آيات من القرآن الكريم

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۚ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ

على سبيل سؤال التقرير، وجعل جوابه مسكوتا عنه لوضوحه، أي ليس هذا كمن أسس بنيانه على قواعد محكمة وقصد به تقوى الله ورضوانه، فلا شك أنه خير وأحكم ممن يؤسس بنيانه على ما ذكر، ولم يقصد به إلّا مناوأة الله ورسوله والمؤمنين طلبا لمرضاة الفاسق المذكور، ومن كان هذا شأنه فإن عاقبته النار لا محالة، وعاقبة الآخر محبة الله ورسوله، والحصول على رضوانهما ودخول الجنّة. قال تعالى مشددا في حزنهم وكآيتهم على ما فعلوا وقعدوا «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ» كالحزازة تحوك في صدورهم لعظم جرمهم. والإثم حزاز القلوب لكثرة تردده فيها وسيبقي كذلك، «إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ» كمدا فيموتوا على غيظهم وغدرهم وحدهم وحسرتهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بنيتهم في بنائه، ولذلك فضحهم على لسان رسوله وأصحابه بسبب بغضهم لهم «حَكِيمٌ» (١١٠) بحكمه عليهم فيما ذكر جزاء جرأتهم على الله ورسوله.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» في هذه الدّنيا «أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة بدلا منها، ثم بين هذه المبايعة بقوله «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بأموالهم وأنفسهم «فَيَقْتُلُونَ» أعداءه وأعداءهم «وَيُقْتَلُونَ» في طاعته وطاعة رسوله ابتغاء مرضاته. قال كعب بن زهير:

لا يفرحون إذا نالت رماحهم قوما وليسوا مجازيع إذا نيلوا
لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم وما لهم من حياض الموت تهليل
وكان قائلهم يقول ما قاله الشّريف الرّضي:
ونحن النّازلون بكل ثغر نريق على جوانبه الدّماء
ونحن اللابسون لكل مجد إذا شئنا ادّراءا وارتداء
ولو كان العداء يسوغ منا لسنا النّاس كلهم العداء
وقال حافظ ابراهيم المصري في هذا المعنى:

صفحة رقم 487

شمّر وكافح في الحياة فهذه دنياك دار تناحر وكفاح
وانهل مع النّهال من عذب الحيا فإذا رقا فامتح مسح المتّاح
وإذا ألحّ عليك خطب لا تهن واضرب على الإلحاح بالإلحاح
وخض الحياة وإن تلاطم موجها خوض البحار رياضة السّبّاح
هكذا كانوا، وخلف من بعدهم خلف يريدون الأمور بالتمنّي، وقد ردّ عليهم أمير الشّعراء أحمد شوقي المصري بقوله:
وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدّنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا
فيا رب وفق أمتك للحزم واجمع كلمتهم على العزم لاسترداد عزتهم ويا رسول الله إنا نتوسل بك إلى ربك أن يتبعوا طريقك ويلازموا خطتك وأنت المجاب الدّعوة الذي كلّمت أقلام البلغاء ونطق الفصحاء بمدحك ومنهم شوقي القائل في قصيدته النبوية التي عارض فيها الهمزية:
فرسمت بعدك للعباد حكومة لا سوقة فيها ولا أمراء
الله فوق الخلق فيها وحده والنّاس تحت لوائها أكفاء
والدّين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء
وأمثال هؤلاء قد وعدهم الله الجنّة «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» منجرا نافذا مثبتا في في اللّوح المحفوظ بعلم الله الأولي ليس محسنا، ولهذا فإنا أثبتناه «فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ» وهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الجهاد مأمور به في جميع الشّرائع، وأن الله تعالى قد عاهد المجاهدين على ما ذكره فيها كما عاهد المؤمنين في هذا القرآن عليه «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» أخبروني أيها الناس والجواب عن هذا الاستفهام (لا أحدا البتة) فإذا عرفتم هذا العهد الموثوق أيها المجاهدون الصّادقون «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ» ربكم الذي أعطاكم هذا الوعد وهو لا يخلف الميعاد، وتكفل لكم بهذا القول، ومن أصدق من الله قيلا، وحدث به رسولكم عنه ومن أصدق من الله حديثا.
«وَذلِكَ» الحصول على ما وعد الله به المجاهدين «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١١١) وهذا جاء مجرى التلطف من الله في الدّعاء إلى طاعته والترغيب إلى جهاد عدوه، لأنا مملوكون لله تعالى، والمشتري لا يشتري ما يملك، ولم يقل جل قوله إن الله

صفحة رقم 488

اشترى من المؤمنين قلوبهم مع أنها الأصل ومحل الإيمان، لأنها ليست بأيدي عباده، فالقلب بيت الرّحمن وهو بين إصبعيه يقلبه كيف يشاء، ولأن الإنسان لا يصحّ له أن يبيع ما لا يملك كما لا يصحّ له أن يبيع طيرا بالهواء أو حوتا في الماء، قال تعالى «التَّائِبُونَ» من الكفر والنّفاق والبغي والعصيان «الْعابِدُونَ» الله تعالى بإخلاص جهد المستطاع بالسر والإعلان «الْحامِدُونَ» ربهم على السّرّاء والضّراء الرّاضون بما أنعم عليهم المنان «السَّائِحُونَ» في الأرض المتفكرون بما أبدعه الله من الخلق وإلى طلب العلم والتهذيب النّفسي وإلى الجهاد في في سبيل الملك الحنان «الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ» في إقامة الصّلوات في أوقاتها المحافظون على أركانها المراعون شروطها، وعبر بالركوع والسّجود عن الصّلاة لأنهما معظمها واختصاصهما بها لله تعالى بخلاف القيام والقعود والقراءة «الْآمِرُونَ» أنفسهم وغيرهم «بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» راجع بيانها في الآية (١١١) من سورة البقرة المارة، وأدخلت الواو هنا لأن العرب تعتبر السّبعة عددا تاما فنعطف عليه ما بعده، راجع الآية ٤٣ من سورة الكهف في ج ٢ فيما يتعلق بهذا والقرآن نزل بلغتهم «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» فلم يتجاوزوا شيئا منها ولم يتعدوا ما حده لهم، فهؤلاء المتصفون في هذه الصّفات العالية هم المؤمنون «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (١١٢) أمثال هؤلاء بأن لهم الجنّة عند ربهم كالغزاة المار ذكرهم إذا لم يقصدوا بتركهم الغزو مطلق الرّاحة أو كلا عنه أو مخالفة لآمرهم أو رغبة عنه. قال تعالى «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» الّذين ماتوا على شركهم، أما الأحياء من الكفرة فيصح الدّعاء لهم بالهداية، ويجب إرشادهم للايمان «وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى» لهم فلا يجوز الاستغفار لهم، ولا ينبغي فعله «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (١١٣) بتحقق موتهم على الكفر بحسب الظّاهر، وعليه فلا يصح ولا يستقيم الدّعاء لهم شرعا، اما قبله فلا بأس بل هو مطلوب لقوله صلّى الله عليه وسلم لأن يهد الله بك رجلا خير لك من حمر النّعم وجعل بعض المفسرين نزول هذه الآية في أبي طالب حين قال له صلّى الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك،

صفحة رقم 489

مع أن أبا طالب رحمه الله توفي في مكة السّنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين كما أشرنا في الآية ٢٦ من الأنعام في ج ٢، وهذه السّورة من آخر القرآن نزولا فلا يستقيم نزولها فيه، على أنه لا يستبعد أنه صلّى الله عليه وسلم كان لا يزال يستغفر له من وفاته إلى نزول هذه الآية كلما جاء ذكره أو تذكر موافقه وشدة حرصه عليه وزيادة محبته له وتوسمه الخير فيه حال حياته لعظيم حقه عليه ولا يراد أنها عقب قوله لاستغفرت لك إلخ، بل المراد أن هذا هو سبب النّزول فلذلك لا يصح. وما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب صار يبكي عليه ولم يخرج من بيته حتى نزلت هذه الآية، فهو قول وامر لا يعتد به ولا يلتفت إليه، لأن بين وفاته ونزول هذه الآية ما يزيد على اثنتي عشرة سنة، ويبعد عليه صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك، وحاشاه، ولذلك فإن غالب ما ينقله بعض النّاس عن أهل البيت في هذا الصدد لا صحة له أيضا، لأنهم يعلمون أنه مات مؤمنا وينقلون في أخيه العباس أنه سمعه نطق بالشهادتين في آخر رمق من حياته علنا.
مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:
ومما يدل على إيمانه سر الأبيات التي نقلها عنه أهل بيته وغيرهم في مدح ما علمه حضرة الرّسول وهي:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البريّة دينا
الأبيات المارة في الآية ٥٧ من سورة القصص ج ١ لأن قوله فيها:
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك قمينا
أي مجاهرا به على رؤس الأشهاد وما أخفيته، مما يدل على أنه مؤمن فيما بينه وبين ربه، لا أنه سرّ أخاه العباس بالإيمان خفية عن قومه، بل اعترف له بالإيمان قبل وفاته وأن الذي نزل في أبي طالب هو قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية المذكورة في سورة القصص. والصّحيح في هذا أن المسلمين لما رأوا رسول الله يستغفر لوالديه وجده عبد المطلب صاروا يستغفرون لموتاهم

صفحة رقم 490

المحقق موتهم على الكفر، فأنزل الله هذه الآية ينهاهم بها عن الاستغفار لهم. ثم أنه تعالى أجاب عما وقع في قلوبهم من استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه وقالوا إذا كان إبراهيم يستغفر فلماذا لا نستغفر لموتانا، لأنهم ووالد ابراهيم في الكفر سواء بقوله عز قوله «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ» بأن يؤمن به لا عبثا ولا قصدا مع العلم ببقائه على كفره ولا عن شيء آخر. وقرأ بعضهم أباه بالباء الموحدة ومنهم الحسن، ولكن لا عبرة بها لأن كلّ ما هو مخالف لما في الصّحف لا يلتفت إليه، لأنه على هذه القراءة يكون إبراهيم الذي وعد بالاستغفار، والحال أن أباه هو الذي وعده بالإيمان، ولذلك صار يستغفر له على أمل إيمانه دون وعد منه بل لحق الأبرة. وما قيل إن ابن المقفع صحف ثلاثة أحرف بالقرآن العظيم هذه الياء بالباء، وعين عزّة وشقاق الآية الثانية في سورة ص ج ١ بالغين المعجمة والرّاء بدل الزاي، فتصير (غرّة) وغين (يغنيه) من قوله تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآية ٣٨ من سورة عبس في ج ٢ بالعين المهملة، فيصير (يعنيه، فقيل كذب، ونقل زور، وكلام بهت لا يلتفت إليه إلّا ضعيف اليقين قليل العقيدة بالله تعالى الذي تعهد بحفظ كلامه من التبديل والتغيير، راجع الآية ١٠ من سورة الحجر المارة في ج ٢ وما ترشدك إليه في المواضع. ومن هذا ابن المقفع حتى يجرؤ على ذلك وهو في أهل زمن لا يجرؤ أن ينبس بنبت شفة على كتاب الله تجاه أهله الذي أجمعت عليه الأصحاب بعد رسول الله، والتابعين من بعدهم، واقتفى أثرهم اجماع علماء الأرض، فلو حدثته نفسه بذلك هل يقرونه عليه؟ كلا، بل لقطع منه الحلقوم، وهذا القرآن كما بيناه في الآية المذكورة من الحجر وفي مواضع أخرى مبينة فيها أن جميع ما بين الدّفتين الموجود الآن هو كلام الله تعالى بتمامه وحروفه كما أنزله لم ينقص منه حرف، ولم يزد فيه حرف، ولم يبدل منه حرف واحد أبدا، راجع تفسير آخر سورة الأحزاب المارة وما ترشدك إليه، وفي المقدمة في بحث نزول القرآن تجد ما تكتفي به. وهذا الاستثناء في الآية هذه مفرّغ من أعم العلل أي ما كان استغفار ابراهيم عبثا ولا لعبا ولكن عن موعدة من أبيه

صفحة رقم 491

له بالإيمان به وبربه ولذلك استغفر له عما سلف منه إذا هو آمن «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ» مصر على كفره به. وهذا العلم جاء لابراهيم بطريق الوحي من ربه عز وجل أو الإلهام أو بواسطة الملك «تَبَرَّأَ مِنْهُ» وهذا يدل دلالة صريحة على صدور الوعد من آزر لابنه ابراهيم بالإيمان بالله وحده كما يفهم من نسق الآية وسياقها لا من ابراهيم له بالاستغفار، لأن وعد ابراهيم له كان بعد ذلك ولهذا علّفه على إيمانه، قال تعالى حكاية عن خليله ابراهيم عليه السلام (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) الآية ٤٦ من سورة مريم في ج ١ كما أيده الله تعالى في هذه الآية المفسرة ثم أكد ما كان عليه عليه الصّلاة والسّلام من الخلق الكريم بقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) كثير التأوه فرقا من ربه جليل الخوف خشية منه رقيق القلب خاشع خاضع متضرع «حَلِيمٌ» (١١٤) صفوح عن الأذى صبور على البلاء لا يقابل أحدا بما يكره، ولا السّيئة بالسيئة، بل يعفو ويكظم يقول له أبوه لأرجمنك ويقول له السّلام عليك الآية ٤٨ من مريم في ج ١ وقد تأسى نبينا صلّى الله عليه وسلم بكل أخلاق الأنبياء قبله كما أعطي معجزاتهم كافة، وكان من كرم خلقه العفو والسّفح، ولذلك جاء الإسلام وسطا في الأخلاق بين الأفراط والتفريط، والتقريب بين المثل الأعلى والواقع، وانسجام بين العقل والغريزة التي هي قوة مع رحمة، وحكم مع عدل، وتواضع مع عزّة، ومساواة مع
تسامح، وتشاور مع عزم، ولين مع حزم، راجع الآية ١٦١ من آل عمران تجد ما يتعلق بهذا، قال تعالى «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً» بسبب استغفارهم لمشركين «بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ» للايمان، وسبب نزول هذه الآية هو أن الله تعالى لما نهى المؤمنين عن الاستغفار لآبائهم المشركين خافوا عاقبة ما صدر منهم وصاروا يضربون أخماسا بأسداس على ما فرط منهم، فأنزل الله هذه الآية تطمينا لهم بعدم المؤاخذة وتطبيبا لخواطرهم، وإعلاما بأن ما وقع منهم لا يضرّهم ولا يعاقبهم الله عليه، لصدوره قبل النّهي بتأويل منهم، وحاشا رحمة الله أن يعذب قبل أن ينهى أو يريد قبل أن يأمر بالنسبة للظاهرة، ولهذا ختم هذه الآية بقوله «حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (١١٥) الخوض فيه وما يستحبونه

صفحة رقم 492

فكل ما وقع منهم قبل البيان لا يؤاخذون عليه، أما بعده فمفوض لمشيئة الله تعالى ولهذا يتقدم لهم بالإنذار والإعلام حتى لا تبقى لهم معذرة إذا اقترفوا شيئا مما نهوا عنه بعد البيان فيؤاخذوا عليه ويعاقبوا، وحاشا أصحاب رسول الله من الاقدام على شيء نهاهم الله عنه أو كرهه لهم «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (١١٦) قبل ظهوره لخلقه علما حقيقيا لا كعلم السّحرة والكهنة الصّورى والمموّه الكاذب فإنه لا يلتفت إليه، قال:

دع المنجم يكبو في ضلالته إن ادعى علم ما يجدي من الفلك
تفرد الله بالعلم القديم فلا إنسان يشركه فيه ولا الملك
أعد للرزق من أشراكه شركا وبئست العدتان الشّرك والشّرك
فالعلم الذي هو العلم لا ينسب إلّا إلى الله العالم بكل شيء، ومن علمه هذا ما خالطته نفوس أصحاب رسول الله من الخوف عما صدر منهم ما ثلج صدورهم بما أنزله في هذه الآية وأزال ما كان يتردد فيها. هذا وإن ما قاله الكلبي ومقاتل بأن قوله تعالى (حَتَّى يُبَيِّنَ) إلخ نزلت في أمر النّاسخ أي حتى يتبين لهم المنسوخ بالناسخ وذلك أن هناك أشياء كثيرة كانت عندهم قبل الإسلام يعدونها حلالا ولا بأس بها، منها ما ابتكروها ابتكارا من عند أنفسهم، ومنها ما تلقوها عن أسلافهم فقلدوهم فيها ومنها ما اقتفوا بها آثار أهل الكتابين كوأد البنات، وقتل غير القاتل وشرب الخمر، ومنع النّساء من الإرث، وكذلك الأولاد والصّغار، وتحريم السوائب، والوصائل وتحليل أكل بعض الحيوان للرجال دون النّساء، وغيرها ما ذكر الله في سورة الأنعام والمائدة والبقرة وغيرها، ومن هذا القبيل توجه الإسلام في الصّلاة إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس، أي ما كان الله ليبطل أعمالكم بالنسوخ حتى تبين لكم نزول النّاسخ فتعملوا به، وهذا لعمري بعيد عن الصّحة، لأن هذه الآية عامة وكثير مما نهوا عنه لم ينزل فيه ناسخ، ولم يكن النّاسخ إلا عن شيء نزل قيل بكتاب سماوي فلا يشترط له النّاسخ، لأن النّسخ معناه نسخ نص سابق بنص لا حق ولا يوجد فيما اعتادوه قبل الإسلام نص سماوي، لذلك لا يلتفت لهذا القول، ولا يعقل قول المؤمى إليها به. وعلى كلّ فلا قيمة له ولا

صفحة رقم 493

عبرة به، تأمل، وراجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة تقف على ذلك.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يأمر من فيهما بما يشاء وينهى عما يشاء لا يقيد شيء دون آخر في كلّ ما فيهما وما بينهما وما فوقهما وتحتهما «يُحْيِي وَيُمِيتُ» من فيهما ويغني ويفقر ويعظم ويحقر، لا راد لما يريد، ولا معطى لما منع «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أيها النّاس قويكم وضعيفكم «مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم غيره «وَلا نَصِيرٍ» (١١٦) يمنعكم منه أو يحول دون إرادة ما قدر إيقاعه فيكم لأن مقدراته نافذة عليكم بآجالها لا تقدم ولا تؤخر ثم أنزل جل إنزاله ما يتعلق بالمتخلفين الصّادقين والثلاثة الآتي ذكرهم، فقال جل قوله «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» وقت غزوة تبوك المار ذكرها لما فيها من بعد الشّقة وقلة السّلاح والرّكوبة فضلا عن أنها كانت زمن الحرّ والجدب «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» على الثبات مع حضرة الرّسول لتلك الأسباب واشتداد الضنك حتى كان العشرة منهم يتعاقبون على الرّاحلة الواحدة في الرّكب وفي الزاد حتى كان الرّجلان يقتسمان التمرة وفي الماء حتى شربوا عصير كروش الإبل وفي الزمن حتى كان الجماعة يظللون أنفسهم بعباءة واحدة من هجير الشّمس، وفي المكان من البعد حتي شارف بعضهم على الهلاك من التعب قيل الوصول المرحلة وفي كلّ شيء في هذه الغزوة عسر ومشقة وقلة لم يلاقوها في جميع غزواتهم، ولهذا سميت غزوة العسرة وامتحن فيها من امتحن فنجى من نجى بحسن نيته وهلك من هلك بسوئها «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» وتجاوز عن زلتهم وخطئهم، وعفا عمّا همّ به بعضهم من ترك الرّسول والتخلي عنه وما اعتراهم من الضّجر، وإنما كرر فعل التوبة لزيادة التأكيد والتطمين لهم بالصفح عما وقع منهم كله من قول وفعل ونية وهم وعزم «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (١١٧) لأنهم من خلص عباده فرأف بهم ورحمهم ودفع عنهم ما لا يطيقون بكرمه وحنانه، ودفع عنهم ما عجزوا عنه بمنه ولطفه وتاب عليهم برده وعطفه. والفرق بين الرّأفة والرّحمة أن الرّجل قد يرحم من يكرهه ولا يرأف به، فالرحمة عامة، والرّأفة خاصة بمن يحب.

صفحة رقم 494

والمراد من توبته على حضرة الرّسول لاقدامه على أمرين في هذه الغزوة لم يتلق فيها شيء من ربه، الأوّل أذنه المنافقين بالتخلف الذي عاتبه عليه في الآية ٢٣ المارة بقوله (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) الآية، الثاني توبته على المهاجرين والأنصار بما وقع في قلوبهم من الميل إلى التخلف في هذه الغزوة ولما وقع في قلوب بعضهم بأنهم عاجزون عن قتال الرّوم، مع أنهم كانوا سبعين ألفا ذهب منهم مع حضرة الرّسول ثلاثون ألفا فقط كما تقدم في القصة عند تفسير الآية ٤٦ المارة وقد ورد أن الجيش إذا بلغ اثني عشر ألفا لا يغلب عن قلة، وكلاهما من باب ترك الأفضل، فلا يعد ذنبا كما بيناه في الآية ٦٧ المارة في سورة الأنفال، فتكون الأمور التي فعلها حضرة الرّسول طيلة حياته دون وحي ربه هي ثلاثة فقط (هاتان وقبول الفداء) في أسرى بدر المار ذكرها في الآية ٦٧ المارة آنفا من الأنفال. هذا وقد أظهر الله على يد رسوله في هذه الغزوة معجزات كثيرة، منها ما ذكر في القصة المارة في الآية ٤٦ ومنها فيما بعدها في هذه السّورة، ومنها ما أسنده الطّبري عن عمر رضي الله عنه قال إن أبا بكر قال يا رسول الله إن الله عوّدك في الدّعاء خيرا فادع الله أن يعطينا ماء، وذلك لشدة ما لحقهم من الظّمأ، قال أتحب ذلك؟
قال نعم، فرفع يديه صلّى الله عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل الله سبحانه وتعالى سبحانه فمطرت فملأوا ما معهم من الأدلية، ثم ذهبنا ننتظر فلم نجدها جاوزت المعسكر. قال تعالى «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» تاب الله عليهم أيضا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الرّبيع الأنصاريّون، وهم المعنيون بقوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) الآية ١١٦ المارة، وهذه الآية معطوفة على الآية الأولى، أي لقد تاب الله على النّبي إلخ وعلى الثلاثة إلخ وفائدة هذا العطف هو أن ما ذكر من ضم توبته إلى توبة الرّسول كان دليلا على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النّبي صلّى الله عليه وسلم وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» من شدّة الحزن والهم والغم والجفوة «وَظَنُّوا» تيقنوا وتحنقوا مما رأوا من عدم الالتفات إليهم «أَنْ

صفحة رقم 495

لا مَلْجَأَ»
لهم يلجأون إليه «مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» وحده لا أحد ينجيهم مما هم فيه إلّا هو تعالى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» ورحمهم لعلمه بصدق نيتهم فيما سبق في علمه الأزلي وعطف عليهم بقبول التوبة «لِيَتُوبُوا» في المستقبل عما يصدر عنهم كما يتوبوا عما صدر منهم قبلا فيكونون في كلّ أحوالهم تائبين وينيبون لجلال ربهم عن صدق واخلاص ونصح وحسن نية ويرجعوا إلى ربهم وطاعة رسولهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ» على عباده الرّاجعين إليه المنان عليهم من فضله «الرَّحِيمُ» (١١٨) بهم وإن ذكر صفة الرّحيمية بعد صفة التوابية يشير إلى أن قبول التوبة لأجل محض الرّحمة والكرم والفضل لأجل الوجوب عليه إذ لا واجب على الله لعبيده سواء في توبتهم أو في أعمالهم وأقوالهم. وفي هذا يعلم عدم وجوب قبول التوبة على الله. والتضعيف في الثواب يدل على المبالغة أي أنه تعالى إذا شاء قبول توبة العبد عفا عن ذنوبه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر، كما ورد بذلك الخبر إذ له أن يتجاوز عنها ولو كانت من أنواع الجنايات وأعظمها، فهو الجواد على عباده بفنون الآلاء مع استحقاقهم أفانين العذاب. وخلاصة القصة هو ما جاء في الحديث المروي عن ابن شهاب الزّهري عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب قال سمعت كعبا يقول إني لم أتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا في غزوة تبوك، وقد طفقت أتجهز ولم أزل أتمارى حتى غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون، ويحزنني أن أرى لي أسوة (أي من المتخلفين) عن حضرة الرّسول إلا رجلا مغموصا بالنفاق أو ممن غدر الله، ولم يذكرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برؤه والنّظر في عطفه، قال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا، قال كعب فلما بلغني قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم طفقت أقول بم أخرج من سخطه وقد استعنت بكل ذي رأي من أهلي حتى عرفت إني لم أنج بشيء أجمعت صدقه فجاء المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئت، وجلست بين يديه فقال ما خلفك قلت يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك لرأيت إني سأخرج من سخط بعذر لند أعطيت جدلا (قوة) في الحجة وشدة في البرهان وبراعة في الدّليل

صفحة رقم 496

بحيث لا أغلب في المناظرة) ولكن علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به مني ليوشكن أن يسخطك علي ولئنّ حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه اني لأرجو فيه عفو الله والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلّى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ثم قلت هل لقي هذا أحد معي قالوا رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك مرارة بن الرّبيع العامري وهلال بن أمية الوافقي صالحان شهدا بدرا ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة فتغيروا علينا حتى تنكرت لنا الأرض فلبثنا على ذلك خمسين يوما وليلة فأما صاحباي فاستكانا
وقعدا يبكيان وأما أنا فأشهد الصّلاة وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسلم عليه في مجلسه فأقول في نفسي هل حرّك شفنيه برد السّلام اللهم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النّظر أي أطلب غفلة منه لأنظر إليه وأرى هل ينظر إلي أم لا، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا ألتفت نحوه أعرض عني حتى طالت على جفوة المسلمين فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادة فسلمت عليه فو الله ماره علي السلام فقلت أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله وكررت عليه مرارا فقال الله ورسوله أعلم فقاضت عيناي وتوليت فبينا أنا في سوق المدينة إذ بنبطي من أهل الشّام دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه [أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله يدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك] قال فقلت وهذه أيضا من البلاء فتيممت به التنور فسجرته به (وهذا من كمال إيمانه رضي الله وإلّا لكان هذا الكتاب مما يهون عليه مصابه وبالخاصة أنه من ملك غسان لو أبقاه تلاه كلما ضاق ذرعه ولتبجح به بين النّاس) قال رضي الله عنه حتى إذا مضت أربعون يوما من الخمسين واستلبث الوحي أرسل رسول الله يأمرنا أن نعتزل نساءنا فقلت لامرأتي الحقي بأهلك حتى يقضي الله قال ثم صليت صبح الخمسين ليلة فبينا أنا جالس على الحال التي ذكرها الله سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا لله تعالى وعرفت أن قد جاء الفرج وأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا فذهب النّاس يبشرونني ورفيقاي فكسوت البشير

صفحة رقم 497

ثوبي ثم انطلقت إلى رسول الله والنّاس يتلقونني فوجا فوجا يهئنؤنني فلما وصلت سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصليت أمامه فقال أبشر بخير يوم مر عليك قد قبل الله توبتك وتوبة رفيقيك فقلت يا رسول الله إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة الله ورسوله فقال أمسك عليك بعض مالك فقلت يا رسول الله إنما أنجاني الله بالصدق وأن من توبتي أن لا أحدث إلّا صدقا ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الآيات النازلة فينا لقد تاب الله إلى الرّحيم وهذه هي التوبة الصّحيحة.
مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:
فقد سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النّصوح فقال هي أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه وهذه نتيجة الصّدق الذي هو قوام أمر الخلق، لأن الكذب لا ينجي، وهو داء عضال لا ينجو من نزل به، ومن صنف الكذبة الحمقى، فإن الأحمق ضال مضل إن أونس تكبّر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلّف. مجالسته مهينة، ومعاتبة محنة، ومجاورته تعرّ، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شتاء. هذا ومن المتخلفين من ندم فلحق به صلّى الله عليه وسلم، ومنهم من بقي وساوره النّدم، قال الحسن رضي الله عنه: بلغني أنه كان لأحدهم حائط خير من مائة ألف درهم، فقال:
يا حائطاه ما خلفني إلّا ظلك، وانتظار ثمارك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلّا أهله، فقال: يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلّا التفتن بك، فلا جرم والله لأكابدن الشّدائد حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم: فتأبط زاده ولحق به عليه الصّلاة والسّلام ورضي عنهما، وعن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماشيا، فقال عليه الصّلاة والسّلام لما رأى سواده كن أبا ذر، فقال النّاس هو ذاك يا رسول الله، فقال رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده. وكانت الأوليان وستكون الثالثة يوم البعث إن شاء الله تصديقا لحضرة الرّسول الصّادق صلّى الله عليه وسلم راجع الآية (٣٥) المارة

صفحة رقم 498

تجد ذكره، وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظّل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرّطب والماء البارد، فنظر فقال ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضّح والرّيح؟ ما هذا بخير فقام ورحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفه إلى الطّريق، فإذا براكب يزهاه السّراب، فقال كن أبا خيثمة فكان، ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستغفر له. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» لا تخالفوه أبدا واعملوا بأوامره ما استطعتم، واجتنبوا نواهيه كلها «وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (١١٩) المخلصين له المتوكلين عليه صادقين في إيمانكم وعهودكم ووعودكم، صادقين في دين الله في أمركم ونهيكم فعلا وقولا ونية، صادقين في كلّ شؤونكم، قائمين بالحق حتى يكون عقدة راسخة في قلوبكم مستقرة في أعماق نفوسكم تحبون لإخوانكم ما تحبون لأنفسكم، فتكونوا صفا واحدا جنبا إلى جنب فتنجحوا في كلّ أموركم كما نجح من قبلكم بتوغلهم في معاني كتاب الله، فصاروا أمة متفقة، وكان كلّ منهم بمثابة أمة، كما قال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) قلده السّلف الصّالح منكم فكانوا مثلهم، فإذا أردتم الفوز في الدّنيا والآخرة كونوا مثلهم لإعلاء كلمة الله تنجحوا في الدّارين. قال ابن عباس: الخطاب في هذه الآية لمن آمن من أهل الكتاب، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار وانضموا في سلكهم في الصّدق وبقية المحاسن كلها. على ان الآية عامة فيهم وفي غيرهم، والمراد بالصادقين عند نزول هذه الآية حضرة الرّسول وأصحابه، لأنه تعالى لما حكم بقبول توبة الثلاثة المذكورين أعقبها بما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى من المتخلفين عن رسول الله، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) في مخالفة أمر رسولكم لا تعيدوها أبدا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) هو وأصحابه وساووهم، لا تفضلوا أنفسكم عليهم فتتخلفوا عن الجهاد معه، وتكونوا مع المنافقين، واحذروا مرافقة الكذبة فإن الكذب من أسوأ الرّذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة، وقد جاء في الخبر لا مروءة لكذوب. وقال تعالى (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) الآية ١٠٦ من سورة النّحل

صفحة رقم 499

المارة في ج ٢، لأن المراد بالكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوانات إخبار الغير عمّا لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق لم تحصل فائدة النّطق، وقد حصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشّيطان، فالكاذب إذا شيطان، وكما أن الكذب من أقبح الرّذائل فالصدق من أحسن الفضائل وأحلى كلّ حسنة، ومادة كلّ خصلة محمودة، وملاك كلّ خير وسعادة، وعنصر الرّضاء، وبه يحصل كل كمال وأصل الصّدق الصّدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق العظمة.
قال تعالى (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية ٢٤ من سورة الأحزاب المارة، أي في عقد العزيمة ووعد الخليفة. قال تعالى (إِنَّهُ) أي إسماعيل عليه السلام (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ)
الآية ٥٥ من سورة مريم المارة في ج ١، فإذا روعي الصّدق في المواطن كلها حتى الخاطر والفكر والنيّة والقول والعمل أدّى ذلك إلى اتصافه بالصدق الخالص، حتى ان مناماته. ووارداته على قلبه تصدق بإذن الله تعالى. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنّة، وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النّار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا. وانظر ما قال تعالى حكاية عن إبليس (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية ٨٤ من سورة ص في ج ١ فإنه إنما ذكر الاستثناء لئلا يكذب، لأنه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادّعاء إغواء الكل، فكأنه استنكف عن الكذب ليكون صادقا في حلفه.
فإذا كان إبليس يستنكف عن الكذب، فالمسلم من باب أولى أن يستنكف عنه.
وتدل هذه الآية الجليلة عل أن إجماع المسلمين يجب الخضوع له، لأن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بالكون معهم، لأن ملازمة الصّادقين تؤثر في من يلازمهم فيكتسب منهم الصّدق وما يتشعب منه كالنصح والإخلاص والأمانة والأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة، لأن المجالسة تفيد اكتساب ما هو الأحسن عند المجالس، ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم مجالسة العلماء، والقصد من الرّابطة عند السّادة الصّوفية هي تعلق الرّابط بأحوال وصفات المرابط والمحبة له والكون معه، لأن الكون مع الصّادق له تأثير

صفحة رقم 500

عظيم، وقد أمرنا بالمحبّة، قال تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الآية ٣١ من آل عمران المارة. إذا فالاتباع له تأثير عظيم أيضا في المتبوع راجع الآية ٣٤ من سورة المائدة المارة تجد ما يتعلق في هذا البحث فيلزم من هذا وجوب اتباع أمر الرّسول وقبوله والأخذ بما تجمع عليه أمته، لأن المسلمين لا يجتمعون على ضلالة، راجع الآية ١١٥ من سورة النّساء المارة، ولهذا جعل السادة الصّوفية الرّابطة شرطا من شروطهم ويلقنونها للمريد كما يلقنونه الذكر المتعارف عندهم بعدده وأوقاته وكيفياته. قال تعالى «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ» بأن يختاروا لها الخفض في العيش والدّعة والرّاحة «عَنْ نَفْسِهِ» الطاهرة، فليس لهم أن يضنوا بأنفسهم ويكرهوا لها ما يصيب نفس الرّسول صلّى الله عليه وسلم من التعب والنّصب، ويختاروا لها ما لا يختارونه لنفس الرّسول، أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يليق بهم تفضيل أنفسهم على نفس رسولهم، بل يجب عليهم أن يفضلوا نفس الرّسول على أنفسهم ويؤثروها في كلّ حال ويحرصوا على مصاحبته في الشّدة والرّخاء، وعليهم أن يلقوا أنفسهم بين يديه ويفدوا أنفسهم أمامه «ذلِكَ» وجوب متابعة حضرة الرّسول وعدم التخلف عنه وتفضيل نفسه على أنفسهم والخروج معه مطلوب منهم ليعلموا «بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ» في غزوهم معه «ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ» قوية مهلكة «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» لإعلاء كلمته ونصرة رسوله «وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ» ويضيق صدورهم ويكدّر خواطرهم «وَلا يَنالُونَ» يأخذون ويصيبون «مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا» قليلا كان أو كثيرا من قتل وأسر ونهب وجلاء ولو بتكثير سواد المسلمين بالكون معهم أو غلبة مجردة أو الغارة عليهم بما يلقي الرّعب في قلوبهم «إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ» ينتفعون بثوابه حيث يقبله الله منهم بسبب إحسانهم هذا «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (١٢٠) من عباده، وإذا كان كذلك، فيلزمهم متابعة رسولهم في كلّ حال لينالوا هذا الثواب العظيم من الرّب العظيم الذي سماهم محسنين بسبب ذلك. الحكم الشّرعي المشيرة إليه هذه الآية هو وجوب

صفحة رقم 501
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية