وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمُ الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا مَا يُعَذَّبُونَ بِهِ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ دِينَارٍ أَوْ مِنْ صَفِيحَةٍ مَعْمُولَةٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا جَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي مَنَعَهُ وَجَوَّزُوا خِلَافَ ذَلِكَ، فَعَظَّمَ اللَّهُ تَبْكِيتَهُمْ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لَمْ تُؤْثِرُوا بِهِ رِضَا رَبِّكُمْ وَلَا قَصَدْتُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ نَفْعَ أَنْفُسِكُمْ وَالْخَلَاصَ بِهِ مِنْ عِقَابِ رَبِّكُمْ فَصِرْتُمْ كَأَنَّكُمُ ادَّخَرْتُمُوهُ لِيُجْعَلَ عِقَابًا لَكُمْ عَلَى مَا تُشَاهِدُونَهُ، ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ وَمَعْنَاهُ لَمْ تَصْرِفُوهُ لِمَنَافِعِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ عَلَى مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ فَذُوقُوا وَبَالَ ذَلِكَ بِهِ لا بغيره.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا شَرْحُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي تَغْيِيرِهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِذَا غَيَّرُوا تِلْكَ الْأَحْكَامَ بِسَبَبِ النَّسِيءِ فَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنْهُمْ فِي تَغْيِيرِ حُكْمِ السُّنَّةِ بِحَسَبَ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ السَّنَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: ٥] فَجَعَلَ تَقْدِيرَ الْقَمَرِ بِالْمَنَازِلِ عِلَّةً لِلسِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ السَّنَةُ مُعَلَّقَةً بِسَيْرِ الْقَمَرِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: ١٨٩] وَعِنْدَ سَائِرِ الطَّوَائِفِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَدُورُ الشَّمْسُ فِيهَا دَوْرَةً تَامَّةً، وَالسَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ أَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ تَنْتَقِلُ الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ مِنْ فَصْلٍ إِلَى فَصْلٍ، فَيَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا فِي الشِّتَاءِ مَرَّةً، وَفِي الصَّيْفِ أُخْرَى، وَكَانَ يَشُقُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَأَيْضًا إِذَا حَضَرُوا الْحَجَّ حَضَرُوا لِلتِّجَارَةِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِحُضُورِ التِّجَارَاتِ مِنَ الْأَطْرَافِ، وَكَانَ يُخِلُّ أَسْبَابَ تِجَارَاتِهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَقْدَمُوا عَلَى عَمَلِ الْكَبِيسَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الزِّيجَاتِ، وَاعْتَبَرُوا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ بَقِيَ زَمَانُ الْحَجِّ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مُوَافِقٍ لِمَصْلَحَتِهِمْ وَانْتَفَعُوا بِتِجَارَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، فَهَذَا النَّسِيءُ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْهُ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ الْحَجَّ بِأَشْهُرٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّسِيءِ، يَقَعُ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ وَتَكْلِيفِهِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ لِرِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ فِي الدُّنْيَا سَعَوْا فِي تَغْيِيرِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَإِبْطَالِ تَكْلِيفِهِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ الْعَظِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ جَمَعُوا تِلْكَ الزِّيَادَةَ، فَإِذَا بَلَغَ مِقْدَارُهَا إِلَى شَهْرٍ جَعَلُوا تِلْكَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ حُكْمَ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَا أَقَلَّ وَلَا أَزْيَدَ، وَتَحَكُّمُهُمْ عَلَى بَعْضِ السِّنِينَ، أَنَّهُ صَارَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا حُكْمٌ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ تَغْيِيرَ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدِّينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْعَرَبِ مِنَ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ قَمَرِيَّةً لَا شَمْسِيَّةً، وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم
وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ تَعَلَّمَ صِفَةَ الْكَبِيسَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَظْهَرَ ذَلِكَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: عِدَّةَ الشُّهُورِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: اثْنا عَشَرَ شَهْراً وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَقُولُ فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ قَوْلُهُ: عِدَّةَ الشُّهُورِ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: / اثْنا عَشَرَ شَهْراً خَبَرٌ. وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ظُرُوفٌ أُبْدِلَ الْبَعْضُ مِنَ الْبَعْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ. وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْإِبْدَالَاتِ الْمُتَوَالِيَةِ تَقْرِيرُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ وَاجِبٌ مُتَقَرِّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالَمَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي كِتابِ اللَّهِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ يَكُونُ صِفَةً لِلْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مُثْبَتَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ لَا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب مِنَ الْكُتُبِ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَأَسْمَاءُ الْأَعْيَانِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالظُّرُوفِ، فَلَا تَقُولُ: غُلَامُكَ يَوْمَ الجمعة، بل الكتاب هاهنا مَصْدَرٌ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ في حكمه الواقع يوم خلق السموات.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ اسْمًا وَقَوْلُهُ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مَكْتُوبًا فِي كِتَابِ اللَّهِ كَتَبَهُ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَحْكَامِ الْآيَةِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي عِلْمِهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ وَفِي تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابن عباس: إن اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ أَحْوَالَ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَسْرِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِلْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّنَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَكْتُوبًا فِي الْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ فِيمَا أَوْجَبَهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَالْكِتَابُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الْحُكْمُ وَالْإِيجَابُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [الْبَقَرَةِ: ١٧٨] كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الْأَنْعَامِ: ٥٤] قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكِتَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَالظَّرْفِ، وَإِذَا حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَى الْحِسَابِ لَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا، إِلَّا أَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ يُقَالُ:
إِنَّ الْأَمْرَ كَذَا وَكَذَا فِي حِسَابِ فُلَانٍ وَفِي حُكْمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وُجُوهًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْحُكْمَ وَحَكَمَ بِهِ يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ حُكْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ، وَهِيَ ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، وَهُوَ رَجَبٌ، وَمَعْنَى الْحُرُمِ: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهَا أَشَدُّ عِقَابًا، وَالطَّاعَةَ فِيهَا أَكْثَرُ ثَوَابًا، وَالْعَرَبُ كَانُوا يُعَظِّمُونَهَا جِدًّا حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَجْزَاءُ الزَّمَانِ مُتَشَابِهَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَمَا السَّبَبُ فِي هَذَا التمييز؟.
قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ أَمْثِلَتَهُ كَثِيرَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ عَنْ سَائِرِ الْبِلَادِ بِمَزِيدِ الْحُرْمَةِ، وَمَيَّزَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَنْ سَائِرِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ بِمَزِيدِ الْحُرْمَةِ، وَمَيَّزَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ بِتِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَمَيَّزَ شَهْرَ رَمَضَانَ عَنْ سَائِرِ الشُّهُورِ بِمَزِيدِ حُرْمَةٍ وَهُوَ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَمَيَّزَ بَعْضَ سَاعَاتِ الْيَوْمِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَمَيَّزَ بَعْضَ اللَّيَالِي عَنْ سَائِرِهَا وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَمَيَّزَ بَعْضَ الْأَشْخَاصِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ بِإِعْطَاءِ خُلْعَةِ الرِّسَالَةِ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً، فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ.
الْأَشْهُرِ بِمَزِيدِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ وُقُوعَ الطَّاعَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا فِي طَهَارَةِ النَّفْسِ، وَوُقُوعَ الْمَعَاصِي فِيهَا أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي خُبْثِ النَّفْسِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ صَنَّفَ كُتُبًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدَّعَوَاتِ، وَذَكَرُوا أَنَّ تِلْكَ الْأَوْقَاتَ الْمُعَيَّنَةَ حَصَلَتْ فِيهَا أَسْبَابٌ تُوجِبُ ذَلِكَ.
وَسُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُهُ بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ»
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ أَشْهُرِ اللَّهِ الْحُرُمِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا»
وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ غَلَّظُوا الدِّيَةَ عَلَى الْقَاتِلِ بِسَبَبِ وُقُوعِ الْقَتْلِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ أَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَامْتِنَاعُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ شَاقٌّ عَلَيْهِمْ، فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، وَخَصَّ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا امْتَنَعَ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَفِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَائِدِ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَرْكَ تِلْكَ الْقَبَائِحِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ، لِأَنَّهُ يُقِلُّ الْقَبَائِحَ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَرَكَهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ فَرُبَّمَا صَارَ تَرْكُهُ لَهَا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ سَبَبًا لِمَيْلِ طَبْعِهِ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مُطْلَقًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِالطَّاعَاتِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَأَعْرَضَ عَنِ الْمَعَاصِي فِيهَا، فَبَعْدَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ لَوْ شَرَعَ فِي الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي صَارَ شُرُوعُهُ فِيهَا سَبَبًا لِبُطْلَانِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنَ الْعَنَاءِ وَالْمَشَقَّةِ فِي أَدَاءِ تِلْكَ الطَّاعَاتِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاجْتِنَابِهِ عَنِ الْمَعَاصِي بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَبَعْضِ/ الْبِقَاعِ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً لَا أَزْيَدُ وَلَا أَنْقَصُ أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْكُفَّارَ سَلَّمُوا أَنَّ أربعة منها حرم، إلا أنهم بسبب الكبسة رُبَّمَا جَعَلُوا السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانُوا يُغَيِّرُونَ مَوَاقِعَ الشُّهُورِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الدِّينِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الدِّينَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْحِسَابُ. يُقَالُ: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ أَيْ حَاسَبَهَا، وَالْقَيِّمُ مَعْنَاهُ الْمُسْتَقِيمُ فَتَفْسِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، ذَلِكَ الْحِسَابُ الْمُسْتَقِيمُ الصَّحِيحُ وَالْعَدْلُ الْمُسْتَوْفَى. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الَّذِي لا يبدل ولا يغير، فالقيم هاهنا بِمَعْنَى الْقَائِمِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَزُولُ، وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي فُطِرَ النَّاسُ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا التَّعَبُّدَ هُوَ الدِّينُ اللَّازِمُ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْقَاضِي: حَمْلُ لَفْظِ الدِّينِ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ فِي لَفْظِ الدِّينِ الِانْقِيَادُ يُقَالُ: يَا مَنْ دَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ، أَيِ
انْقَادَتْ، فَالْحِسَابُ يُسَمَّى دِينًا، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِانْقِيَادَ، وَالْعِدَّةُ تُسَمَّى دِينًا، فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى التَّعَبُّدِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحِسَابِ. قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَعْتَبِرُوا فِي بُيُوعِهِمْ وَمُدَدِ دُيُونِهِمْ وَأَحْوَالِ زَكَوَاتِهِمْ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِمُ السَّنَةَ الْعَرَبِيَّةَ بِالْأَهِلَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ اعْتِبَارُ السَّنَةِ الْعَجَمِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ: فَلَا تَظْلِمُوا فِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَنْفُسَكُمْ، وَالْمَقْصُودُ مَنْعُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفَسَادِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَثَرًا فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَحْظُورَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ فَوَجَبَ عَوْدُهُ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا قَوْلُهُ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ بِمَزِيدِ الِاحْتِرَامِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: ١٩٧] فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي غَيْرِ الْحَجِّ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ فِي الْمَنْعِ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَتِهَا فِي الشَّرَفِ. / الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَوْلَى رُجُوعُهَا إِلَى الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ (فِيهِنَّ) فَإِذَا جَاوَزَ هَذَا الْعَدَدَ قَالُوا (فِيهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يُكَنَّى عَنْهُ كَمَا يُكَنَّى عَنْ جَمَاعَةٍ مُؤَنَّثَةٍ، وَيُكَنَّى عَنْ جَمْعِ الْكَثْرَةِ، كَمَا يُكَنَّى عَنْ وَاحِدَةٍ مُؤَنَّثَةٍ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحَى | وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا |
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الظُّلْمِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ النَّسِيءُ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فَيَنْقُلُونَ الْحَجَّ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِإِقَامَتِهِ فِيهِ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ، وَيُغَيِّرُونَ تَكَالِيفَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُقَاتَلَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي بِسَبَبِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْهُرِ مَزِيدَ أَثَرٍ فِي تَعْظِيمِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي حَمْلُهُ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ النَّسِيءِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَهُ عَقِيبَ الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: كَافَّةً أَيْ جَمِيعًا، وَالْكَافَّةُ لَا تَكُونُ مُذَكَّرَةً وَلَا مَجْمُوعَةً عَلَى عَدَدِ الرِّجَالِ فَنَقُولُ: كَافِّينَ، أَوْ كَافَّاتٍ لِلنِّسَاءِ وَلَكِنَّهَا (كَافَّةً) بِالْهَاءِ وَالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى لَفْظِ فَاعِلَةٍ فَإِنَّهَا فِي تَرْتِيبِ مَصْدَرٍ مِثْلَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُدْخِلِ الْعَرَبُ فِيهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ، لِأَنَّهَا فِي مَذْهَبِ قَوْلِكَ قَامُوا مَعًا، وَقَامُوا جَمِيعًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَافَّةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعَ، كَمَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ:
قَاتِلُوهُمْ عَامَّةً، لَمْ تُثَنِّ وَلَمْ تَجْمَعْ، وَكَذَلِكَ خَاصَّةً. صفحة رقم 43