
وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها.
والإسلام الذي يجيز سفر النساء فى الغزوات- وهن غير مكلّفات- بالقتال للمساعدة عليه بتهيئة الطعام والشراب وتضميد الجراح فهو بالأولى يجيز صحبتهن فى سائر الأسفار، وفى ذلك إحصان لكل من الزوجين ومنع لهما عن التطلع إلى الأجنبى.
وفسر بعضهم السياحة بالصيام لما
روى عن عائشة: «سياحة هذه الأمة الصيام»
لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبا.
(٥، ٦) (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) فى صلواتهم المفروضة، وخصا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل لله سبحانه.
(٧، ٨) (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الداعون إلى الإيمان وما يتبعه من أعمال البر والخير، والناهون عن الشرك وما بسبيله من المعاصي والسيئات.
(٩) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) أي الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بيّن فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه وما يحظر عليهم فعله منها، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين وأولى الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل فى أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلّوا بما يجب عليهم حفظه منها.
ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال:
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين المتصفين بهذه الصفات بخيرى الدنيا والآخرة.
وخصت تلك الخلال بالذكر لأن بها تكون المحافظة على حدود الله.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)

تفسير المفردات
الأوّاه: الكثير التأوّه والتحسر، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه، وقيل إنها كلمة حبشية الأصل، ومعناها المؤمن أو الموقن، وأصل التأوه: قول أوه أو آه أو نحوهما مما يقوله الحزين أو أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها، وآه بالكسر منونا وغير منون، والحليم: الذي لا يستفزه الغضب ولا يعبث به الطيش ولا يستخفه هوى النفس، ومن لوازم ذلك الصبر والثبات والصفح والتأنى فى الأمور واتقاء العجلة فى الرغبة والرهبة
المعنى الجملي
كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين فى جميع الأحوال، وهنا بين أنه يجب البراءة من أمواتهم وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه وهو وعده بالاستغفار بقوله «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» فلما أصرّ على كفره تبرأ منه، وبعدئذ بين رحمته بعباده وأنه لا يعاقبهم على شىء إلا بعد بيان شاف لما يعاقبون عليه.
أخرج أحمد وابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي ﷺ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية، فقال: «أي عمّ قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
فلم يزل رسول الله ﷺ يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وأنزل الله فى أبى طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ»
وقد كان موت أبى طالب بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ومن ثم استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت فى أبى طالب، وأجاب آخرون بأن الذي حصل قد يكون أحد أمرين:
(١) إنها نزلت عقب موته ثم ألحقت بهذه السورة المدنية لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.
(٢) إنها نزلت مع غيرها من براءة مبينة لحكم استغفار الرسول ﷺ له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية يستغفر لأبى طالب، فإن التشديد على الكفار، والبراءة منهم إنما جاء فى هذه السورة وفى الآية إيماء إلى تحريم الدعاء لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك كقولهم المغفور له والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبى هريرة قال: «أتى رسول الله ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربى أن أستغفر لها فلم يأذن لى، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لى فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت».
الإيضاح
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) أي ما كان من شأن النبي ولا مما ينبغى أن يصدر منه من حيث هو نبىّ، ولا من شأن المؤمنين، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين.
(وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم، وكانت عاطفة القرابة تقتضى الحدب والإشفاق عليهم.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار، بأن ماتوا على الكفر، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» ؟.
وخلاصة ذلك- إن النبوة والإيمان الصادق لا يبيحان الاستغفار للمشركين فى كل حال، حتى ولو كانوا أولى قربى إذا ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب الجحيم.
ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه فقال:
(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي وما استغفر إبراهيم لأبيه آزر بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي وفّقه للإيمان واهده إلى سبيله- إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله: «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي» أي لا أملك لك هداية ولا نجاة، وإنما أملك أن أدعو الله لك.
وقد وفّى إبراهيم بما وعد، ولم يكن إلا وفيا كما شهد الله له بقوله: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى».
(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه، قال ابن عباس، وقيل تبين له ذلك بوحي من الله فتبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى:
«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ» الآية.
ثم بين السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه مع شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» فقال:

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) أي إن إبراهيم لكثير المبالغة فى خشية الله والخضوع له، صبور على الأذى والصفح عن زلّات غيره عليه.
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) أي وما كان من سنن الله فى خلقه ولا من رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال ويجرى عليهم أحكامه بالذم والعقاب بعد إذ هداهم إلى الإيمان، وشرح صدورهم للإسلام- بقول يصدر منهم عن غير قصد أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطئ.
(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من الأقوال والأفعال بيانا واضحا بوحي صراحة أو دلالة.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بجميع الأشياء، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع، حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم فى استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم وأولى القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله تعالى.
ولما منعهم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى، وذلك يستدعى التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد- بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي إنه تعالى مالك كل موجود، ومتولى أمره فى السموات والأرض، وهو الذي يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه فى التكوين، ويميت من يشاء حين انقضاء أجله، وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم، ولا من ينصركم على عدوكم غير الله تعالى، فلا تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولى القربى الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوى الأرحام، ولا فى غير ذلك من أوامره ونواهيه.