
أَنْ يُجْعَلَ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ فَيُسْرَدَ مَعَهُ. وَأَقْوَى مِنْهُ عِنْدِي أَنَّهُ وَصْفٌ جَامِعٌ لِلتَّكَالِيفِ عَامَّةً، وَالْمَنْهِيَّاتِ خَاصَّةً، وَالسَّبْعَةُ الْمَسْرُودَةُ قَبْلَهُ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ، وَلَا يَحْصُلُ الْكَمَالُ لِلْمُؤْمِنِ بِهَا إِلَّا مَعَ اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُلَاحَظُ فِي حِفْظِ حُدُودِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (٢: ١٨٧) (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢: ٢٢٩) (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٦٥: ١) وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى نَظْمِ الْآيَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى هُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ السَّبْعِ، وَالْحَافِظُونَ مَعَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ حُدُودِ اللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِقَوْلِهِمْ: ((الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَيُطْلِقُونَهُ عَلَى الْأَفْرَادِ النَّابِغِينَ فِي بَعْضِ الْفَضَائِلِ الْعَامَّةِ، وَعَلَى الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ الرَّاقِيَةِ، وَيَكْفِي أَنْ يُقَالَ فِيهِ ((الْمَثَلُ)) فِي كَذَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) (٤٣: ٥٧) وَقَالَ: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (٤٣: ٥٩) أَوْ يُقَالُ: مَثَلٌ عَالٍ، أَوْ مَثَلٌ شَرِيفٌ. وَأَمَّا الْأَعْلَى فَهُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (١٦: ٦٠) وَقَالَ: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٠: ٢٧).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِمْ أَنَّهُمُ الْحَافِظُونَ لِجَمِيعِ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى. وَخُصَّتْ تِلْكَ الْخِلَالُ السَّبْعُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُمَثَّلُ فِي نَفْسِ الْقَارِئِ أَكْمَلَ مَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِهِ مُحَافِظًا عَلَى حُدُودِ اللهِ تَعَالَى.
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).

تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّمَانِينَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ، فَاسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٤: ٤٨ و١١٦) وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ التَّأَسِّيَ بِإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ قَوْمِهِمُ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْأُسْوَةِ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِيهِ فَقَالَ: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٦٠: ٤) وَقَدْ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ ذَكَرَ وَقَفَّى عَلَيْهِ بِقَاعِدَةِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْجَزَاءُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) هَذَا نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الْمُجَرَّدِ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ فِيهِ يُسَمَّى نَفْيَ الشَّأْنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الشَّيْءِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُعَلَّلٌ بِالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ. وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ - وَلَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ حَيْثُ هُمْ مُؤْمِنُونَ - أَنْ يَدْعُوا اللهَ طَالِبِينَ مِنْهُ الْمَغْفِرَةَ لِلْمُشْرِكِينَ (وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى)، لَهُمْ فِي الْأَصْلِ حَقُّ الْبِرِّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ. وَكَانَتْ عَاطِفَةُ
الْقَرَابَةِ تَقْتَضِي الْغَيْرَةَ عَلَيْهِمْ وَحُبَّ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ ((وَلَوْ)) هَذِهِ تُفِيدُ الْغَايَةَ لِمَعْطُوفٍ عَلَيْهِ يُحْذَفُ حَذْفًا مُطَّرَدًا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تُبِيحُهُ النُّبُوَّةُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَا مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْ أَهْلِهِمَا - الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَحَتَّى لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَعَدَمُ جَوَازِهِ أَوْلَى. ثُمَّ قَيَّدَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْخَالِدِينَ فِيهَا بِأَنْ مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلَوْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَاسْتِصْحَابِ حَالَةِ الْكُفْرِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ نَزَلَ وَحْيٌ يُسَجِّلُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كَإِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ أُنَاسٍ مِنَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا، أَوْ أَنَّهُمْ طُبِعَ قُلُوبُهُمْ وَخُتِمَ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (٣٦: ١٠) وَمِثْلُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) (٦٣: ٦) إِلَخْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، إِذْ دَعَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِلَى قَوْلِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) فَامْتَنَعَ وَأَبُو طَالِبٍ مَاتَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَهَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ عَقِبَ مَوْتِهِ ثُمَّ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ الْمَدَنِيَّةِ لِأَحْكَامِهَا، أَمْ نَزَلَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنْ بَرَاءَةَ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ اسْتِغْفَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ؟ وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ زَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَ أُمِّهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهَا وَاللهُ أَعْلَمُ، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ الدُّعَاءِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَكَذَا وَصْفُهُ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ:

الْمَغْفُورُ لَهُ الْمَرْحُومُ فُلَانٌ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ الْآنَ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِمْ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَتَقَيُّدِهِمْ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمُعَمِّمِينَ وَالْحَامِلِينَ لِدَرَجَةِ الْعَالَمِيَّةِ مِنَ الْأَزْهَرِ.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: ((أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)) فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَأَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ يُعَاوِدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)) فَأَنْزَلَ اللهُ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (٢٨: ٥٦).
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ بَرَاءَةَ وَفِي الْجَنَائِزِ أَيْضًا.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مِلَّةَ الْأَشْيَاخِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالطَّبَرِيِّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي)) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لِنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ نَبِيُّنَا لِعَمِّهِ، فَنَزَلَتْ.
(قَالَ) وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكْرَارِ النُّزُولِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ فَأَتْبَعْنَاهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ بَكَى فَبَكَيْنَا فَقَالَ: ((إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرُ أُمِّي وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَأَنْزَلَ عَلَيَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)) ) وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ: نَزَلَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى رَسْمَ قَبْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ حَتَّى سَخِنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ

لَهَا، فَنَزَلَتْ. وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَفِيهِ: لَمَّا هَبَطَ مِنْ ثَنِيَّةِ عَسْفَانَ. وَفِيهِ نُزُولُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ. فَهَذِهِ طُرُقٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَأْخِيرِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنْ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ شُجَّ وَجْهُهُ: ((رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) لَكِنْ يُحْتَمَلُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ خَاصًّا بِالْأَحْيَاءِ وَلَيْسَ الْبَحْثُ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ، وَيُؤَيِّدُ تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ مِنِ اسْتِغْفَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ تَعَدُّدَ السَّبَبِ مَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْزَلَ اللهُ (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ) الْآيَةَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: أَلَا نَسْتَغْفِرُ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَنَزَلَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرْنَا لَهُ أَنَّ رِجَالًا..... فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِذَا خَتَمَ عُمُرَهُ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قَارَنَ نُطْقَ لِسَانِهِ عَقْدُ قَلْبِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ وَصَلَ إِلَى حَدِّ انْقِطَاعِ الْأَمَلِ مِنَ الْحَيَاةِ وَعَجَزَ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَرَدِّ الْجَوَابِ، وَهُوَ وَقْتُ الْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (٤: ١٨) وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ وَقَدْ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ فِي اسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِآبَائِهِمْ وَأُولِي قُرْبَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَأَسِّيًا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ فَكَفُّوا.
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ تَأَسِّيكُمْ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ مَا كَانَ وَمَا وَقَعَ لِسَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) فِي حَيَاتِهِ
إِذَا كَانَ يَرْجُو إِيمَانَهُ فَقَالَ لَهُ: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٦٠: ٤) أَيْ لَا أَمْلِكُ لَكَ هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً وَإِنَّمَا أَمْلِكُ دُعَاءَ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ وَفَّى بِوَعْدِهِ وَمَا كَانَ إِلَّا وَفِيًّا كَمَا شَهِدَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٥٣: ٣٧) فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يَبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦: ٨٦ - ٨٩) أَيْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالشَّكِّ الْمُقْتَضِي لِلنِّفَاقِ، فَمَنِ اسْتَغْفَرَ لِحَيٍّ يَرْجُو إِيمَانَهُ، يَقْصِدُ سُؤَالَ اللهِ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا يَكُونُ بِهِ أَهْلًا لِلْمَغْفِرَةِ فَلَا بَأْسَ.