجهاد بماله ونفسه. والله يعلم حقيقة المتقين المخلصين ولا يتقاعد عن الجهاد ويستأذن النبي بالتخلف إلا الذين لا يؤمنون إيمانا صادقا بالله واليوم الآخر والذين ارتكسوا في الشكوك والتردد.
٤- ولو أرادوا الخروج حقا وكانت معذرتهم التي أدلوا بها للتخلف طارئة حقا لكانوا أعدوا عدة الخروج. ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا فدل ذلك على تصميمهم من البدء على التخلف وعدم الاستجابة وحق عليهم أن يقال لهم اقعدوا مع القاعدين العاجزين كالصبيان والنساء والطاعنين في السنّ والمرضى والزمنى والعميان...
٥- ومع ذلك فإن الله قد أراد الخير للمسلمين فيما كان منهم لأنه يعلم نواياهم. ويعلم أنهم لو خرجوا معهم لما كان منهم إلا الفساد والسعي بالنميمة وإيقاع الاضطراب في صفوف المسلمين وإثارة الفتنة بينهم. ولا سيما أن في المسلمين من له صلات بهم، يسمع كلامهم ويتأثر به «١» ولذلك لم يشأ الله تعالى

أن يخرجوا وثبط عزيمتهم وألهمهم التخلف والقعود.
٦- ولقد كان هذا الخلق فيهم منذ البداية. فحاولوا إثارة الفتن والفساد والكيد في مختلف المناسبات وبمختلف الصور والوسائل. وإذا كان ظهر منهم شيء من المسايرة والملاينة بعد ذلك فإنما كان لأن الحق قد قوي وأمر الله قد ظهر برغم عنهم فلم يعد يسعهم إلا إظهار ما أظهروه من التزلّف وحسن القصد كذبا.
تعليق على الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ.. والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات
ولم يذكر المفسرون أسماء ولا أحداثا معينة في سياق هذه الآيات. وهي كما هو المتبادر استمرار للآيات السابقة أو تعقيب عليها. والصلة بينها وبينها وثيقة وفي الآية الأولى قرينة على صحة ما اتفق عليه الرواة من أن هذه الآيات قد نزلت في مناسبة وصدد غزوة تبوك البعيدة المسافة الشاقة السفر التي لم يكن يؤمل فيها غنائم ويسر وكبير سلامة وعافية بل التي كان الخطر فيها متوقعا أكثر.
وفي صيغة وَسَيَحْلِفُونَ وفي جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وجملة لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ قرائن على أن هذه الآيات قد نزلت في أثناء الرحلة.
والآيات تلهم أن تخلّف المتخلفين قد أهم المسلمين بعض الشيء وجعلهم يتحدثون فيه في أثناء سفرهم فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن ما تضمنته من تنديد بالمتخلفين وتطمين وتسلية للمسلمين.
والوصف الذي وصف به المتخلفون يدلّ على أنهم إنما كانوا من المنافقين وذوي القلوب المريضة وإن لم يرد هذا بصراحة في هذه الآيات. وقد احتوت الآيات التالية من السلسلة ذلك صراحة على ما سوف يأتي بعد.

ومضمون الآيات قد يدل على أن فريق المنافقين قد خضدت شوكته وخفتت نأمته كثيرا بعد ما تطور موقف النبي ﷺ وقوي أمره وتمّ ما تمّ من الفتح وانتشار الدعوة. وأن هذا الفريق صار يفعل ما يفعل ويقول ما يقول من أفعال وأقوال تنم عن نفاقه مواربا متماشيا أكثر من ذي قبل ويكثر الاعتذار وتوكيد حسن النية والطاعة. ولكن أمره لم يكن ليخفى فكانت تفضحه آثار النية الخبيثة والقلب المرتاب بالأقوال والأفعال.
ومع أن الآية الثالثة أي الآية [٤٤] قد وردت على سبيل بيان مظهر المؤمن المخلص ومقايسة الموقف الذي لا يمكن أن يقف غيره مع موقف المنافق فإنها احتوت على ما يتبادر لنا إشارة أو دلالة على أن المخلصين قد استجابوا إلى دعوة النبي ﷺ بدون تردد فكان موضع تنويه الآية بإخلاصهم وقوة إيمانهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس. وهذا يدعم من جهة الروايات التي تذكر أن عدد الجيش بلغ ثلاثين ألفا ويدل من جهة أخرى على سعة انتشار الإسلام وكون أغلبية الذين انضووا إليه من المخلصين.
ولقد روى الطبري وغيره عن مجاهد أن الآية [٤٣] نزلت في جماعة قالوا استأذنوا النبي فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن فاقعدوا كما رووا أن في جملة عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قد انطوت على عتاب رباني للنبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري بعد إيراد ذلك أن الله رخص للنبي الإذن لمن شاء في آية سورة النور هذه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢). هذا في حين أن سورة النور نزلت قبل سورة التوبة وأن آية سورة النور هذه ليست في صدد الاستئذان والإذن بالقعود عن الجهاد. وهي فضلا عن ذلك تثني على المستأذنين وتنوّه بإيمانهم بالله ورسوله. وأن آيات سورة التوبة التي نحن في صددها تنطوي على تنديد بالمستأذنين. ولقد قال البغوي الذي أورد رواية كون

الآية تنطوي على عتاب رباني «وقيل إن الله عزّ وجلّ وقّر النبي ورفع محلّه بافتتاح الكلام بالدعاء له كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني» ويتبادر لنا أن هذا التوجيه هو الأوجه الأكثر اتساقا مع مقام الجملة.
ولقد حاول الطبرسي والزمخشري أن يوفقا بين ما ظنا أنه متناقض بين التنديد بالمتخلفين من جهة وتقرير كون تخلفهم بإلهام من الله تعالى من جهة أخرى. وقد قال الطبرسي في صدد ذلك «لا ينبغي أن يقال كره الله انبعاثهم بعد ما أمرهم به حيث يقال إنما أمر به على وجه الذبّ عن الدين ونية الجهاد وكرهه منهم على نية التخريب والفساد أو أمرهم به لأنه طاعة وثبطهم عنه لأنه علم بضرره منهم.
والآيات كما قلنا قبل جاءت على سبيل التطمين والتسلية ولا نرى محلا للإشكال ولا ضرورة للتكلّف فيه.
ولقد روى البغوي عن ابن عباس أن النبي ﷺ لم يكن يعرف المنافقين يومئذ فأذن لمن استأذنه على اعتبار أنه صادق في اعتذاره. ومع أن في هذه السورة آية تفيد أنه كان منافقون في المدينة وفي من حولهم من الأعراب لا يعلمهم النبي وهي الآية [١٠١] فإن هناك آيات عديدة في سور عديدة تصف المنافقين وتذكر أقوالهم وأفعالهم وتدمغهم بها دمغا يدل دلالة لا ريب فيها أن كثيرا منهم كانوا معروفين بأعيانهم وأسمائهم عند النبي ﷺ وأصحابه. ولقد روى المفسرون أسماء عدد من المستأذنين منهم عبد الله بن نبتل ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن أبي وأوس بن قيظي والجد بن قيس وجميع هؤلاء ممن عرف عنهم النفاق والمخامرة. والاحتمال الوارد هو أن النبي ﷺ لم يرد أن يتشدد في أمر السفر لما يعرفه من شدة ظروف الغزوة للضرر المادي والمعنوي الذي يترتب على المكرهين عليه فأذن لمن استأذنه سواء أكانوا من المعروفين بنفاقهم أم لا. وفي الآيات [٤٥- ٤٧] قرائن قوية على ذلك. ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [٤٣] دليلا على أن النبي ﷺ كان يجتهد وينفذ اجتهاده. وهذا طبعا فيما لم يكن فيه وحي قرآني. وقد تكررت هذه الظاهرة في مناسبات آيات عديدة نبهنا عليها. حيث كان الوحي إما يقر النبي في اجتهاده أو