عدد الشهور في حكم الله وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
الإعراب:
اثْنا عَشَرَ شَهْراً اثنا عشر: خبر إِنَّ، وشَهْراً: منصوب على التمييز. فِي كِتابِ اللَّهِ فِي: متعلقة بمحذوف، وهي صفة لاثني عشر، وتقديره: إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا كائنة في كتاب الله. ولا يجوز أن تكون متعلقة ب عِدَّةَ لأنه يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بالخبر، وهو اثْنا عَشَرَ.
وكِتابِ: مصدر، أي كتابة الله، ولا يجوز أن يكون اسما للقرآن ولا لغيره من الكتب لأن الأسماء التي تدل على الأعيان لا تعمل في الظروف لأنها ليس فيها معنى الفعل.
ويَوْمَ: منصوب ب كِتابِ والتقدير: فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض، ولا يجوز تعلقه ب عِدَّةَ لما قدمنا في فِي كِتابِ اللَّهِ.
والضمير في مِنْها يعود إلى الاثني عشر. والضمير في فِيهِنَّ يعود إلى الأربعة لأن (ها) تكون لجمع الكثرة، وهن: لجمع القلة.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَافَّةً: منصوب على المصدر في موضع الجار، كقولهم:
عافاه الله عافية، ورأيتهم عامة وخاصة. وكَافَّةً: إما حال من الفاعل أي قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين كما يفعلون ذلك معكم تماما، وإما من المفعول، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا دون تفرقة بين فئة وأخرى.
لِيُواطِؤُا اللام متعلقة بالفعل الثاني، وهو: وَيُحَرِّمُونَهُ أو بما دلّ عليه مجموع الفعلين السابقين.
البلاغة:
يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً: بين يحلون ويحرمون طباق. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وضع الظاهر وهو الْمُتَّقِينَ موضع المضمر (أي معكم) للثناء عليهم بالتقوى ولحث القاصرين عليها، وتبيان أنها سبب الفوز والفلاح.
المفردات اللغوية:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي عددها المكون للسنة، والشهور: جمع شهر: وهو اسم للهلال سميت به الأيام. فِي كِتابِ اللَّهِ مصدر، وليس اسما للقرآن ولا للوح المحفوظ لأنه نصب كلمة يَوْمَ. مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ أي من الشهور أربعة محرمة وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والحرم: جمع حرام: من الحرمة بمعنى التعظيم. ذلِكَ أي تحريمها. الدِّينُ الْقَيِّمُ الدِّينُ: الشرع، والْقَيِّمُ: المستقيم الذي لا عوج فيه. فِيهِنَّ أي في الأشهر الحرم.
أَنْفُسَكُمْ أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرا.
كَافَّةً أي جميعا، في كل الشهور، مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر. النَّسِيءُ أي تأخير حرمة شهر إلى آخر، كما كانت الجاهلية تفعله من تأخير حرمة المحرم إذا هل، وهم في القتال، إلى صفر. والنَّسِيءُ: من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة: إذا أخره عن موضعه. زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي زيادة لكفرهم بحكم الله فيه. يُحِلُّونَهُ أي النسيء. لِيُواطِؤُا يوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله. عِدَّةَ عدد. ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر، فلا يزيدوا على تحريم أربعة، ولا ينقصوا، ولا ينظروا إلى أعيانها. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فظنوه حسنا.
سبب النزول: نزول الآية (٣٧) :
إِنَّمَا النَّسِيءُ: أخرج ابن جرير الطبري عن أبي مالك قال: كانوا
يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، فيجعلون المحرم صفر، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ.
المناسبة:
الآيات عود للكلام عن المشركين في تعداد قبائحهم: وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله، وذلك مثل فعل اليهود والنصارى الذين غيّروا حكم الله، فكان الكلام مناسبا عن حكم قتالهم ومعاملتهم، ثم العود إلى أحكام المشركين، فصار هناك تشابه بين المشركين وبين اليهود والنصارى في تعاطي أسباب القتال، وفي إيجاب القتال.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أشهر السنة، فيقول: إن عدة الشهور في علمه تعالى وحكمه، وفيما كتبه الله وأوجب الأخذ به، وأثبته في نظام دورة القمر، وفي اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض اثنا عشر شهرا، على هذا النحو المألوف اليوم.
والمراد: الأشهر القمرية لأن الحساب بها يسير، يعتمد على رؤية القمر، من كل الناس المتعلمين والعوام.
والمراد بقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ، أي في كتابته ونظامه وحكمه التشريعي على وفق السنن الإلهية في نظام الكون، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل: في اللوح المحفوظ.
والمراد بقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: الوقت الذي تمّ فيه خلقهما، وهو ستة أيام من أيام التكوين والإيجاد.
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد
فرد وهو رجب، أي ذات حرمة وتعظيم تمتاز بها عن بقية الشهور، فقد ورد أن المعصية فيها أشد عقابا، وأن الطاعة فيها أعظم ثوابا، ولله تعالى أن يعظم بعض الأزمنة والأمكنة كما يشاء، فقد فضل البلد الحرام عن سائر البلاد، وميّز يوم الجمعة ويوم عرفة وعشر ذي الحجة عن سائر الأيام، وميز شهر رمضان وأشهر الحج عن بقية الشهور كما قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة ٢/ ١٩٧] وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور، وميز بعض الليالي كليلة القدر، وبعض الأشخاص بالرسالة أو النبوة.
وكان القتال محرما في هذه الأشهر الأربعة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام، واستمر العرب على ذلك، ثم نسخت حرمتها عن عطاء الخراساني رضي الله عنه قال: أحلّت القتال في الأشهر الحرم: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وجاءت السنة مبينة حرمة الأشهر وثباتها في وقتها الصحيح،
روى الإمام أحمد والبخاري في التفسير عن أبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خطب في حجة الوداع، فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» أي رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذي الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة «١».
ثم قال: «أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي شهر هذا؟
قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم- وأحسبه قال: وأعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت؟ ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فلعلّ من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه».
ثم قال الله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي أن تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل، أي الحكم والشرع الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر، خلافا لما كان يفعل أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور وتأخير البعض.
وكانت العرب قد تمسكت بتعظيم هذه الأشهر الحرم وراثة عن إبراهيم وإسماعيل، ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه، لم يتعرض له. وسموا رجبا: الأصم، حتى أحدث النسيء، فغيروا وبدلوا وأخلّ أهل الجاهلية بحرمة هذه الأشهر.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم، باستحلال حرامها، فإن الله عظّمها، وإياكم أن تعملوا النسيء فتنقلوا الحج من شهره إلى شهر آخر، وتغيروا حكم الله تعالى.
والمراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من تعظيم الثواب والعقاب فيها، كما قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة ٢/ ١٩٧].
وهذه الأمور وإن كانت حراما في غير هذه الأشهر، إلا أنه أكد الله تعالى فيها المنع، زيادة في شرفها.
ثم أبان الله تعالى حكم قتال المشركين بنحو عام في كل زمان، فقال:
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي قاتلوا المشركين جميعا أي مجتمعين متعاونين، كما يقاتلونكم جميعا مجتمعين متعاونين، وهذا على أن كَافَّةً حال من الفاعل، ويصح كونها حالا من المفعول، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا، كما يقاتلونكم جميعا من غير تفرقة بين فئة وأخرى.
وظاهر الآية: إباحة قتالهم في جميع الأشهر، حتى الأشهر الحرم، فيكون القتال فيها مباحا، ويؤيده قول عطاء الخراساني المتقدم: أحلت القتال في الأشهر الحرم: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي ما فيها من قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً.
فهذه الآية تأذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام، إذا كانت البداءة منهم، كما قال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة ٢/ ١٩٤] وقال تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة ٢/ ١٩١].
وحاصر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف في شوال، واستمر الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، وهو بعض ذي القعدة.
وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم [١٩٤، ٢١٧] وآية المائدة [٢] فهي منسوخة بآيات التوبة لنزولها بعد سورة البقرة بسنتين.
وهذا القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو المعتمد شرعا.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً... منقطعا عما قبله وأنه حكم مستأنف، للتحريض على قتال المشركين، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون.
ثم قال الله تعالى مطمئنا المؤمنين بالنصر: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي أن الله تعالى مؤيد وناصر الأولياء الأتقياء الذين يتخذون وقاية من مخالفة أمره، وهو معهم بالمعونة والنصر فيما يقومون به من أعمال القتال وغيره.
ثم أبان الله تعالى سبب استحقاق المشركين القتال والذم العظيم وهو تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الخاصة، وتحليلهم ما حرم الله، وتحريمهم ما أحلّ الله، وذلك بالتلاعب في الزمان والوقت بلجوئهم إلى كبس السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، وعملهم النسيء في الأشهر الحرم لأنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متواليات.
أما كبس السنة القمرية: فهو تكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، فيزيدون كل ثلاث سنين شهرا في العام، وذلك لأن السنة القمرية تنقص عن السنة الشمسية أحد عشر يوما تقريبا، إذ هي (١٠٠٠/ ٣٦٦ ٣٥٤ يوما) فتنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل، فيكملون النقص بأن يزيدوا في كل ثلاث سنوات شهرا، لتكون السنة قمرية شمسية، وليجعلوا وقت الحج في زمن معين وفقا لمصلحتهم، لينتفعوا بتجاراتهم، فكانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أنحاء البلاد، فيختل بذلك نظام تجارتهم إذ قد يكون الحج مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، فيشق ذلك على العرب أيام الجاهلية، فاختاروا للحج وقتا معينا، وثبّتوا السنة القمرية كالسنة الشمسية لتنتظم علاقاتهم التجارية مع غيرهم من الشعوب الأخرى، مع احتفاظهم بمراعاة نظام السنة القمرية في المعاملات والعبادات الذي توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام.
وقد تعلموا كبس السنة من اليهود والنصارى الذين يعتمدون على السنة الشمسية، وهي (٤/ ١ ٣٦٥ يوما) وفي كل أربع سنوات يتكون من الكسر عندهم يوم كامل، فتصبح السنة (٣٦٦ يوما) وفي كل مائة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا، فتكون ثلاثة عشر شهرا، وتسمى كبيسة. أما في عصرنا فيقتصر على زيادة يوم في آخر شهر شباط (فبراير) كل أربع سنوات.
وأما النسيء في الشهور: فهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عباداتهم والقيام بتجاراتهم بالسنة القمرية، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، فيتألمون من مشقة الصيف، ولا ينتفعون بتجاراتهم التي يصطحبونها في موسم الحج، كما أنه كان يشق ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية، فتركوا اعتبار السنة القمرية، واعتمدوا على السنة الشمسية، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس، كما بينت، فنقلوا حرمة شهر المحرم إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله في الاسم دون الحقيقة، اكتفاء بمجرد العدد، ونقلوا الحج من شهر إلى آخر، وإذا كانوا في حرب ودخل شهر رجب مثلا قالوا: نسميه رمضان، ونطلق اسم رمضان على رجب.
وذلك لأن دورة القمر الشهرية: (٨، ٢ ثانية ٤٤ دقيقة ١٢ ساعة ٢٩ يوما) فتكون السنة القمرية أنقص من السنة الشمسية.
وأول من عمل النسيء: نعيم بن ثعلبة الكناني.
وكان يفعل النسيء بعده رجل كبير من كنانة يقال له (القلمّس) يقول في أيام منى حيث يجتمع الحجيج: أنا الذي لا يردّ لي قضاء، فيقولون: صدقت، فأخّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، ويحرم عليهم صفرا، ثم يجيء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته: إنا قد حرمنا صفر
وأخرنا المحرم، ثم صاروا ينسئون غير المحرم، فتتغير حقائق الشهور كلها، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد.
لذا ذم الله تعالى تصرفهم وتلاعبهم بالشهور القمرية، فقال: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي إن تأخير حرمة شهر إلى آخر، وقلب وضع التحريم والتحليل زيادة في أصل كفرهم القائم على الشرك وعبادة الأصنام، وتغيير لملة إبراهيم بسوء التأويل، ولأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفرا.
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يوقع النسيء الذين كفروا في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وعلى قراءة يضل المبني للمعلوم معناه: يضلهم الله، فيحلون الشهر المؤخر عاما، ويحرمونه عاما.
لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا في مجرد العدد الأربعة الأشهر الحرم.
فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله تعالى من القتال، بتأخير هذا الشهر الحرام.
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا، وتوهموا شبهتهم الباطلة أنها صواب.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يوفق ولا يرشد القوم الضالين الذين يختارون السيئات، إلى الحكمة والخير والصواب وفهم الحكمة من أحكام الشرع، وإنما يخذلهم ولا يلطف بهم لأن الهداية المؤدية إلى السعادة في الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس ١٠/ ٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على الأحكام التالية:
١- إن عدد الشهور القمرية في علم الله تعالى وفي حكمه وإيجابه في اللوح المحفوظ يوم خلق السموات والأرض اثنا عشر شهرا، فإنه تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتّبها عليه، يوم خلق السموات والأرض، على وفق سنته الإلهية ونظامه البديع المتقن، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وحكمها باق على ما كانت عليه، لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها.
والمقصود من ذلك اتباع أمر الله تعالى، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية، من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتّبوها عليه.
٢- الواجب في شريعتنا الاعتماد على السنة القمرية في العبادات كالصوم والحج وغيرها، كما عرفتها العرب، دون السنة الشمسية أو العبرية أو القبطية وغيرها، وإن لم تزد على اثني عشر شهرا. وذلك بدليل الآية التي معنا، حيث ذكر فيها: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ والأربعة الحرم من الشهور القمرية وهي (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب)
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن رجب: «الذي بين جمادى وشعبان»
وبدليل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس ١٠/ ٥] فجعل تقدير القمر بالمنازل علة لمعرفة السنوات والحساب، وهو إنما يصحّ بالاعتماد على دورة القمر.
وبدليل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة ٢/ ١٨٩] وهو يدل على السنة القمرية واعتبارها في الصيام والزكاة والحج والأعياد والمعاملات وأحكامها.
٣- الإسلام دين الحق والصواب والاستقامة لقوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك الشرع والطاعة، والقيّم أي القائم المستقيم. وقيل: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفى، وقيل: ذلك القضاء، وقيل: الحق.
٤- تحريم ظلم النفس بارتكاب المعاصي والذنوب في جميع السنة لقوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ على قول ابن عباس: راجع إلى جميع الشهور. وقال الأكثرون: راجع إلى الأشهر الحرم خاصة لأنه إليها أقرب، ولها مزية في تعظيم الظلم لقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وهذا تعظيم لحرمتها وتأكيد لامتيازها، لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز، وإنما هو حرام في كل الأيام والشهور والسنين، وإذا عظم الله تعالى شيئا عظّمه من جهتين، وصارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، وذلك ثابت في البلد الحرام.
وقيل: إن الظلم هو إباحة القتال فيها، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، كما قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري، وهو الصحيح المعتمد
لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة.
ونظرا لتعظيم حرمة الشهر الحرام، قال الشافعي فيمن قتل فيه شخصا خطأ: تغلظ عليه الدية، وقال: تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وقال الأوزاعي: القتل في الشهر الحرام تغلّظ فيه الدية فيما بلغنا، وفي الحرم، فتجعل دية وثلثا.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى: القتل في الحلّ والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، قال القرطبي: وهو الصحيح لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سنّ الديات، ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا على أن
الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء، فالقياس أن تكون الدية كذلك.
٥- تعظيم حرمة الأشهر الحرم: خصّ الله تعالى الأربعة الأشهر بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها، وإن كان منهيا عنه في كل الزمان، كما قال:
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وهذا رأي أكثر المفسرين، أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروي عن ابن عباس قال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ في الاثني عشر.
٦- الأمر بقتال المشركين كافة، قال ابن العربي: يعني محيطين بهم من كل جهة وحالة، فمنعهم ذلك من الاسترسال في القتال»
. وهذا ترغيب في قتالهم وتحريض، معاملة بالمثل، وتوحيدا للصف وجمعا للكلمة.
وقال بعض العلماء: كان الغرض بهذه الآية قد توجّه على الأعيان (أي أن القتال فرض عين) ثم نسخ ذلك، وجعل فرض كفاية.
وفي هذا الكلام بعد لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يلزم الأمة جميعا النّفر، وكان القتال قد استقرّ على أنه فرض كفاية بعد أن كان في مرحلة قصيرة فرض عين، وإنما معنى هذه الآية- كما ذكر القرطبي- الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم «٢».
فليس في هذه الآية إعلان شامل للحرب على المشركين، وإنما هي آمرة بتوحيد المؤمنين، وجعلهم جبهة واحدة عند قتال المشركين، فهي لتحريضهم
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ١٣٦، تفسير الرازي: ١٦/ ٥٤
على التعاون والتناصر، وعدم التخاذل والتقاطع، كما أن المشركين جبهة واحدة متعاونون متناصرون أثناء قتالهم المسلمين.
٧- تحريم النسيء، أي تأخير حرمة شهر ووقته إلى شهر آخر، فذلك يضادّ الحقائق، ويظهر التلاعب بالسنن الإلهية، ويغير أوقات العبادة، وهو أيضا زيادة في كفر المشركين، الذين أنكروا وجود الباري فقالوا:
وَمَا الرَّحْمنُ؟ [الفرقان ٢٥/ ٦٠] في أصح الوجوه، وأنكروا البعث فقالوا:
مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ [يس ٣٦/ ٧٨] وأنكروا بعثة الرسل فقالوا:
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ [القمر ٥٤/ ٢٤]، وزعموا أن التحليل والتحريم عائد إليهم، فحللوا ما حرّم الله وحرموا ما أحل الله على وفق شهواتهم وأهوائهم، وأضلوا الذين كفروا، وحافظوا على مجرد العدد في التحريم: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي لم يحلّوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة، وذلك كله من تزيين الشيطان لهم هذا العمل السيء، والله لا يرشد كل كفار أثيم.
وكان الهدف من النسيء شيئين ماديين لمصالح الدنيا: الأول- ترتيب وقت الحج في زمن يناسب ظروف تجاراتهم، بدلا من تقلّبه تارة في الصيف وتارة في الشتاء، والثاني- شن الغارات والحروب، أو الاستمرار في القتال، على وفق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم.
وترتب على النسيء الاعتماد على السنة الشمسية في الواقع لأنهم جعلوا السنة القمرية تساير السنة الشمسية، عن طريق الكبيسة، وأدى ذلك إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، ونقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غير وقته المخصص له.