آيات من القرآن الكريم

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ

فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أسباب البراءة من المشركين وحكمة الأمر بقتالهم بعد مهلة الأربعة الأشهر: وهي أنهم نقضوا العهد، ولا يرعون في المؤمنين إلّا ولا ذمة أي حلفا وقرابة وعهدا وأمانا، ومخادعون يقولون بألسنتهم ما يرضي في الظاهر وقلوبهم تغلي حقدا وحسدا وكراهية، وأكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم، مما يوجب المبالغة في الذم، أي ناقضون العهد، وأنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، ومنعوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله: سبيل التوحيد والحق والخير، وأنهم معتدون، أي مجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد.
واستفيد من الآيات بالنسبة للمؤمنين: أن العهد المحترم عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه، ففي الحالين معاملة بالمثل، وأن مراعاة العهد وتنفيذ شروطه من تقوى الله التي يرضاها لعباده.
مصير المشركين إما التوبة وإما القتال
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١ الى ١٢]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
الإعراب:
فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم، خبر لمبتدأ محذوف.
أَئِمَّةَ مفعول به، جمع إمام، وأصله «أأممة» على أفعلة، فألقيت حركة الميم الأولى على الهمزة الساكنة قبلها، وأدغمت الميم الأولى في الثانية، وأبدل من الهمزة المكسورة ياء مكسورة.

صفحة رقم 121

لا أَيْمانَ لا نافية للجنس، وأَيْمانَ: اسمها، وهي جمع يمين، أي لا عهود لهم. وتقرأ بالكسر، أي لا إيمان، وهو مصدر بمعنى التصديق تأكيدا لقوله تعالى: أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وإما مصدر أمنته إيمانا من الأمن، لئلا يكون تكرارا لقوله: أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.
البلاغة:
فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وضع أئمة الكفر موضع الضمير، للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة والتقدم في الكفر، أحقّاء بالقتل. وقيل: المراد بالأئمة: رؤساء المشركين، فالتخصيص لأن قتلهم أهم وهم أحق به.
المفردات اللغوية:
وَنُفَصِّلُ نبين. يَعْلَمُونَ يتدبرون. نَكَثُوا نقضوا العهد، وأصل النكث:
نقض الحبل. أَيْمانَهُمْ مواثيقهم. وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ عابوه. أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رؤساء الكفر، فيه وضع الظاهر موضع الضمير. لا أَيْمانَ لا عهود. لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عن الكفر.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حال المشركين من أنهم لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، وينقضون العهد، ويضمرون النفاق، ويتعدون ما حدّ لهم، بيّن حالهم بعد ثبوت عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين: التوبة أو القتال.
التفسير والبيان:
هذا مصير الكفار المشركين بعد إعلان عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين:
أحدهما- التوبة الصادقة عن الكفر ونقض العهد والصدّ عن سبيل الله: أي إن تابوا عن شركهم بالله، وآمنوا بالله ربا واحدا لا شريك له، وأقاموا الصلاة، أي أدّوها بشروطها وأركانها باعتبارها عماد الدين، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم الدالة على التكافل بين المسلمين وصدق الاعتقاد، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في

صفحة رقم 122

الدين، لهم مالكم، وعليهم ما عليكم. ووصفهم بالإخوة دليل على أن أخوة الدين أعلى وأخلد وأقوى من أخوة النسب. واستحقوا هذا الوصف بالأمور الثلاثة المتقدمة المتلازمة مع بعضها: وهي التوبة عن الكفر ونقض العهد، والإنابة إلى الله والإيمان به، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وَنُفَصِّلُ الْآياتِ، أي نبين الأدلة والبراهين على وجودنا الحق، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما نبين لهم، فيفهمون ويتفقهون. وهذا اعتراض قصد به الحث على تأمل ما فصّل من أحكام المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
والثاني- القتال بعد نقضهم العهود: أي إن نقض هؤلاء المشركون ما أبرم معهم من عهود، وطعنوا في دينكم، أي عابوا القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واستهزءوا بالمؤمنين، كما كان يفعل شعراؤهم وزعماء الكفر فيهم، فهم أئمة الكفر وقادته ورؤساؤه، فقاتلوهم قتالا عنيفا، إنهم لا عهود لهم ولا ذمة لأنهم لما لم يفوا بها صارت كأن لم تكن، وذلك لتكون المقاتلة سببا في انتهائهم ورجوعهم عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال. وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإنسان.
فقوله: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين.
قال قتادة: أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وآخرين.
وليس المراد بالآية هنا هؤلاء لأنها لما نزلت، كان هؤلاء قد قتلوا في بدر.
وخصّ الأئمة والسادة منهم بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأعمال الباطلة.
وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام، فقد نكث عهده، وعلى أن القتال ليس بقصد المنافع الدنيوية أو الغنائم، أو إظهار الاستعلاء، وحب السيطرة، وإرادة الانتقام، وإنما هو من أجل التمكين من قبول دعوة الإسلام وما الحرب إلا ضرورة يقتصر فيها على قدر الضرورة.

صفحة رقم 123

قال ابن كثير: والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش، فهي عامة لهم ولغيرهم «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
حضت الآية على التوبة الصادقة عن الشرك والتزام أحكام الإسلام، وعلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا تفرقة بين هذه الأمور الثلاثة.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته، لا يشرك به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها، والله عنه راض».
فإن أعرض المشركون عن قبول دعوة الإسلام وطعنوا في الدين، استحقوا القتل والقتال، وأصبحت عهودهم لا قيمة لها وكأنها لم تكن. وربما كان القتال سبيلا لقبول الإسلام، والتخلص من الوثنية والشرك.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ على أن يمين الكافر ليست يمينا، قال البيضاوي: وهو استدلال ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ.
وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها، صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان: أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ولو لم يكن منعقدا، لما صحّ وصفها بالنكث.
واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدّين إذ هو كافر. والطعن: أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٣٩

صفحة رقم 124

ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه «١». وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يقتل من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمّة، وإنما يقتل بالحرابة والقتال.
وينتقض عهد الذمي إذا طعن في الدين في المشهور من مذهب مالك، وهو مذهب الشافعي لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ فأمر بقتلهم وقتالهم.
وقال أبو حنيفة: إنه يستتاب ويعزر، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النّكث «٢» لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما- نقضهم العهد، والثاني- طعنهم في الدين. ورد الجمهور بأن ذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا.
وإذا حاربنا الذمي نقض عهده، وكان ماله وولده فيئا معه.
وأكثر العلماء على أن من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمة، أو عرّض، أو استخف بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به، فإنه يقتل فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا.
ورأى أبو حنيفة والثوري أنه لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدّب ويعزّر. والحجة عليهما قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا الآية.
وقتل كعب بن الأشرف لإيذائه النبي وكان معاهدا.

(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٨٩٣
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٨٥

صفحة رقم 125
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية