
عليك في المال، ثم كنزت وجمعت فلا غبار عليك. وهذا هو الواجب فهمه في الآية خلافا لبعضهم. قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز.
فبشرهم وأنذرهم بعذاب أليم جدا يوم يحمى على ما جمعوه من دنانير ودراهم في النار، أى: يوقد عليها في النار حتى تحمى فتكوى بها جباههم التي طالما اعتزت بكثرة المال وتكون جنوبهم التي طالما تمتعت بالحرير والديباج، وتكوى بها ظهورهم التي طالما استندت للمال، على أن الكي على الوجه أشهر وأشنع، والكي على الجنب والظهر أوجع وآلم ويقال لهم: هذا جزاء ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون!!!
وروى البخاري عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعنى شدقيه- ثم يقول له: أنا مالك أنا كنزك» ثم تلا:
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة آل عمران آية ١٨٠].
بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء [سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)

المفردات:
حُرُمٌ: جمع حرام. كَافَّةً أى: مجتمعين. النَّسِيءُ: من نسأ الشيء وأنسأه، أى: أخره، والنسيء كالمسنوء، أى: المؤخر.
لِيُواطِؤُا المواطأة: الموافقة.
عود للكلام على المشركين بعد أن أنهى الكلام على أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
المعنى:
إن عدة الشهور عند الله أى: في حكمه اثنا عشر شهرا، فيما كتبه الله وأثبته من نظام للكون، وتقدير لمنازل القمر والشمس، كتبه يوم خلق السموات والأرض، والمراد الأشهر القمرية لا غيرها، فإن الحساب بها يسير، وتتوقف على الهلال، وهو يرى لكل إنسان متعلم وغير متعلم، بدوي أو حضرى.
منها أربعة حرم كتب الله وفرض احترامها وتحريم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل. وتناقلت العرب ذلك قولا وعملا، وفي زمن الجاهلية الجهلاء غيرت العرب في ذلك وبدلت تبعا لأهوائها كما سيأتى
والأشهر الحرم كما وردت في الحديث هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى الثانية وشعبان.
وحرم القتال فيها لأنها زمن الحج فيأمن الناس في أسفارهم وغربتهم على أنفسهم وأموالهم، ولا شك أن الحج يبتدئ غالبا من ذي القعدة إلى آخر المحرم. وكان رجب في وسط العام هدنة للراحة والاستجمام ولتسهيل العمرة فيه، ذلك الدين القيم، ذلك

الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في عدة الشهور، وتحريم الأربعة الحرم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل أى محرم ومحظور، ويدخل في ذلك انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها، أو الحرم بالقتال فيها في كل وقت، يدخل هذا وذلك في الظلم دخولا أوليا، وقاتلوا المشركين جميعا على قلب رجل واحد كل في دائرة اختصاصه كما يقاتلونكم كذلك، واعلموا أن الله مع المتقين للظلم والعدوان والفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وقد ورثت ذلك عن أبيها إبراهيم وإسماعيل، ولما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم بدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم، ولا سيما شهر المحرم منها، فكانوا ينسئون تحريمه، أى: يؤجلون تحريمه إلى صفر فتبقى الأشهر أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله. وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم لأجل الحج.
وفي كتب التاريخ أنه كان يقوم رجل منهم كبير (يقال له القلمس) فيقول في (منى) : أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: صدقت فأخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، ويحرم عليهم صفرا، ثم صاروا ينسئون غير المحرم.
إنما النسيء، أى: التأخير في الأشهر الحرم كما ورد عنهم، زيادة في الكفر إذ هم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل فكان زيادة على أصل كفرهم وشركهم بالله تعالى، فإن تشريع الحلال والحرام لله وحده وإنهم بالنسيء يضلون به سائر الكفار الذين يتبعون فيه حيث يوهمونهم أنهم على ملة إبراهيم وأنهم لم يزيدوا ولم ينقصوا في الأشهر الحرم، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة.
والله لا يهدى القوم الكافرين أبدا إلى خير أو صواب، خصوصا في أمور الدين،
روى الشيخان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» «١»
بمعنى أنه عاد حساب الشهور ونظامها إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغير في حساب العرب بسبب النسيء في الأشهر.