تعالى وبكلمة أخرى شاءت أن تذكر هذا المظهر من مظاهر الكون بما كان متداولا بينهم. وهذا الأسلوب مما تكرر كثيرا في هذا الأمر لأنه أكثر تأثيرا فيهم كشأن القصص على ما شرحناه في سياق سورة القلم. ولقد كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وهو مدبر الأكوان على ما جاء في آيات كثيرة منها آية سورة يونس هذه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)
وآية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩).
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١٠ الى ١٦]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦)
. (١) فتنوا: بمعنى اضطهدوا أو أرغموا المؤمنين على الارتداد.
يصرف المفسرون بدون سند وثيق ضمير الفاعل في الآية الأولى من هذه الآيات إلى أصحاب الأخدود ويقولون إن الوعيد فيها لهم وإن عذاب الحريق هو مقابلة عينية لما فعلوه من حرق المؤمنين في نار الأخدود. وهذا عجيب وغير صواب فيما يتبادر لنا. وجملة ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دليل على ذلك لأن أصحاب الأخدود ماتوا وانقضى أمرهم ولم يعد لفتح باب التوبة لهم محل. والمعقول الذي تدل عليه هذه الجملة أن يكون الوعيد لجماعة كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وقت نزولها. ولقد كان ذلك أمرا واقعا حيث كان بعض الزعماء المشركين في مكة يضطهدون ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ويؤذونهم ليرغموهم على الافتتان أي
الارتداد عن الإسلام. وهكذا تكون الآيات الأولى من السورة بمثابة مقدمة بين يدي هذا الوعيد يحتوي وعيدا مماثلا للمشركين الذين كانوا يفعلون بالمؤمنين بالرسالة النبوية شيئا مما فعله أصحاب الأخدود بالمؤمنين السابقين. وتكون الصلة قائمة واضحة بين المجموعتين. وهو ما جرى عليه النظم القرآني في سياق قصص الأمم السابقة وما كان من نكال الله الدنيوي فيهم جزاء كفرهم ومواقفهم العدائية والعدوانية من أنبيائهم مما مرّ منه بعض الأمثلة.
وقد احتوت الآيات بالإضافة إلى الوعيد لفاتني المؤمنين والمؤمنات، إذا لم يتوبوا بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وتثبيت لهم وتنويه بقوة بطش الله الذي خلق الخلق بدءا والقادر على خلقه إعادة، الفعال لما يريد. وتنويه في الوقت نفسه بسعة رحمة الله وغفرانه ومودته للصالحين من عباده. وفي التنويه بالبطش والغفران والمودة وفي الإنذار والتبشير تساوق تام إزاء موقف المؤمنين ومضطهديهم وما يطلب من كل منهم كما هو المتبادر.
وذكر العرش هنا يأتي للمرة الثانية، ولقد علقنا على هذا الموضوع في سياق سورة التكوير بما يغني عن التكرار إلّا أن نقول إن الأسلوب الذي جاء به هنا أيضا يؤيد ما نبهنا عليه في ذلك التعليق من الحكمة المنطوية في ذكر العرش وهو قصد بيان عظمة شأن الله تعالى.
تعليق على محنة فتنة المؤمنين الأولين
وفتنة المؤمنين في العهد المكي ذكرت في غير هذه السورة أيضا. وذكرها في هذه السورة المبكرة في النزول يدل على أنها قد بدأت منذ عهد مبكر من الدعوة، ولقد رويت روايات عديدة في سياقها كما وردت أيضا آيات في القرآن تشير إلى بعض نتائجها. ويستفاد من هذه وتلك أن الأرقاء والمستضعفين من المسلمين الأولين هم الذين تعرضوا لها في الدرجة الأولى وأنها كانت مع ذلك تشمل المؤمنين من الأسر القرشية البارزة وأنه كان من صورها أن يعرى المسلمون
ويطرحون فوق الرمال والصخور الشديدة الوهج من حرارة الشمس وتوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة ويمنع عنهم الماء والطعام ساعات طويلة أو أياما عديدة وكانت تقيد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد ويجلدون شديد الجلد، وأنه قد زهقت بسبب العذاب أرواح فضرب أصحابها الشهداء مثلا خالدا على التمسك بالعقيدة وتحمل أنواع الأذى والتضحية بالنفس في سبيلها «١» والراجح أن آيات سورة البروج هذه تشير إلى هذه المرحلة.
وفي سورة النحل آيتان قد تدلان على أنّ بعض المؤمنين أرغموا على الافتتان والتبرؤ من الإسلام فمنهم من ظل كافرا ومنهم من عاد إلى الإسلام حينما سنحت له الفرصة وفرّ من مكة وهما هاتان:
١- مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦).
٢- ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠).
وقد روى المفسرون «٢» أن الاستثناء في الآية الأولى كان لعمار بن ياسر رضي الله عنه الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وأنه قد جاء يبكي للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويقول له إني نلتك بالشر فقال له مشجعا مطمئنا (إن عادوا لك فعدلهم).
وقد كان بعض أغنياء المسلمين وبخاصة أبا بكر رضي الله عنه يشترون بعض الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم من المحنة. وقد استمرت المحنة طيلة العهد المكي ثم إلى الفتح المكي في السنة الهجرية الثامنة بالنسبة لمن اضطر إلى البقاء في مكة ومنع الهجرة إلى المدينة. وكانت من أهم الحركات التي سببت للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين همّا عظيما. وكان من نتائجها أن هاجر معظم المسلمين
(٢) المصدر نفسه. [.....]
رجالا ونساء إلى الحبشة. وآيات سورة النحل هذه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) تشير إلى ذلك.
ولقد كاد النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه يهاجر نتيجة لذلك على ما تفيده آية سورة الإسراء هذه: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦) ثم كانت من أسباب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة. وآية سورة الأنفال هذه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وما جاء في آية الحج [٤٠] من هذه الجملة: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وآية سورة آل عمران هذه: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) تشير إلى ذلك. وقد وصفها القرآن بأنها أشد من القتل وأكبر واعتبر الكفار بسببها البادئين بالحرب المستحقين للانتقام وأوجب الاستمرار في قتالهم إلى أن ينتهوا عنها على ما جاء في آية سورة الحج هذه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) وآيات سورة البقرة هذه:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) وفي كل هذا ينطوي ما كان لهذه المحنة من أثر عظيم وشديد في أحداث وسير السيرة النبوية ثم ما كان من تحمل النبي صلّى الله عليه وسلّم والرعيل الأول من المؤمنين رضوان الله عليهم شدّة هذه المحنة بقلوب عامرة بالإيمان مستغرقة في الله
ودينه، وعظم كفاحهم وثباتهم في سبيل إعلاء دين الله أمام تألب السواد الأعظم من أهل مكة وقبائلها بقيادة الزعماء الأقوياء والأغنياء إلى أن حق الحق وزهق الباطل وانتصر دين الله وصارت كلمته هي العليا.
تعليق على موقف المرأة المسلمة في هذه المحنة
ولقد كان الرعيل الأول من المؤمنين من الرجال والنساء على السواء، وكما تعرض الرجال للمحنة وصبروا عليها وكافحوا وثبتوا فقد تعرض النساء لها وصبرن وكافحن، على ما تفيده آيات سورة البروج التي نحن في صددها أولا، وآية سورة آل عمران [١٩٥] التي أوردنا نصها آنفا ثانيا. وقد ذكرت الروايات أن أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما ماتت تحت العذاب مع أبيه وفضّلا الموت على النطق بكلمة الكفر. كما ذكرت أن المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة كانوا من الرجال والنساء على السواء. ومن اللاتي هاجرن إلى الحبشة بنات زعماء كبار من قريش أسلمن مع أزواجهن وهاجرن معهم إلى الحبشة تمسكا بدينهن رغم قوة آبائهن، مثل أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان عدد النساء المهاجرات إلى الحبشة سبع عشرة.
ولقد سجل القرآن حادثا عظيما من هذا الباب حيث كان من نساء الرعيل الأول من أجبر على التخلف عن الهجرة إلى المدينة، فما إن سنحت لهن الفرصة حتى غامرن وخرجن والتحقن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم تاركات أزواجهن وأهلهن الكفار مما انطوى خبره في آية سورة الممتحنة هذه «١» : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ
مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠).
وهكذا سجلت المرأة العربية المسلمة شخصيتها وقوة إيمانها ووعيها وكفاحها وثباتها وجرأتها ومخاطرتها منذ بدء الدعوة الإسلامية وفي دور الأذى والمحنة العصيب أسوة بالرجل مما يثير الإعجاب والإجلال.
تعليق على موضوع التوبة
وبمناسبة ورود جملة لَمْ يَتُوبُوا [١٠] في الآية الأولى نذكر أن القرآن فتح باب التوبة لكل فئة من الناس ومهما كانت أفعالهم وسواء منهم الكفار أم المنافقون أو مقترفو المنكرات من المسلمين وحضّهم عليها بمختلف الأساليب وفي مختلف السور المكية والمدنية وفي مختلف أدوار التنزيل من عهد مبكر في مكة إلى عهد متأخر في المدينة كما جاء في الآية التي نحن في صددها وكما جاء في آيات كثيرة أخرى منها الأمثلة التالية:
١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ البقرة [٢٧٨- ٢٧٩].
٢- كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران [٨٦- ٨٩].
٣- وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما
إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً
النساء [١٦- ١٨].
٤- وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
النساء [١١٠].
٥- إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً النساء [١٤٥- ١٤٧].
٦- إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [٣٣- ٣٤].
٧- وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة [٣٨- ٣٩].
٨- وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام [٥٤].
٩- وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ
التوبة [٣].
١٠- فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التوبة [٥].
١١- لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ التوبة [١٠- ١١].
١٢- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ التوبة [٧٤].
١٣- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً الفرقان [٦٨- ٧١].
١٤- قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ الزمر [٥٣- ٥٥].
وكل هذا يلهم أن التوبة في الإسلام مبدإ قرآني محكم وأن كون صلاح الناس وهدايتهم وإنقاذهم من الضلال والغواية والارتكاس في الآثام هو الجوهري في
الدعوة الإسلامية حيث يفتح الكافر حينما يسلم صفحة جديدة ويستقبل عهدا جديدا وهو ما عبر عنه الأثر المشهور «الإسلام يجبّ ما قبله» ومؤيد بما تضمنته آية التوبة [١١] ويصبح الكفار إخوانا للمسلمين مهما فعلوا معهم من أفعال ووقفوا من مواقف ومهما ارتكبوا من آثام قبل إسلامهم. وحيث يتاح للمخطئين والآثمين من المسلمين فرصة الرجوع عن خطأهم وآثامهم ويشجعون على السير في سبيل الصلاح والإصلاح والحق والخير. ويحال دون تسرب الناس إلى قلوب الجاهلين والاستمرار في طريق الأشر والإثم. وفي هذا كله من المصلحة الإنسانية وصلاحها الأخلاقي والاجتماعي والديني ما هو واضح من الروعة والجلال.
والآيات مكية ومدنية، وقد نزلت في مختلف أدوار التنزيل وبدأ نزولها من عهد مبكر حيث يبدو من هذا حرص الدعوة الإسلامية على فتح ذلك الباب وإتاحة تلك الفرصة منذ أولى خطواتها ثم استمر ذلك إلى آخر عهودها. وفي الآيات شروط هامة جدا للتوبة وقبولها ونفعها لا تدع مجالا لقول قائل إنها مما يشجع على اقتراف الإثم وتجاوز الحد. وهي التوبة الصادقة التي تتمثل في الندم على ما فات والعزم على الكف والإصلاح والإنابة إلى الله واتباع ما أمر به ونهى عنه. وفي متسع من الحياة والعمر والعافية. وللإصلاح الذي تكرر وروده في الآيات معنى واسع شامل. وقد يتناول بالإضافة إلى تحسين الخلق والسلوك والتزام الحق والفضيلة. بالنسبة للمسلم الجانح والدخول في دين الله بالنسبة للكافر تلافي ما يمكن أن يكون سببه التائب من أضرار مادية ومعنوية وبخاصة مما يتعلق بحقوق الناس أفرادا وجماعات. لأن حقوق الناس ودماءهم وأموالهم تظل في عنق المعتدين عليها حتى يؤدوها أو تؤخذ منهم في الدنيا أو يعاقبوا عليها في الآخرة. وقد روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم. إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» «١»
وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه: «لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة» «١». وواضح من كل ما تقدم أن استغفار المستغفرين وتوبة التائبين باللسان إذا كانت على غير أساس هذه الشروط تظل لغوا لا قيمة له ولا فائدة.
وفي القرآن آية تذكر غفران الله لمن يشاء بدون أن يكون ذلك مترافقا مع ذكر التوبة وهي آية سورة النساء هذه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً النساء [٤٨]. والمتبادر أن أسلوب الآية جاء بسبيل تشنيع الشرك وتعظيمه، وما دام القرآن يفسر بعضه بعضا فالمتبادر أن ما جاء في الآيات الكثيرة الأخرى من غفران الشرك إذا تاب عنه المشرك ومن شرط التوبة والإخلاص فيها لمرتكبي الذنوب يقيد الإطلاق الذي جاءت عليه الآية.
وهناك آية تقرر الخلود في جهنم لقاتل المؤمن عمدا دون أن يرد فيها ذكر للتوبة جريا على النظم القرآني في الأمثلة المتقدمة. وهي آية سورة النساء هذه:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً النساء [٩٣] ولقد استند عليها بعض العلماء وأصحاب المذاهب الكلامية وقالوا إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. ولقد روى الشيخان عن ابن عباس أن لا توبة لقاتل المؤمن العمد استنادا إلى هذه الآية وإن سعيد بن جبير لما راجعه في ذلك وقال له إن آيات سورة الفرقان [٧٠- ٧١] تفتح باب التوبة للقاتل وغيره قال له إن هذه آيات مكية قد نسختها آية مدنية وهي آية سورة النساء المار ذكرها «٢». مع أن آيات سورة النساء [١١٠] و [١٤٧] و [١٤٩] وسورة المائدة [٣٣- ٣٤] و [٣٨- ٣٩] وسورة التوبة [٣ و ٥] و [١٠] و [١١]
(٢) التاج ج ٤ ص ٨٤ و ١٧٣ وهذا نص حديث مسلم من الصفحة ١٧٣: «قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس ألمن يقتل مؤمنا متعمدا توبة. قال لا، فتلوت عليه آية الفرقان إِلَّا مَنْ تابَ فقال هذه آية مكية نسختها آية مدنية ومن يقتل مؤمنا متعمدا... الآية.
و [٧٤] والتي أوردناها قبل قد نزلت بعد آية سورة النساء [٩٣] وقد أبقت باب التوبة مفتوحا لمختلف الفئات من مشركين وكفار ومرتدين ومنافقين ومحاربين لله ورسوله وسارقين إلخ حيث يسوغ هذا التوقف في التسليم بقول ابن عباس والقول إن أسلوب آية النساء [٩٣] إنما جاء على ما جاء به بسبيل تشنيع قتل المؤمن العمد وتغليظه وتعظيمه وإن باب التوبة يظل مفتوحا لقاتل المؤمن العمد إذا كان مؤمنا مخلصا وتاب توبة صادقة. ولقد روى الشيخان تتمة الحديث الذي روياه عن سعيد ابن جبير وابن عباس وهي أن سعيدا أخبر مجاهدا وهو من كبار علماء التابعين ومفسريهم بجواب ابن عباس فعقب قائلا «إلّا من ندم» «١» حيث يدعم هذا ما قلنا.
وما قاله مفسرون آخرون قبلنا أيضا. وهنا آثار نبوية مؤيدة لذلك أيضا حيث تذكر أن الخلود في النار هو لمن يستحل القتل ومات على ذلك لأنه يكون كافرا. وتذكر أن لا خلود لمن مات مؤمنا وأن باب التوبة لهذا غير مغلق. ومن ذلك حديث رواه مسلم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان» «٢». وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن. وزاد أبو هريرة في رواية جملة «والتوبة معروضة بعد» «٣».
وقد يصح القول على ضوء حديث أنس أن هؤلاء وأمثالهم من مرتكبي الكبائر إذا لم يتوبوا وكانوا مؤمنين وغير مستحلين لما اقترفوه يعذبون في النار عذابا طويلا ثم يخرجون منها في النهاية، والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث نبوية عديدة فيها حثّ على التوبة وتأميل في عفو الله وغفرانه وتبيين لمدادها وتلقين متساوق مع التلقين القرآني فيها. منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس: «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب
(٢) التاج ج ١ ص ٢٧.
(٣) التاج ج ٣ ص ٥.
إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلّها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدّة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربّك أخطأ من شدّة الفرح» «١».
وحديث رواه مسلم والترمذي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يا أيّها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة» «٢». وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوّابون» «٣». وحديث رواه الثلاثة عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «٤». وحديث رواه مسلم عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إنّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» «٥». وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلّهم أجمعون فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» «٦». وحديث أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلّا قبل الله منه أدنى من ذلك. وقبل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلّا قبل منه».
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه، والمقصود بتعبير يغرغر حشرجة الموت. ولا يعني الحديث تسويغ تأخير التوبة إلى هذا الوقت وإنما معناه أن التوبة مقبولة إلى هذا الوقت. وقد ندد الله بالذين يؤخرون التوبة إلى وقت الموت وحث على التوبة في متسع من العمر والعافية في الآيات ١٦- ١٨ من سورة النساء التي أوردناها مع الآيات. وطلوع الشمس من مغربها من علامات قيام الساعة على ما جاء في الحديث التالي للحديث الخامس.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه ص ١٣٩.
هذا، والآيات والأحاديث الواردة في موضوع التوبة وهذه الآيات الواردة في سورة التوبة: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) تفسح المجال لشيء من المقايسة بين التوبة والاعتراف بالذنب في الإسلام وبين ما هنالك من ذلك في التقاليد النصرانية. وقد يكون مساغ للقول إن ما بين الإسلام والنصرانية شيئا من التساوق في جوهر الموضوع. غير أن الأسلوب مختلف، فتقاليد الاعتراف النصرانية منوطة بمراسم ووساطة كهنوتية في حين أن التوبة في الإسلام ليست في شيء من ذلك. ولم ترو أي رواية تفيد أن المسلمين كانوا يراجعون النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفاءه من بعده ويعترفون لهم بذنوبهم ويطلبون منهم الدعاء لهم. والمتواتر الذي لا خلاف فيه أن التوبة تتم بين الله وعباده مباشرة. وهذا متصل بعدم وجود مراسم ووساطة كهنوتية في الإسلام كما هو واضح. ونحن نرى في هذا امتياز يحفظ للمسلم كرامته ونراه مما تميزت به الديانة الإسلامية فلم يقم فيها ما قام في النصرانية وغيرها من كهنوت ديني يتوسط بين الله وعباده في التوبة وطلب الغفران ومنحه أو يناط به إبرام عقود الزواج وتعميد الأطفال وإقامة الطقوس وتحديد خطوات وحدود العقل والبحث في مختلف شؤون الدين والدنيا الأمر الذي ينطوي على حكمة الله تعالى في جعل العقل والفكر الإنسانيين في ظل هذه الديانة في كل مسلم ومسلمة مطلقين يستطيعان أن يحلقا في كل جو ويتناولا كل شأن في حدود الإيمان بالله ورسوله وقرآنه واليوم الآخر وصفات الله الكاملة المنزهة عن كل نقص وشائبة ومماثلة. ثم في حدود ما أمر الله ورسوله به وما نهيا عنه من أوامر ونواه إيمانية وتعبدية وسلوكية واجتماعية بسبيل الصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة.
وهناك نقطة هامة يحسن أن ننبه عليها، وقد أشير إليها في بعض الآيات إشارات خاطفة. وهي أن الآيات المكية والمدنية الواردة في موضوع التوبة والآيات المكية والمدنية التي لم يذكر فيها موضوع التوبة التي وصفت الكفار من