آيات من القرآن الكريم

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ

كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الْكَهْف: ٥]. وَفِي هَذَا أَيْضًا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَسَدُّ بَابِ تَنَصُّلِهِمْ مِنْهُ إِذْ هُوَ إِقْرَارُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَصَرِيحِ كَلَامِهِمْ.
وَالْمُضَاهَاةُ: الْمُشَابَهَةُ، وَإِسْنَادُهَا إِلَى الْقَائِلِينَ: عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ظَاهِرٍ مِنَ الْكَلَامِ، أَيْ يُضَاهِي قَوْلَهُمْ.
والَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ: مِنَ الْعَرَبِ، وَمِنَ الْيُونَانِ، وَغَيْرِهِمْ، وَكَوْنِهِمْ مِنْ قَبْلِ النَّصَارَى ظَاهَرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مِنْ قَبْلِ الْيَهُودِ: فَلِأَنَّ اعْتِقَادَ بُنُوَّةِ عُزَيْرَ طَارِئٌ فِي الْيَهُودِ وَلَيْسَ مِنْ عَقِيدَةِ قُدَمَائِهِمْ.
وَجُمْلَةُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ دُعَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ مِنْ عَمَلٍ شَنِيعٍ، وَالْمُفَاعَلَةُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الدُّعَاءِ: أَيْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ قَتْلًا شَدِيدًا. وَجُمْلَةُ التَّعْجِيبِ مُسْتَأْنَفَةٌ كَشَأْنِ التَّعَجُّبِ.
وَجُمْلَةُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ فِي الِاتِّبَاعِ الْبَاطِلِ، حَتَّى شُبِّهَ الْمَكَانُ الَّذِي يُصْرَفُونَ إِلَيْهِ بِاعْتِقَادِهِمْ بِمَكَانٍ مَجْهُولٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ بِاسْمِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْمَكَانِ، وَمَعْنَى يُؤْفَكُونَ يُصْرَفُونَ. يُقَالُ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ إِذَا صَرَفَهُ، قَالَ تَعَالَى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: ٩] وَالْإِفْكُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ قَدْ جَاءَ مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَصْرِفُ السَّامِعَ عَنِ الصِّدْقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ غير مرّة.
[٣١]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٣١]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
الْجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التَّوْبَة: ٣٠] لِيُبْنَى عَلَى التَّقْرِيرِ زِيَادَةُ التَّشْنِيعِ بِقَوْلِهِ:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً إِلَخْ، فَوِزَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وِزَانُ جُمْلَةِ اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ [الْأَعْرَاف: ١٤٨] بَعْدَ جُمْلَةِ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ [الْأَعْرَاف: ١٤٨].
وَالضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

صفحة رقم 169

وَالْأَحْبَارُ جَمَعُ حَبْرٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ- وَهُوَ الْعَالِمُ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ.
الرُّهْبَانُ اسْمُ جَمْعٍ لِرَاهِبٍ وَهُوَ التَّقِيُّ الْمُنْقَطِعُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْحَبْرُ بِعَالِمِ الْيَهُودِ لِأَنَّ عُظَمَاءَ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ يَشْتَغِلُونَ بِتَحْرِيرِ عُلُومِ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ فَهُمْ عُلَمَاءُ فِي الدِّينِ وَخُصَّ الرَّاهِبُ بِعَظِيمِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ لِأَنَّ دِينَ النَّصَارَى قَائِمٌ عَلَى أَصْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ.
وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِمْ هَؤُلَاءِ أَرْبَابًا أَنَّ الْيَهُودَ ادَّعَوْا لِبَعْضِهِمْ بُنُوَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ تَأْلِيهٌ، وَأَنَّ النَّصَارَى أَشَدُّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِصُوَرِ عُظَمَاءِ مِلَّتِهِمْ مِثْلَ صُورَةِ مَرْيَمَ، وَصُوَرِ الْحَوَارِيِّينَ، وَصُورَةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، وَالسُّجُودُ مِنْ شِعَارِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكَانُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ فِي حُرُوبِهِمْ وَلَا يَسْتَنْصِرُونَ بِاللَّهِ.
وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِهِمْ وَفِرَقِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمُ الْمُخَالِفَةِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ، فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ يُحَلِّلُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الدِّينَيْنِ،
وَلِذَلِكَ أَفْحَمَ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عديا بْنَ حَاتِمٍ لَمَّا وَفَدَ عَلَيْهِ قُبَيْلَ إِسْلَامِهِ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقَالَ عَدِيُّ: لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ- فَقُلْتُ: بَلَى- قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»
فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِبَعْضِ أَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ مَرْتَبَةَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَكَانَتِ الشَّنَاعَةُ لَازِمَةً لِلْأُمَّتَيْنِ وَلَوْ كَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِمَقَالِهِمْ كَمَا زَعَمَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَإِنَّ الْأُمَّةَ تُؤَاخَذُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْ أَفْرَادِهَا إِذَا أَقَرَّتْهُ وَلَمْ تُنْكِرْهُ، وَمَعْنَى اتِّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا دُونَ أَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَتَخْصِيصُ الْمَسِيحِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ تَأْلِيهَ النَّصَارَى إِيَّاهُ أَشْنَعُ وَأَشْهَرُ.
وَجُمْلَةُ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ، وَهِيَ مَحَطُّ زِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ وَإِنْكَارِ صَنِيعِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيمَا زَعَمُوا، لِأَنَّ وَصَايَا كُتُبِ الْمِلَّتَيْنِ طَافِحَةٌ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ عِبَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمِنْ إِشْرَاكِهَا فِي خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ.

صفحة رقم 170
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية