
مستقبل المشركين العرب
أبان الله تعالى مصير المشركين العرب وحالهم في المستقبل بعد إعلان عداوتهم للإسلام، فإما أن يختاروا التوبة وقبول الإسلام، أو يلجأوا إلى القتال. ودخولهم في الإسلام إيثار للسلام وحقن للدماء وبناء مستقبل زاهر حافل بالأمجاد والمفاخر، واحتكامهم للقتال انتحار ودمار وتحطيم لقواهم المادية والمعنوية، قال الله تعالى مبينا كيفية معاملتهم في كلا الحالين:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١ الى ١٥]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
«١» «٢» [التوبة: ٩/ ١١- ١٥].
أوضح الله تعالى حال الكفار المشركين بعد أن اختاروا موقف العداء للمسلمين، فهم بين أمرين:
أحدهما: التوبة عن كفرهم والرجوع عن حالهم، والتوبة تتضمن معنى الإيمان بالله ورسوله ودينه، ثم قرن الله تعالى مع إيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. إن فعلوا ذلك، فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، ونبين الآيات لقوم يعلمون، أي نوضح الأدلة والبراهين على وجودنا الحق، لقوم يعلمون ما نبين لهم،
(٢) غضبها ووجدها.

فيفهمون ويتفقهون. والأخوة في الدين: هي أخوة الإسلام وهي أقوى من أخوة النسب.
والأمر الثاني: القتال بعد نكث أيمانهم، أي بعد نقض عهودهم، وطعنهم في الدين، أي بالتعييب والاستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك. وحينئذ فقاتلوا أئمة الكفر، أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه، والمراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم، إنهم لا عهود لهم ولا ذمة، لعلهم بالقتال ينتهون عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين، والصحيح أن الآية عامة لمشركي العرب ولغيرهم، كما ذكر ابن كثير، والمراد بقوله: لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا أيمان لهم يوفّى بها ويبرّ.
ثم حرض الله تعالى على قتال مشركي العرب، قال قتادة فيما رواه أبو الشيخ:
ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة، وأسباب التحريض على قتالهم ثلاثة:
الأول- نكثهم العهد والأيمان التي أقسموا عليها. والعهد الذي نقضوه هو صلح الحديبية، لمناصرة قريش حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلا بالقرب من مكة، على ماء يسمى (الهجير) فسار إليهم الرسول وفتح مكة سنة ثمان هجرية في العشرين من رمضان.
والسبب الثاني- إخراجهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مكة، فقد أخرجوه من بلده: مكة، أي إنهم هموا وفعلوا.
والسبب الثالث- إنهم بدؤوا بقتال المؤمنين يوم بدر حين صمموا على المعركة، وفي مكة، وعاونوا بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء المؤمنين، فكان هذا بدء النقض. وكذلك في أحد والخندق وغيرهما.

ثم ذكر الله بعد هذه الأسباب الثلاثة دواعي أربعة للقتال: وهي تعداد موجبات القتال، والتحريض على الإغارة في قوله تعالى: أَتَخْشَوْنَهُمْ وكون الله أحق بالخشية لأنه صاحب القدرة المطلقة التي تدفع الضرر المتوقع وهو القتل، والإيمان بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فالإيمان قوة دافعة على الإقدام، والخلاصة: لا تخشوا أيها المؤمنون أعداءكم، واخشوا الله وحده، فهو أحق بالخشية منهم، إن كنتم مؤمنين بالله.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بالقتال أمرا صريحا حاسما بقوله: قاتِلُوهُمْ أي قاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم، فإن قاتلتموهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين امتلأت غيظا من أفعال المشركين بهم في مكة، وهم بنو خزاعة حلفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذين بيتهم بنو بكر والمشركون ليلا، وأعملوا فيهم السيف قتلا وذبحا بالوتير، قائمين وقاعدين، راكعين وساجدين.
وبالرغم من شناعة فعل المشركين بالمؤمنين، فإن الله تعالى يقبل توبة من يتوب عن كفره منهم، وقد حدث ذلك فعلا، فأسلم أناس منهم، وحسن إسلامهم، مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو. والله عليم بما يصلح عباده، حكيم في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو العادل الحكيم الذي لا يجور أبدا، ولا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة، ويجازي كل إنسان بما قدم من خير أو شر، في الدنيا والآخرة.
التحريض على الجهاد وعمارة المساجد
إن إعداد الأمة إعدادا قويا، وبناء قوتها الذاتية، يتطلب عملا متواصلا من الجهاد، والاعتماد على الذات وثقات الناس، والإقبال على عمارة المساجد عمارة مادية بالبناء والترميم، ومعنوية بالصلاة والعبادة والخدمة، وعقد حلقات العلم