آيات من القرآن الكريم

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ

وقال أبو (١) إسحاق: "لما فرض القتال تبين المنافق من غيره، ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم فأنزل الله هذه الآية" (٢).
وتقدير لفظ الآية مع المعنى: ولما يعلم الله المجاهدين والممتنعين من اتخاذ الوليجة.
١٧ - قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ الآية، قال ابن عباس: "لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا؟ قال له علىّ: ألكم محاسن؟! فقال: نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل الله -عز وجل- ردًا على العباس ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (٣).
ومعنى ما كان لهم ذلك: أنه أوجب على المسلمين منعهم عن ذلك، وأكثر المفسرين حملوا العمارة ههنا على دخول المسجد الحرام (٤) والقعود فيه (٥)، وهو قول ابن عباس والحسن، قال (٦) في رواية عطاء: "يريد: لا يدخلوه ولا يقعدوا فيه كما كانوا قبل ذلك" (٧).

(١) في (ى): (ابن)، وهو خطأ.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.
(٣) ذكره الثعلبي ٦/ ٨٤ أ، والمصنف في "أسباب النزول" ص ٢٤٦ بغير سند، ورواه مختصرًا بن جرير ١٠/ ٩٥، وابن أبي حاتم ٥/ ١٧٦٥ من طريق الوالبي.
(٤) من (م).
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٤ ب، والبغوي ٤/ ٢٠، والسمرقندي ٢/ ٣٨، والآية التالية وسبب النزول الذي ذكره المؤلف يدلان على أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من البناء والترميم.
(٦) لفظ: (قال) ساقط من (ح). والقائل ابن عباس، وسيأتي قول الحسن وتخريجه.
(٧) لم أقف عليه فيما بين يديّ من مصادر.

صفحة رقم 328

وقال الحسن: "يقول (١): ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام" (٢). وقال الكلبي: "ما كان للمشركين أن يدخلوا المسجد وهم مشركون" (٣).
وذهب آخرون إلى (٤) العمارة المعروفة من رم المسترم (٥) من أبنية المسجد (٦)، وهذا محظور على الكافر يمنع منه ولا يمكن.
واختلف القراء في قوله: ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ فقرأ أبو عمرو وابن كثير على التوحيد (٧) وحجتهما قوله: ﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ومن جمع فحجته أن المشركين ليسوا بأولياء لمساجد المسلمين، لا المسجد الحرام ولا غيره [وإذا لم يكونوا أولياءها لم يكن لهم عمارتها، إنما عمارتها للمسلمين الذين هم أولياؤه (٨) فدخل في ذلك المسجد الحرام وغيره، (٩)، ويدل على

(١) ساقط من (ى).
(٢) ذكره الثعلبي ٦/ ٨٤ ب، والمصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٢، والبغوي ٤/ ٢٠.
(٣) لم أقف عليه يما بين يديّ من مصادر.
(٤) في (ح): زيادة (أن) بعد (إلى).
(٥) في (ى): (المستهدم، وهما بمعنى واحد، قال في "لسان العرب" (رم) ٣/ ١٧٣٦: "الرم: إصلاح الشيء الذي فسد.. واسترام الحائط: أي حان له أن يرم إذا بعد عهده بالتطيين".
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٣، والبغوي ٤/ ١٩، وابن الجوزي ٣/ ٤٠٩، والقرطبي ٨/ ٩٠.
(٧) وكذلك يعقوب، وقرأ باقي العشرة بالجمع. انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٦٤، و"تقريب النشر" ص١٢٠، و"تحبير التيسير" ص ١١٩.
(٨) هكذا في (ى) و (م) و"الحجة للقراء السبعة" ٤/ ١٨٠ الذي نقك المؤلف النص منه، والسياق يقتضي أن يقول: أولياؤها.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).

صفحة رقم 329

أنهم ليس لهم عمارة المسجد قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال: ٣٤]، قال الفراء في هذه الآية: "ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، ألا ترى الرجل على البرذون (١) فتقول: قد أخذتَ في ركوب البراذين؟ وترى الرجل كثير الدراهم فتقول: إنه لكثير الدرهم (٢)، وتقول العرب: عليه أخلاق نعلين، وأخلاق ثوب، ومنه قول الشاعر (٣):
جاء الشتاء وقميصي أخلاق (٤)
وقوله تعالى: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾، قال الزجاج: "شاهدين" (٥) حال، المعنى: ما كانت (٦) لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر" (٧).

(١) قال الأزهري في "تهذيب اللغة" (برذن) ١/ ٣٠٧: "البراذين من الخيل: ما كان من غير نتاج العراب".
(٢) في (ح) و (ى): (الدراهم، وهو خطأ).
(٣) صدر بيت وعجزه:
شراذم بعجب منه التواق
ولم أهتد إلى قائله، وقال البغدادي في "الخزانة" ١/ ٢٣٤: "نسب أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات هذا البيت إلى بعض الأعراب" اهـ. والبيت بلا نسبة في "لسان العرب" (توق).
وثوب أخلاق -بالجمع- إذا بلي كله. وثوب شراذم: قطع، والتواق: اسم ابن الشاعر. انظر: "خزانة الأدب"، الموضع السابق.
(٤) اهـ. كلام الفراء من "معاني القرآن" ١/ ٤٢٧ مع اختلاف يسير.
(٥) في (ح): زيادة "على أنفسهم بالكفر" وهذه الزيادة غير موجودة في المصدر.
(٦) في (ى): (كان).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.

صفحة رقم 330

ومعنى: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾: قال ابن عباس في رواية الضحاك: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر: سجودهم لأصنامهم وإقرارهم أنها مخلوقة" (١)، وقال في رواية عطاء: "يريد: حين اتخذوا لله شفعاء وأنداداً" (٢)، وهذا معنى القول (٣) الأول.
وقال الحسن: "لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بكفرهم" (٤) يعني أن (٥) فيما يخبرون به دليلًا على كفرهم، لا أنهم يقولون نحن كفار، ولكن كما تقول للرجل: كلامك يشهد أنك ظالم، وقال السدي: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يُسأل ما أنت؟ فيقول: نصراني واليهودي يقول: يهودي، وعابد الوثن يقول: مشرك" (٦).
وذكر ابن الأنباري في هذا وجهين:
أحدهما: أنه قال: شهادتهم على أنفسهم بالكفر عدولهم عن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حق لا يخفى على مميز، ولا يرتاب به عاقل، فكانوا (٧) في ذلك بمنزلة من شهد على نفسه بالكفر.
والثاني: أنهم آمنوا بأنبياء (٨) شهدوا لمحمد - ﷺ - بالصدق فلما آمنوا

(١) رواه الثعلبي ٦/ ٨٥ أ، وفي سنده جويبر وهو ضعيف جداً، ثم إن الضحاك لم يلق ابن عباس كما في "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٢٦، ورواه البغوي ٤/ ٢٠ مختصرًا.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في (ى): (قول).
(٤) رواه الثعلبي ٦/ ٨٥ أ، والبغوي ٤/ ٢٠.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) رواه بنحوه ابن جرير ١٠/ ٩٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٧٦٥، والثعلبي ٦/ ٨٥ أ، والبغوي ٤/ ٢٠.
(٧) في (م): (كانوا).
(٨) في (ي): (بالأنبياء).

صفحة رقم 331

بهم وكذبوه دلوا على كفرهم (١)، وجرى ذلك مجرى الشهادة منهم على أنفسهم بالكفر" (٢).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، قال ابن عباس: "يريد: أن أعمالهم لغير الله" (٣).
وقال الزجاج: "أي كفرهم قد أذهب ثواب أعمالهم" (٤).
ودلت هذه الآية مع ما ذكرنا من التفسير في العمارة أن الكافر ممنوع من عمارة مسجد من مساجد المسلمين، ولو أوصى بها (٥) لم تقبل وصيته، ويمنع عن دخول المساجد، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد ومنعهم منها للآية، وقد أنزل رسول الله - ﷺ - وفد ثقيف في المسجد وهم كفار (٦)، وشد ثمامة (٧) بن أثال

(١) هذا الوجه يصح في حق أهل الكتاب دون مشركي العرب فإنهم ما كانوا يؤمنون بالأنبياء، ولا يعرفون الوحي، كما قال تعالى: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [ق: ٢]، وقال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤].
(٢) ذكر قول ابن الأنباري بلفظ مقارب ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤٠٨.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٧.
(٥) أي بالعمارة، وفي (ى): (لها)، أي للمساجد، وأثبت ما في (م) و (ح) لموافقته ما في"تفسير الرازي" ١٦/ ٧ - ٨ نقلاً عن الواحدي.
(٦) انظر: "مسند الإمام أحمد" ٤/ ٢١٨، و"سنن أبي داود"، (٣٠٢٥) كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف.
(٧) هو: ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي أبو أمامة اليمامي الصحابي، كان سيد أهل اليمامة، وقد حاصر أهل مكة أقتصاديًا ولما ارتد أهل اليمامة في فتنة مسيلمة ثبت هو على إسلامه وقاتل المرتدين من أهل البحرين، وقتل غيلة سنة١٢هـ. =

صفحة رقم 332
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية