آيات من القرآن الكريم

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ

أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه فتفرقوا ودعوا الناس إلى مذاهبهم واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن الله ذلِكَ أي ما صدر عنهم قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي مجردا عن برهان وهو فارغ من معنى معتبر يُضاهِؤُنَ أي يشبهون في الشناعة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم أي يشابه قول اليهود والنصارى قول المشركين: الملائكة بنات الله. وقول أهل مكة: اللات والعزى ومناة بنات الله. كما قالت اليهود: عزير ابن الله. وكذلك قال بعض النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعضهم: شريكه، وقال بعضهم: هو الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإهلاك أو تعجب من شناعة قولهم: أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) أي كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولدا، وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن الله تعالى لا يتعجب من شيء
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي اتخذ اليهود علماءهم من ولد هارون، واتخذ النصارى علماءهم من أصحاب الصوامع أربابا من دون الله بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه أو بالسجود لهم وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي اتخذه النصارى ربا معبودا بعد ما قالوا: إنه ابن الله وَما أُمِرُوا أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة والإنجيل إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً عظيم الشأن هو الله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لا لها سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) أي تنزه الله تعالى عن أن يكون له شريك في التكليف وفي كونه معبودا ومسجودا له وفي وجوب نهاية التعظيم والإجلال يُرِيدُونَ أي رؤساء اليهود والنصارى أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي دلائل الله المنيرة الدالة على وحدانيته وتنزهه عن الشركاء والأولاد، أي يريدون أن يردوا القرآن فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد ومن الشرائع من أمر الحل والحرمة بِأَفْواهِهِمْ أي بأقوالهم الباطلة وَيَأْبَى اللَّهُ أي لا يريد إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) وجواب «لو»
محذوف، أي ولو كره الكافرون تمام نوره لأتمه ولم يبال بكراهتهم. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدى أي ملتبسا بالقرآن وَدِينِ الْحَقِّ أي دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعلي الله دين الإسلام على الأديان كلها وهو أن لا يعبد الله طلا به فإن المسلمين قد قهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل وكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام وَلَوْ

صفحة رقم 446

كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) ذلك الإظهار والوصف بالشرك بعد الوصف بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ أي علماء اليهود وَالرُّهْبانِ أي علماء النصارى لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي ليأخذون الأموال من سفلتهم بطريق الرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي لأنهم يمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في ذلك في الزمان في المسلك المقرر في التوراة والإنجيل، وفي زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم كانوا يبالغون في المنع عن متابعته صلّى الله عليه وسلّم في منهجه الصحيح بجميع وجوه المكر والخداع وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي يجمعونهما وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا يخرجون من حملة كل واحد منهما سواء كانت آنية أو دنانير ودراهم ما وجب إخراجه عن تلك الجملة من الزكاة والكفارات ونفقة الحج والجمعة، ومما يجب إخراجه في الدين والحقوق ونفقة الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) أي فأخبرهم يا أشرف الخلق بعذاب أليم هو مذكور في قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي يوم توقد على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة نار ذات حرّ شديد في نار جهنم فَتُكْوى بِها أي فتحرق بتلك الأموال جِباهُهُمْ أي جهة أمامهم كلها وَجُنُوبُهُمْ من اليمين واليسار وَظُهُورُهُمْ يقال لهم:
هذا أي الكي ما كَنَزْتُمْ أي جزاء ما جمعتم من الأموال لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) أي فذوقوا جزاء ما كنتم تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ القمرية التي تؤدى فيها الزكاة وعليها يدور فلك الأحكام الشرعية عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما، والسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام وربع يوم، فبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل آخر فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهذه الظروف الثلاثة أبدل البعض من البعض، والتقدير أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات، أي منذ خلق الله الإحرام والأزمنة أي إن ذلك العدد ثابت في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم مِنْها أي من تلك الشهور الاثني عشر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم ورجب ذلِكَ أي عدة الشهور الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأربعة الحرم أَنْفُسَكُمْ بإتيان المعاصي فإنه أعظم وزرا كإتيانها في الحرم.
وقال ابن عباس: فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، وذلك منع الإنسان عن إتيان الفساد في جميع العمر وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي قاتلوا

صفحة رقم 447

المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم في جميع الأشهر كما إنهم يقاتلونكم على هذه الصفة وكونوا عباد الله متوفقين في مقاتلة الأعداء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) أي مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات واجتناب المحرمات إِنَّمَا النَّسِيءُ أي إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأن ضم هذا العمل إلى الأنواع المتقدمة من الكفر زيادة في الكفر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا.
قرأ حفص وحمزة والكسائي «يضل» بالبناء للمفعول. والباقون بفتح الياء على البناء للفاعل. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم ويعقوب من العشرة بضم الياء وكسر الضاد. والمعنى حينئذ يضل بهذا التأخير الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم يُحِلُّونَهُ عاماً أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي ويحرمون التأخير عاما آخر، وهو العام الذي يتركون المحرم على تحريمه. وسبب هذا التأخير أن العرب كانت تعظم الأشهر الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة والحروب فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لهلكنا وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر الأربعة فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى.
قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة وكان يقوم ويخطب في الموسم ويقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال: حلال، عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا. وقيل: هو جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية كان يقول على جمل في الموسم بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل: هو رجل من كنانة يقال له: القلمس قال قائلهم:
ومنا ناسئ الشهر قلمس وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ. قال ابن عباس: أي زين الشيطان لهم هذا العمل حتى حسبوا هذا

صفحة رقم 448

القبيح حسنا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) أي لا يرشدهم إلى دينه لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أي أيّ شيء ثبت لكم من الأعذار حال كونكم متثاقلين ومشتهين الإقامة في أرضكم في وقت قول الرسول لكم: أخرجوا إلى الغزو في طاعة الله.
روي أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك مكان على طرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة ويقال لها: غزوة العسر وغزوة الفاضحة، وكانت في رجب في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من الطائف إلى المدينة، وسببها ما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام وإنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأمر صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب وحضّ أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وهي آخر غزواته فجهز عثمان عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل وهي: تسعمائة بعير ومائة فرس، وغير الزاد وما يتعلق بذلك، وأول من جاء بالنفقة: أبو بكر فجاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء ابن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة والأغنياء. وبعثت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن. فلما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس وهم ثلاثون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس خلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وتخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه من المنافقين بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع وكان من تخلف عشر قبائل وإنما تباطأ الناس في خروجهم للقتال لشدة الزمان في قحط وضيق عيش، ولبعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات ولشدة الحر في ذلك الوقت، ولمهابة عسكر الروم، ولإدراك الثمار في المدينة في ذلك الوقت فاقتضى اجتماع هذه الأسباب تثاقل الناس عن ذلك الغزو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وغرورها مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل نعيم الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في مقابلة نعيم الآخرة إلا قليل لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة
كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل السرور القليل سفه إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً أي إن لم تخرجوا إلى ما طلب الخروج منكم إليه يهلككم الله بسبب فظيع هائل كقحط ونحوه وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يأتي بعد إهلاككم بدلكم بقوم مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا كأهل اليمن وأبناء فارس وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أي لا يضر الله جلوسكم شيئا لأنه غني عن العالمين أو لا يضر الرسول تثاقلكم في نصرة دينه أصلا، لأن الله عصمه من الناس وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) فيقدر على نصر نبيه ودينه ولو من غير واسطة إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي إن لم تنصروا محمدا فسينصره الله الذي قد نصره حين لم يكن معه إلا

صفحة رقم 449
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية