آيات من القرآن الكريم

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ

اللغَة: ﴿بَرَآءَةٌ﴾ برئت من الشيء: إِذا قطعت ما بينك وبينه من سبب وأزلته عن نفسك، قال الزجاج: برئت من الرجل والدين براءة، وبرئت من المرض بُروءاً ﴿فَسِيحُواْ﴾ السياحة: السير في الأرض والذهاب فيها للتجارة أو العبادة أو غيرهما ﴿أَذَانٌ﴾ الأذان: الإِعلام ومنه أذان الصلاة ﴿مَرْصَدٍ﴾ المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلاناً إِذا ترقبته قال الشاعر: إِن المنية للفتى بالمرصد ﴿استجارك﴾ طلب جوارك أي أمانك ﴿إِلاَّ﴾ الإِلُّ: العهد والقرابة وأنشد عبيدة:
أفسد الناس خلوف خلفوا... قطعوا الإِلَّ وأعراف الرحم
﴿نَكَثوا﴾ النكث: النقض وأصله في كل ما فُتل ثم حل ﴿وَلِيجَةً﴾ بطانة ودخيلة، قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج، فالداخل في القوم وليس منهم يسمى وليجة وقال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يفشي إِليهم سره، ويعلمهم أمره. سَبَبُ النّزول: روي أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، وفيهم «العباس بن عبد المطلب» فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعيرّوهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقال: وهل لكم من محاسن؟ فقال: نعم، إِنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ... ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين﴾ أي هذه براءة من المشركين ومن عهودهم كائنة من الله ورسوله قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمره الله بإِلقاء عهودهم إليهم، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة، فقام علي فنادى في الناس بأربع: ألاّ يقرب

صفحة رقم 484

البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم، ومن كان بينه ويبن رسول الله مدة فأجله إِلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه، وهو أمر إباحة وفي ضمنه تهديد ﴿واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة ﴿وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين﴾ أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل، وفي الآخرة بالعذاب الشديد ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس﴾ أي إِعلام إلى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾ أي وم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك قال الزمخشري: وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر ﴿أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ أي إعِلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم، ورسوله بريء منهم أيضاً ﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً، ولا تُعجزونه هرباً ﴿وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم قال أبو حيان: جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين﴾ أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم قال في الكشاف: وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم، ولا تُجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر ﴿ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ أي لم ينقصوا من شروط الميثاق شيئاً ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾ أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم ﴿فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾ أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم قال البيضاوي: هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى قال ابن عباس: كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأنتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم عهدهم ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾ أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم، قال ابن عباس: في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ أي بالأسر ﴿واحصروهم﴾ أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد قال ابن عباس: إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام ﴿واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم قال في البحر: وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة﴾ أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ أي كفروا عنهم ولا تتعرضوا لهم ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب {وَإِنْ

صفحة رقم 485

أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك ﴿فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله﴾ أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره قال الزمخشري: المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر أقول: هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا ما هم عليه من الضلال ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا، ثم بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ استفهام بمعنى الانكار والاستبعاد أي كيف يكون عهد معتدٌ به عند الله ورسوله، ثم استدرك فقال ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام﴾ أي لكن من عهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد قال ابن عباس: هم أهل مكة وقال ابن إسحاق: هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قريش، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم ﴿فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ﴾ أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد قال الطبري: أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ أي يحب من اتقى ربه، ووفى عهده، وترك الغدر والخيانة ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم ﴿لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة، لأنه لا عهد لهم ولا أمان قال أبو حيان: وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم ﴿وتأبى قُلُوبُهُمْ﴾ أي وتمنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه وقال الطبري: المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس ﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام ﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة ﴿وأولئك هُمُ المعتدون﴾ أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة﴾ أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين﴾ أي فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ

صفحة رقم 486

الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل ﴿َوَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيمْان ﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم ﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾ أي رؤساء وصناديد الكفر ﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها ﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ أي كي يكفوا عن الإِجرام، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام، قال البيضاوي: وهو متعلق ب «قاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ﴾ تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول﴾ أي عزموا على تهجير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة، والبادئ أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ﴾ ؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إن تركتم أمره ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾ أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه قال الزمخشري: يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بما سواه.
. ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فتقالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾ أي يذلهم بالأسر والقهر ﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم قال ابن عباس: هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أبشروا فإِن الفرج قريب ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي يذهب ما بها من غيظ، وغمٍّ، وكرب، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم قال الرازي: أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد، فكيف بها إِذا اجتمعت؟ ﴿وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ﴾ كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة قال أبو السعود: ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ﴾ أي منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه! ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ﴾ أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾ أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا

صفحة رقم 487

بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين، والغرض من الآية: إن الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد ﴿شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ أي حال كونهم مقرين بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك» يعنون الأصنام، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوقة سجدوا للأصنام والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة مساجد الله، مع الكفر بالله وبعبادته ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك ﴿وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾ أي ماكثون في نار حهنم أبداً ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن من المصدق بوحدانية الله، الموقن بالآخرة ﴿وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة﴾ أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله﴾ أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه ﴿فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين﴾ أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة قال ابن عباس: كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه
﴿عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [الإسراء: ٧٩] يقول: إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة قال أبو حيّان: وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إِذ من جميع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من لا ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عارٍ منها؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله﴾ الخطاب للمشركين، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى: أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله؟ وهو رد على العباس حين قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج فنزلت قال الطبري: هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله ﴿لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله﴾ أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق، قال في البحر: ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة، ونفاها عن المشركين هنا فقال ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ ثم قال تعالى {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ

صفحة رقم 488

وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى: إِن الين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون ﴿وأولئك هُمُ الفائزون﴾ أي أولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة، ورضوان كبير من ربِّ عظيم ﴿وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ أي وجنات عالية، قطوفها دانية، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية ﴿إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي ثوابهم عند الله عظيم، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإِيمان، والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب.
البَلاَغَة: ١ - ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ التنوين للتفخيم والتقييد بأنها من الله ورسوله لزيادة التفخيم والتهويل.
٢ - ﴿وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ هذا يسمى «الأسلوب التهكمي» لأن البشارة بالعذاب تهكم به.
٣ - ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾ شبّه مضي الأشهر وانقضاءها بالإِنسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فهو من باب الاستعارة.
٤ - ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ذكر الاسم الجليل مكان الضمير لتربية المهابة وإِدخال الروعة في القلب.
٥ - ﴿وأولئك هُمُ الفائزون﴾ الجملة مفيدة للحصر أي هم الفائزون لا غيرهم.
٦ - ﴿وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة﴾ في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
٧ - ﴿بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ تنكير الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم أي برحمة لا يبلغها وصف واصف.
فَائِدَة: عمارة المساجد نوعان: حسية، ومعنوية، فالحسية بالتشييد والبناء، والمعنوية بالصلاة وذكر الله، وقد ربط الباري جل وعلا بين العمارة والإِيمان وفي الحديث «إِذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإِيمان لأن الله تعالى يقول {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم

صفحة رقم 489

الآخر} فالعلمارة الحقيقة بالصلاة وذكر الله.
لطيفَة: ذكر القرطبي أن أعرابياً قدم المدينة المنورة فقال: من يقرئني مما أُنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى الآية الكريمة ﴿أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ فقرأها عليه بالجرِّ ﴿وَرَسُولُهُ﴾ فقال الأعرابي: وأنا أيضاً أبرأ من رسوله، فاستعظم الناس الأمر وبلغ ذلك عمر فدعاه فقال يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال يا أمير المؤمنين: قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة فقلت إِن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال: ما هكذا الآية يا أعرابي؟ قال فكيف يا أمير المؤمنين! فقرأها عليه بالضم ﴿وَرَسُولُهُ﴾ فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ألا يقرئ الناس إِلا عالم بلغة العرب.

صفحة رقم 490
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية