
فَعَلَ ذَلِكَ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَالْحُكْمَ عَامٌّ فَالتَّخْصِيصُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الْفِتْنَةِ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ امْتَحَنُوا أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَرَضُوهُمْ عَلَى النَّارِ وَأَحْرَقُوهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفِتْنَةُ هِيَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ:
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ حَرَّقُوهُمْ بِالنَّارِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ فَتَنْتُ الشَّيْءَ أَحْرَقْتُهُ وَالْفَتْنُ أَحْجَارٌ سُودٌ كَأَنَّهَا مُحْتَرِقَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذَّارِيَاتِ: ١٣].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ تَابُوا لَخَرَجُوا عَنْ هَذَا الْوَعِيدِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ عَمْدًا مَقْبُولَةٌ خِلَافَ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كِلَا الْعَذَابَيْنِ يَحْصُلَانِ فِي الْآخِرَةِ، إِلَّا أَنَّ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْعَذَابُ الْحَاصِلُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَعَذَابُ الْحَرِيقُ هُوَ الْعَذَابُ الزَّائِدُ عَلَى عَذَابِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عَذَابَ بَرْدٍ وَالثَّانِي عَذَابَ إِحْرَاقٍ وَأَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ عَذَابَ إِحْرَاقٍ وَالزَّائِدُ عَلَى الْإِحْرَاقِ أَيْضًا إِحْرَاقٌ، إِلَّا أَنَّ الْعَذَابَ الْأَوَّلَ كَأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يُسَمَّى إِحْرَاقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِي، لِأَنَّ الثَّانِي قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ نَوْعَا الْإِحْرَاقِ فَتَكَامَلَ جِدًّا فَكَانَ الْأَوَّلُ ضَعِيفًا، فَلَا جَرَمَ لَمْ يُسَمَّ إِحْرَاقًا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ إِشَارَةٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِمْ نار الأخدود فاحترقوا بها.
[سورة البروج (٨٥) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْمُجْرِمِينَ ذَكَرَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: ذلِكَ الْفَوْزُ وَلَمْ يَقُلْ تِلْكَ لِدَقِيقَةٍ لَطِيفَةٍ وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِحُصُولِ هَذِهِ الْجَنَّاتِ، وَقَوْلَهُ: تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْجَنَّاتِ وَإِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ رَاضِيًا وَالْفَوْزُ الْكَبِيرُ هُوَ رِضَا اللَّهِ لَا حُصُولَ الْجَنَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِصَّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى/ الْكُفْرِ بِالْإِهْلَاكِ الْعَظِيمِ الْأَوْلَى له أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا خُوِّفَ مِنْهُ، وَأَنَّ إِظْهَارَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ كَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ
رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: نَعَمْ فَتَرَكَهُ، وَقَالَ لِلْآخَرِ مِثْلَهُ فَقَالَ: لَا بَلْ أَنْتَ كَذَّابٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَمَّا الَّذِي تُرِكَ فَأَخَذَ بِالرُّخْصَةِ فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الذي قتل فأخذ بالفضل فهنيئا له».
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١٢ الى ١٦]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أَوَّلًا وَذَكَرَ وَعْدَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثَانِيًا أَرْدَفَ ذَلِكَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ بِالتَّأْكِيدِ فَقَالَ لِتَأْكِيدِ الْوَعِيدِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وَالْبَطْشُ هُوَ الْأَخْذُ بِالْعُنْفِ فَإِذَا وُصِفَ بِالشِّدَّةِ فَقَدْ تَضَاعَفَ وَتَفَاقَمَ وَنَظِيرُهُ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هُودٍ: ١٠٢] ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقَادِرَ لَا يَكُونُ إِمْهَالُهُ لِأَجْلِ الْإِهْمَالِ، لَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَكِيمٌ إِمَّا بِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ أَوْ بِحُكْمِ الْمَصْلَحَةِ، وَتَأْخِيرُ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أَيْ إِنَّهُ يَخْلُقُ خَلْقَهُ ثُمَّ يُفْنِيهِمْ ثُمَّ يُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً لِيُجَازِيَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ الْإِمْهَالُ لِهَذَا السَّبَبِ لَا لِأَجْلِ الْإِهْمَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ تَأْكُلُهُمُ النَّارُ حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا ثُمَّ يُعِيدُهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا، فَذَاكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ.
[في قوله تعالى وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ إلى قوله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ] ثُمَّ قَالَ لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ خَمْسَةً:
أَوَّلُهَا: الْغَفُورُ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْغَفُورُ لِمَنْ تَابَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّهُ غَفُورٌ مُطْلَقًا لِمَنْ تَابَ وَلِمَنْ لَمْ يَتُبْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] وَلِأَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِ وَاجِبٌ وَأَدَاءَ الْوَاجِبِ لَا يُوجِبُ التَّمَدُّحَ وَالْآيَةُ مَذْكُورَةٌ فِي مَعْرِضِ التَّمَدُّحِ وَثَانِيهَا: الْوَدُودُ وَفِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا:
الْمُحِبُّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِلدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ مُقْتَضًى بِالذَّاتِ وَالشَّرَّ بِالْعَرَضِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرُّ أَقَلَّ مِنَ الْخَيْرِ فَالْغَالِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَيْرًا فَيَكُونَ مَحْبُوبًا بِالذَّاتِ وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ:
الْوَدُودُ هُوَ الْمُتَوَدِّدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْجَزَاءِ، وَالْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَثَالِثُهَا: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَجُوزُ أن يكون ودود فعولا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ يَوَدُّونَهُ وَيُحِبُّونَهُ لِمَا عَرَفُوا مِنْ كَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، قَالَ: وَكِلْتَا الصِّفَتَيْنِ مَدْحٌ لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إِذَا أَحَبَّ عِبَادَهُ الْمُطِيعِينَ فَهُوَ فَضْلٌ مِنْهُ، وَإِنْ أَحَبَّهُ عِبَادُهُ الْعَارِفُونَ فَلِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ كَرِيمِ إِحْسَانِهِ. / وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ:
قِيلَ الْوَدُودُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْحَلِيمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: دَابَّةٌ وَدُودٌ وَهِيَ الْمُطِيعَةُ الْقِيَادِ الَّتِي كَيْفَ عَطَفْتَهَا انْعَطَفَتْ وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ:
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ خَيْفَانَةً | ذَلُولَ الْقِيَادِ وَقَاحًا وَدُودًا |