
و (مع) تقتضي المصاحبة، والمعنى على (١) أنهم أمروا بأن يكونوا مع النبي - ﷺ - في الشدة والرخاء، قاله أبو إسحاق (٢).
١٢٠ - وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ قال ابن عباس: (يعني مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار) (٣)، ﴿أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾، قال: يريد لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة، ورسول الله - ﷺ - في الحر والمشقة (٤)، يحرضهم ويحضهم على الجهاد، يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر: أي ترفعت عنه
أقول: وقد ذكر الزجاج قولًا آخر في الآية فقال: (يجوز أن يكون ممن يصدق ولا يكذب في قول ولا فعل)، وذكر هذا القول أيضًا ابن جرير ١١/ ٦٣ تفسيرًا لقراءة ابن مسعود (وكونوا من الصادقين) لكنه لم يرتض هذا المعنى محتجًا بأنه مخالف للقراءة الموافقة لرسم المصحف، واحتجاجه هذا فيه نظر؛ لأن (مع) في لغة العرب للصحبة اللائقة، ولا تستلزم المخالطة والممازجة، بل تختلف باختلاف مصحوبها، فكون الله تعالى مع المتقين لون، وكون عقل الإنسان معه لون، وكون زوجته معه لون، وكون أميره معه لون.. وهكذا، فإذا علم هذا كان المعنى اللائق بقوله تعالى: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ كونوا منهم؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون مع مجموعة جمعهم الصدق إلا إذا كان صادقًا موافقًا لهم في الخصلة الي جمعتهم. والله أعلم.
وانظر مبحث المعية في " مختصر الصواعق المرسلة" ٢/ ٢٦٥، و"لسان العرب" (معع) ٧/ ٤٢٣٤، و"البحر المحيط" ٥/ ١١١.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٥.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٣/ ٥١٥، و"الوسيط" ٢/ ٥٣٤.
(٤) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع.

وتركته (١)، وأنا أرغب بفلان عن هذا الأمر: أي أبخل به عليه (٢)، ولا أتركه له.
وقال عطية العوفي: (ولا يرغبوا بأنفسهم عن الأمر الذي بذل له رسول الله - ﷺ - نفسه) (٣).
وقال قطرب: (أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه) (٤).
وقال الحسن: (لا يرغبون بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله - ﷺ -) (٥)، وهذه ألفاظ معناها متقارب.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ الإشارة ﴿ذَلِكَ﴾ تعود إلى ما تقدم من النهي عن التخلف، وقال: ذلك النهى لما يحصل من الأجر والثواب في مقاساة كلف السفر، وهو قوله: ﴿لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ وهو شدة العطش، يقال: ظمئ فلان يظمأ ظمأً (٦) على (فَعِلَ) إذا اشتد عطشه، وهو ظمئ وظمآن، ويجوز في المصدر: ظمأة وظماء، قال ابن عباس: (يريد عطشٌ في الطريق) (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا نَصَبٌ﴾ النصب: الإعياء من العناء، يقال:
(٢) ساقط من (م).
(٣) لم أجده.
(٤) لم أقف عليه، وقد ذكره الرازي ١٦/ ٢٢٣ - ٢٢٤ بلا نسبة.
(٥) رواه الثعلبي ٦/ ١٦١ أ، والبغوي ٤/ ١٠٩.
(٦) ساقص من (م).
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢٠٦.

نصب ينصب، وأنصبني هذا الأمر، قال ابن عباس: (يريد التعب من شدة الحر) (١)، (ولا مخمصة) مضى الكلام فيها (٢)، قال ابن عباس: (يريد: مجاعة) (٣)، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في طاعة الله، ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾، قال: يريد: (ولا يضع قدمه ولا حافر فرسه ولا خف بعيره) (٤)، وقال الحسن: (ولا يقفون موقفًا) (٥).
وقوله تعالى: ﴿يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾، قال ابن الأعرابي: (يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد) (٦)، أي أغضبه ﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾، قال ابن عباس والحسن (٧): (أسرًا وقتلًا وهزيمة، قليلاً ولا كثيرًا، إلا كان ذلك قربة لهم عند الله) (٨).
قال العوفي: (وفي الآية من الفقه أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ونصبه ومشيته وحركاته كلها حسنات مكتوبة له، وكذلك في المعصية، فما أعظم بركة الطاعة، وما أعظم شؤم المعصية) (٩).
(٢) انظر: "تفسير البسيط" المائدة: ٣.
(٣) رواه ابن جرير ٦/ ٨٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٠٨، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٢/ ٤٥٨.
(٤) لم أجده، وقد ذكر الرازي ١٦/ ٢٢٤ نحوه بلا نسبة.
(٥) لم أجده.
(٦) اهـ. كلام ابن الأعرابي، انظر: "تهذيب اللغة" (كاظ) ٣/ ٢٦٢٢، و"لسان العرب" (غيظ) ٦/ ٣٣٢٧.
(٧) ساقط من (ح).
(٨) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٦، عن ابن عباس مختصرًا، ولم أجد من ذكره عن الحسن.
(٩) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٤.