
أُخَرُ صَالِحَةٌ خَلَطُوا هَذِهِ بِتِلْكَ فَهَؤُلَاءِ تَحْتَ عَفْوِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ إِلَّا أَنَّهَا عَامَّةٌ في كل المذنبين الخطائين الْمُخْلِطِينَ الْمُتَلَوِّثِينَ، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ:
إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ لَمَّا قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّهُ الذَّبْحُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ «١»، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وجماعة من أصحابه تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَبُو لُبَابَةَ وَخَمْسَةٌ مَعَهُ، وَقِيلَ وَسَبْعَةٌ مَعَهُ، وَقِيلَ وَتِسْعَةٌ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غَزْوَتِهِ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ وَحَلَفُوا لَا يَحُلُّهُمْ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أطلقهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَفَا عَنْهُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ «٢» : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا «أَتَانِي الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ وَلَبِنٍ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، قالا وأما الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سيئا تجاوز الله عنهم» هكذا رواه البخاري مختصرا في تفسير هذه الآية.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ بِهَا وَهَذَا عَامٌّ وَإِنْ أَعَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمِيرَ فِي أَمْوَالِهِمْ إِلَى الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَخَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَلِهَذَا اعْتَقَدَ بَعْضُ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَنَّ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ لَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا كَانَ هذا خاصا بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّأْوِيلَ وَالْفَهْمَ الْفَاسِدَ، أبو بكر الصديق وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى أَدَّوُا الزَّكَاةَ إِلَى الْخَلِيفَةِ كَمَا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ: والله لو منعوني عناقا- وفي رواية عقالا- كانوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ «٣».
وَقَوْلُهُ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أَيْ ادْعُ لَهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِصَدَقَةِ قَوْمٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ فَأَتَاهُ أبي بصدقته فقال: «اللهم
(٢) كتاب التفسير، تفسير سورة ٩، باب ١٠.
(٣) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢. [.....]

صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» «١» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلِّ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي، فَقَالَ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِكِ» «٢».
وقوله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ صَلَوَاتِكَ عَلَى الْجَمْعِ وَآخَرُونَ قَرَءُوا إِنَّ صَلَاتَكَ عَلَى الْإِفْرَادِ سَكَنٌ لَهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحْمَةٌ لَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَقَارٌ، وَقَوْلُهُ:
وَاللَّهُ سَمِيعٌ أَيْ لِدُعَائِكَ عَلِيمٌ أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْكَ وَمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٣» : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بن عتبة عن ابن حذيفة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَعَا لِرَجُلٍ أَصَابَتْهُ وَأَصَابَتْ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنٍ لِحُذَيْفَةَ، قَالَ مِسْعَرٌ: وَقَدْ ذَكَرَهُ مَرَّةً عَنْ حُذَيْفَةَ إِنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُدْرِكُ الرَّجُلَ وَوَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ «٤».
وَقَوْلُهُ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ اللتين كل منهما يَحُطُّ الذُّنُوبَ وَيُمَحِّصُهَا وَيَمْحَقُهَا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبِ حَلَالٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ مِثْلَ أُحُدٍ، كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَوَكِيعٌ كِلَاهُمَا عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتكون مِثْلَ أُحُدٍ» وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «٥» [الْبَقَرَةِ:
٢٧٦].
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ «٦».
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّاعِرِ السَّكْسَكِيِّ الدِّمَشْقِيِّ وَأَصْلُهُ حِمْصِيٌّ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ، رَوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِ، وَحَكَى عَنْهُ حَوْشَبُ بْنُ سَيْفٍ السَّكْسَكِيُّ الْحِمْصِيُّ قَالَ: غَزَا النَّاسُ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن
(٢) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٨.
(٣) المسند ٥/ ٣٨٥، ٣٨٦.
(٤) المسند ٥/ ٤٠٠.
(٥) انظر تفسير الطبري ٦/ ٤٦٦.
(٦) تفسير الطبري ٦/ ٤٦٦.