آيات من القرآن الكريم

وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
ﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ١ وَأَذِنَتْ» سمعت وأجابت وأذعنت وخضعت «لِرَبِّها» في ذلك الانشقاق، وهو مثل انفطرت في السورة المارة من حيث المعنى. وأعلم أن انشقاق السماء وإن ثبت في هذه الآية نصا إلا أن موضعه وكيفيته غير معلومة على القطع، وقد عثرنا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه أنها تنشق من المجرّة، وقد جاء بالآثار أن المجرة باب السماء، وقال بعضهم إنها وسط السماء، وقال أهل الهيئة إنها نجوم صغار متقاربة بعضها من بعض، وقولهم هذا لا ينافي كونها باب السماء ووسطه، وان مصعد الملائكة ومهبطهم منها والله أعلم. وما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم حين أرسل معاذا إلى اليمن وقال له إنهم سائلوك عن المجرة فقل لهم إنها لعاب حية تحت العرش لا يصح، وليس هو من متعلقات الدين حتى يوصيه به. وأذن بمعنى سمع وارد في كلام العرب، قال قغيد:

إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقال الآخر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
أي سمعوا وصاروا كلهم آذانا وسماعها انقيادها لأمر الله بما يراد منها.
«وَحُقَّتْ» ٢ أي وحق لها إطاعة ربها، وليس لها أن تأباه أو تمتنع عنه لأنها مخلوقة له، ولا على المخلوق إلا إطاعة خالقه «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ» ٣ بسطت وسوّيت باندكاك جبالها وبنائها في أوديتها وبحورها «وَأَلْقَتْ ما فِيها» من الأموات المكفوتين بها «وَتَخَلَّتْ» ٤ عن كل ما فيها «وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» ٥ وحق لها أن تنقاد لأمره في ذلك كله لأنه هو الذي صنعها وأودع مكوناته فيها. أخرج أبو القاسم الجيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأجلس جالسا في قبري، وان الأرض تحرك بي، فقلت لها مالك؟ فقالت إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت، إذ لا شيء فيّ وذلك قوله تعالى (وَأَلْقَتْ) الآية. ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى لما يتعلق بالسماء، وهذه

صفحة رقم 430

تفسير سورة الفتح عدد ٢٥- ١١١ و ٦٣
نزلت بالمدينة بعد الجمعة عدا الآيات من ١٠ إلى ٢٧ فإنها نزلت في الطّريق عند الانصراف من الحديبية فتعد مدنية أيضا، لأن إقامة الرّسول كانت في المدينة وكلّ ما نزل بعد الهجرة يعد مدنيا وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمة والفان وأربعمائة حرف، وقد بينا السّورة المبدوءة بما بدئت به في سورة الكوثر ج ١ ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به ومثلها في عدد الآي التكوير والحديد فقط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ» يا سيد الرّسل بما أمرناك به من مجاهدة أعدائك بعد حادثة الحديبية وقبول الصّلح فيها لأنها مقدمة لافتتاح مكة والبلاد المقدر فتحها على يديك حيث تلاها فتح خيبر وأعقبها بحادثة الأحزاب والفتوحات الأخرى من بلاد قريظة وبني النّضير وغيرها، ومن هذا يعلم أن مقدمة الفتوح هو صلح الحديبية الذي صعب وتعذر واشتد الضّيق فيه على المسلمين حتى يسره الله تعالى بمنه وكرمه وسهله والهم رسوله قبول الشّروط المجحفة التي اقترحها المشركون وكرهها أصحاب رسول الله إذ كان ظاهرها الغبن والحيف على المؤمنين، ولم يعلموا أنها باطنا تنطوي على الرّيح والفوز لهم، إذ سبب اختلاط المشركين بالمسلمين فاطلعوا على محاسن الإسلام ومكارم الدّين الحنيف وما يأمر به من مكارم الأخلاق وفواضل الآداب فملأ قلوبهم حبه، وشارفوا على مزايا حضرة الرسول فرغبوا في صحبته ودخل منهم في دينه خلق كثير قبل الفتح. والمراد بهذا الفتح المشار إليه في هذه السّورة فتح مكة شرفها الله وأعزها كما روى عن أنس رضي الله عنه. وقال مجاهد هو فتح خيبر الواقع عقب الحديبية.
مطلب قصة الفتح وأعني بالفتح فتح مكة لا غير وبيان الّذين هدر دمهم رسول الله وما وقع فيه وسببه:
ومن قال بأن الفتح هو صلح الحديبية تكلف بأن يعدل إلى خلاف الظّاهر فضلا عن أن صلح الحديبية كان سنة ستّ وهذه السّورة نزلت في السّنة الثامنة إذ وقع فيها فتح مكة كما سيأتي، ومما يؤيد أن المراد بهذا الفتح فتح مكة قوله تعالى «فَتْحاً مُبِيناً» (١) ظاهرا

صفحة رقم 264

واضحا ولم يكن فتح الحديبية بغاية الظّهور المشار إليه في هذه الآية، ولا فتح خيبر، ولا غيرها أيضا ولا يصح إطلاقه إلّا على فتح مكة، لأن كلّ فتح دونها ليس بشيء إذ ذاك، ولأن كلمة الإسلام إنما علت بفتحها وما رفع شأن المؤمنين إلّا بعد فتحها الذي صار قاطعا للكفر، ما حيا آثاره، معلنا كلمة الإسلام، معظما أهله، خضعت فهى صناديد قريش وطلبوا الأمان من سيد الأكوان، واستسلموا لحكمه خاشعين خاضعين. ومن قال إن المراد بهذا الفتح فتح بلاد الرّوم إذا غلبت فارس فليس بشيء أيضا وهو خلاف الظّاهر ولا علاقة لفتح الرّوم بظهور الإسلام، وكذلك القول إن المراد بالفتح فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسّيف والعنان، لأن هذا تابع للفتح الفعلي لمكة، وقد كان والحمد لله مصداقا لقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ) الآية الخامسة من سورة الحديد، وقوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الآية ١٣٩ من آل عمران المارتين، وخلاصة هذه القصة هو أنه لما صالح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية كما تقدم في الآية ١٠ من سورة الممتحنة دخلت بنو بكر في عهد قريش وخزاعة فيه عهد محمد صلّى الله عليه وسلم. ثم إن بني بكر عدت على خزاعة وهم على ماء لهم يسمى الوتير وأصابوا منهم رجلا وتحاربوا فيما بينهم، وكان من قريش أنها ردفت بني بكر بالسلاح وقاتلت معهم، وبهذا انتقض ما كان بين قريش وحضرة الرّسول من الميثاق بسبب ما استحلوه من خزاعة حليفته، ولهذا قدم عميدهم عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله في المسجد وخاطبه على ملأ من النّاس بقوله...
يا رب إني ناشد محمدا:
خلف أبينا وأبيه الأتلدا... قد كنتم ولدا وكنا ولدا
ثمة أسلمنا فلم ننزع يدا... فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا... فيهم رسول الله قد تجردا
إن تمّ حسنا وجهه تريدا... في فيلق كالبحر يجري مزيدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا... وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وهم أذل وأقل عددا... هم بيتوتا في الوتير هجدا

صفحة رقم 265

وقتلونا ركعا وسجدا... فانصر هداك الله نصرا أيدا
فقال صلّى الله عليه وسلم قد نصرت. وعرض صلّى الله عليه وسلم إلى عنان السّماء وقال مشيرا إليه لتشهد بنصر بني كعب رهط عمرو بن سالم، ثم جاء بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة وعرضوا لرسول الله بما أصابهم من مظاهرة قريش بني بكر، فقال صلّى الله عليه وسلم للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشدّد في العقد ويزيد في المدة رهبا من الذي صنعوا فلم يحسوا إلّا وأبو سفيان بالمدينة، وهذا من معجزاته صلّى الله عليه وسلم ومن الغيب الذي أطلعه الله عليه، وقد دخل على بنته أم حبيبة رضي الله عنها فأراد أن يجلس على فراش رسول الله فطرته من أمامه وقالت له أنت رجل نجس لا أحب أن تجلس على فراش رسول الله الطّاهر المطهر، فقال لها والله لقد أصابك بعدي شرّ، فتركها ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه، فذهب إلى أبي بكر وكلمه بأن يكلم له محمدا، فقال ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر فكلمه بذلك فقال أنا أشفع لك لا والله، لو لم أجد إلّا الذي لجاهدتكم بها ثم اتى عليا وعنده فاطمة والحسن يدب بين يديهما واسترحمه أن يشفع له فقال ويحك يا أبا سفيان لقد أدى عزم الرسول على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة واستشفعها وقال تأمري بينك هذا فيجيرني بين النّاس فيكون سيد العرب إلى آخر الدّهر، فقالت ما يجير أحد على رسول الله. فقام أبو سفيان في المسجد بمشورة من علي وقال أيها الناس إني قد أجرت بين النّاس وانما فعل هذا وهو لم يجره أحد ليعلم النّاس أنه قد أجير فلا يتعدى عليه أحد وإنما أمره علي بذلك لما رأى- كرم الله وجهه- من تلبّكه، فأرشده إلى ذلك ليأمن على نفسه إذ رأى ممن أراد أن يستجير بهم قلب الجن، فاعتراه خوف ورعب وذل وهوان، الجأه إلى فعل ما فعل، ولأنه استجار بابنه الحسن وهو طفل فأبت مروءته إن لم يجره ان يدله على ما إذا قاله ظن النّاس أنه قد أجير، وكان ذلك، ثم رجع إلى مكة آيسا مما كان يتوخاه مبلسا مما رآه. ولما وصل قصّ على قومه ما لا قاه، ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس بالجهاد، وأعلمهم بأنه سائر إلى مكة، وقال اللهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نبغتها في بلادها، وإذ ذاك كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى

صفحة رقم 266

قريش يعلمهم بمقدم رسول الله وأصحابه، كما تقدمت قصته أول سورة الممتحنة المارة واستخلف رسول الله على المدينة أبا دهم كلثوم بن حصين بن عيبنة بن خلف الغفاري، وخرج صلّى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، وقيل اثنى عشر الفا، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار لعشر يقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، حتى نزل بحر الظهران، وقد أعمى الله الأخبار عن قريش، ولقى العباس مهاجرا بأهله في الطريق وهو آخر من هاجر، فحمله رسول الله على بغلته وقال ووا صباح قريش والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة ليكون إهلاكا لقريش إلى آخر الدّهر.
قال العباس فجئت الأراك لعلي أجد من يخبر أهل مكة بمكان رسول الله ليستأمنوه إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، فقلت أبا حنظلة: فقال أبا الفضل فقلت نعم، قال ما بالك فداك أبي وأمي؟ فقلت ويحك يا أبا سفيان جاءك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما لا قبل لكم به، والله ليضربن عنقك، قال فما الحيلة؟ قلت اركب عجز هذه البغلة حتى آتيك به فاستأمنه لك، فركب، قال العباس فدخلت به على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقلت هذا أبو سفيان، فجاء عمر وقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال له العباس قد أجزته، فقال صلّى الله عليه وسلم ويحك يا أبا سفيان، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك يا رسول الله وأكرمك، قال ألم يأن لك أن تعلم إني رسول الله حقا، وإن الله وحده لا شريك له، وإن البعث حق، قال بأبي وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك الرّحم. أما هذه فإن في النّفس منها حتى الآن شيئا، فقال له العباس قلها قبل أن يضرب عنقك فقالها وأسلم. ثم قال العباس يا رسول الله انه يحب الفخر فاجعل له شيئا قال فليناد عند دخول الجيش المبارك مكة شرفها الله من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أعلق عليه ببابه فهو آمن. ثم قال يا عباس احبسه بمضيق الوادي حتى يرى جنود الله، قال فخرجت به حتى وقفت به حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصارت تمر القبائل، فجعل يقول كلما تمر واحدة مالي ولهؤلاء! حتى مر رسول الله في كتيبته الخضراء، وإنما سميت خضراء لكثرة الحديد فيها فلا يرى منهم إلا الحدق، فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله في المهاجرين

صفحة رقم 267

والأنصار، فقال ما لأحد ولهؤلاء من قبل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، قلت ويحك إنها النّبوة، قال نعم. ثم تركه فلحق بقومه، ولما قرب منهم صاح بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم، قالوا فمه، أي بماذا تأمرنا وماذا نفعل؟ قال من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا وما تغني عنّا دارك؟ قال من أغلق بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى المسجد وإلى دورهم، فجاء حكيم بن خزام وبديل بن ورقاء رفيقاه وأسلما وعمدا إلى مكة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أثرهما الزبير وأمره على خيل المهاجرين والأنصار، وأمره أن يركز رأيته بأعلى مكة بالحجون، وقال له لا تبرح مكانك، وأمر خالد بن الوليد فيمن اسلم من قضاعه وبني سليم وأمرهم أن يدخلوا من أسفل مكة، وقال الزبير وخالد لا تقاتلا إلّا من قاتلكما وأمر سعد ابن عبادة أن يدخل في بعض النّاس من كدى، فقال سعد اليوم يوم الملحمة يوم تحل تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم المحرمة، فقال صلّى الله عليه وسلم لعلي عليه السّلام أدركه وخذ الرّأية منه وكن أنت الذي تدخل، وأمره أن لا يقاتل أيضا إلّا من قاتله، ما عدا نفر سماهم وأمر بقتلهم وان تعلفوا بأستار الكعبة. وقيل قال لسعد بل اليوم يوم المرحمة. ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم متواضعا لربه الذي أكرمه بالفتح المبين، حتى أن رأسه الشّريف يكاد يمس واسطة رحله، ولم يقع قتال إلّا في جهة خالد، إذ عارضه المشركون بالدخول من حيث أمره الرّسول، فقتل منهم بضعة عشر رجلا، وقيل سبعين، وإن حضرة الرّسول أنبه على ذلك إن كان على ما قيل إنه أرسل إليه من قال له ضع السّلاح عنهم، وإن هذا يقول إلى خالد يأمرك رسول الله أن تضع السّلاح فيهم. وان جبريل عليه السّلام قال لرسول الله لماذا تعاقب خالدا وهو إنما فعل لإبرار قسمك، وذلك أن صلّى الله عليه وسلم لما رأي حمزة ممثلا به في واقعة أحد أخذته الحدة وقال والله لأمثلن بسبعين منهم، وهناك أنزلت الآيات من آخر سورة النّحل التي أولها (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) إلخ كما المعنا إليه في الآية ١٢٢ من آل عمران المارة فراجعها. وقتل من المسلمين ثلاثة: سلمة بن الميلاد الجهني وكرز بن جابر وخنيس ابن
خالد بن الوليد. أما الّذين هدر دمهم رسول الله فهم: عبد الله بن سعد بن

صفحة رقم 268

أبي سرح لارتداده عن الإسلام فاستاء منه أخوه من الرّضاع عثمان بن عفان وعبد الله بن حنظلة لأنه قتل مولاه المسلم واتخذ مغنيتين تهجوان حضرة الرّسول قتلت إحداهما واستأمنت الأخرى رسول الله فأمتها، والحويرث بن فضيل بن وهب لشدة إيذائه حضرة الرّسول، ومقيس بن خبابة لقتله الأنصاري وارتداده، وسارة مولاه بني عبد المطلب لأنها كانت مبالغة في إيذائه بلسانها فاستأمنت الرّسول فأمنها وعكرمة بن أبي جهل، وقد استأمنت له حضرة الرّسول زوجته أم حكيم بن الحارث فأمنها، ثم جاءت أم هاني لنستأمن رسول الله على رجلين أراد على قتلهما فقال مرحبا وأهلا قد أجرنا من آجرت. ثم دخل صلّى الله عليه وسلم البيت المكرم فطاف به وصلّى وأخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتحها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها وطرحها ثم وقف على بابها فقال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا كلّ مأثرة أو دم أو ما يدعى فهو تحت قدمي هذين، إلا سدانة البيت (التي ألمعنا إليها في الآية ٥٨ من آل عمران فراجعها) وسقاية الحاج، الا وقتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدّية مغلظة مئة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها.
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية ١٣ من سورة الحجرات المارة يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا خير أخ كريم وابن أخ كريم، قال فاذهبوا فأنتم الطّلقاء. فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم جلس فبايعه النّاس على الإسلام والنّصرة، وثم له الفتح على هذه الصّورة. ثم ظنت الأنصار أنه يقيم بمكة بعد أن أتم الله له وعده ويتركهم فنظر فرآهم يتنابسون بذلك، فقال لهم ما معناه كلا إن الحياة معكم والموت معكم، فاطمأنت نفوسهم وامر على مكة أسيدا وعاد إلى المدينة ومن أراد زيادة إيضاح قصة الفتح فعليه بمراجعة السّير. وهذا الفتح الواقع من طريق الغزو والجهاد «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» إذ رتب عليه هذا الأجر العظيم لك يا سيد الرّسل، لأن ثواب الجهاد أعظم ثواب، فأجدر أن يكون سببا لمحو ما فرط

صفحة رقم 269

منك قبله وانطماس ما سيفرط منك بعده من كلّ ما تعده ذنبا بالنسبة لمقامك الكريم وإلّا فإن الله قادر على أن يفتح لك البلاد ويخضع لك العباد دون غزو أو جهاد ولكن ليكون سنة لمن بعدك ويكون ثوابه كفارة للذنوب لهم أيضا. وقد بينا ما يتعلق في ذنوب الأنبياء في الآية ١٦ من سورة البقرة المارة. وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي فيها هذا البحث «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» بفتح البلاد الأخرى وينصرك على كلّ من يناوئك، ويظهر دينك على سائر الأديان، ويمكنك في البلاد والعباد «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» (٢) في جميع أمورك الحاضرة والمستقبلة كما هي الحال فيما مضى من أمرك لتكون ظاهرا دائما «وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» (٣) لم يسبق له مثيل وحيد في نوعه فريد في بابه لا ذلّ ولا خذلان بعده أبدا «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» فملأها طمأنينة وثباتا ووقارا حتى ساروا معك جميعهم فلم يتخلف عنك إلّا من أذنته بالتخلف، إذ لم يقع في هذه الغزوة معارضة ما من أحد، بل كان كل منهم منقادا عن شوق ورغبة وحزم «لِيَزْدادُوا إِيماناً» ويقينا وصبرا وطاعة «مَعَ إِيمانِهِمْ» الذي هم عليه. وكأن قائلا يقول كيف نصره الله مع قلة عدده وعدده بالنسبة إلى أعدائه؟ فقال تعالى جل قوله «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يكاثر ولا يغالب ولا يقابل إذ يجعلهم عونا للمؤمنين على أعدائهم ويكثر سوادهم ويقلل أعدائهم بأعينهم «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً» بجنوده الموجودين فيهما وكثرتهم وقوتهم «حَكِيماً» (٤) في نصر نبيه وأصحابه على أعدائهم بإراءتهم القليل كثيرا لإيقاع الرّعب والخوف والذل في قلوب أعدائه، وإذا أراد أرسل صاعقة تدمرهم أو صيحة من أحد ملائكته تقصف قلوبهم فتميتهم حالا، أو يخسف بهم الأرض أو يغرقهم في الماء فيهلكهم عن آخرهم، كما فعل بالأمم السّابقة، وهو القادر على إلقاء الرّعب في قلوب أعدائه والجبن والخوف من أوليائه، ويلقي الثبات في قلوب المؤمنين فيبيدوا أعداءهم مهما كانوا، وهو القادر على إبادة الكفار بما أراد من عذاب دون سبب، ولكنه أراد أن يقهرهم ويهلكهم بصورة ظاهرة بواسطة جيشه المبارك الذي تسلح بقوة اليقين ومتانة الايمان ووقاية العزم وحماية الحزم.

صفحة رقم 270

وقاية الله أغنت عن مضاعفة من الدّروع وعن عال من الأطم
«لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» الّذين جاهدوا معه «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» بسبب طاعتهم وثباتهم وبذل أموالهم وأنفسهم فى إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ويجعلهم «خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» قبل دخولها، ثم بدخلهم فيها طاهرين مطهرين «وَكانَ ذلِكَ» التكفير والتخليد في تلك الجنّات «عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» (٥) لهم لا أعظم منه، ولهذا جعل النصر والفتح على ما كان من بروزهم وجهادهم طائفين مختارين، ولا يخفى أن العطف بالواو لا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا، ولهذا جاءت جملة (وَيُكَفِّرَ) بعد جملة ليدخل. روى البخاري ومسلم عن أنس، وأخرج الترمذي، عن قتادة عن أنس قال أنزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) إلخ مرجعه من الحديبية، فقال صلّى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي اللّيلة آية أحب إلي مما في الأرض، ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم، فقالوا أصحابه هنيئا مريئا
يا رسول الله، لقد بين لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا فنزلت (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) وليس المراد نزول السّورة كلها، لأن نزولها كان بعد ذلك كما ذكرنا، وأن المراد بهذه الآية آية المبايعة الآتية وما يتعلق بواقعة الحديبية المارة في الآية ١٠ من سورة الممتحنة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنزلت علي اللّيلة آية) ولو كان كذلك لقول سورة لهذا يحتمل أنه سمعها بعد ذلك تدبّر «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» وقدم المنافقين هنا وفي أمكنة أخرى، لأنهم أشد بلاء على المؤمنين من الكافرين لاختلاطهم معهم واطلاعهم على أسرارهم باعتبار أنهم مؤمنون ظاهرا لا يحترز منهم، أما الكافرون فيحترز منهم ويتحاشى عن إفشاء السّرّ بينهم لظاهر عداوتهم، ولذلك فإن عذابهم يكون أشدّ من عذاب الكافرين، قال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بعد قوله (إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما أشرنا اليه في هاتين الآيتين ١٤٠ و ١٤٥ من سورة النّساء المارة، ثم وصفهم بما هم متلبسون به بقوله «الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ» أي بان الله لا ينصر رسوله وأصحابه ولا يرجعهم إلى المدينة في غزوتهم هذه «عَلَيْهِمْ» جزاء ظنهم هذا «دائِرَةُ السَّوْءِ»

صفحة رقم 271

والهلاك والعذاب الذي يتوخون أن يصيب المؤمنين «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» لما يحقدون على المؤمنين «وَلَعَنَهُمْ» زيادة على لعنهم الأوّل «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (٦) ومنقلبا قبيحا لأملها «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (٧) كررت هذه الآية تأكيدا، ولأن جنود السّموات والأرض منهم للرحمة قد مرّ ذكرهم في الآية الأولى قبل ذكر إدخال المؤمنين الجنّة ليكونوا معهم فيثبتوهم على الصّراط وعند الميزان، فإذا دخلوها الفوا إلى جوار الله ورحمته، فلا يحتاجون بعدها إلى شيء، ولذلك ختم تلك الآية بقوله عَلِيماً (حَكِيماً) ومنهم للعذاب فأخر ذكرهم في هذه الآية بعد ذكر تعذيب الكافرين والمنافقين ليكونوا معهم فلا يفارقوهم أبدا، ولذلك ختم هذه الآية بقوله (عَزِيزاً حَكِيماً) كقوله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) الآية ٢٠ من سورة الزمر ج ٢ وقوله (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) الآية ٤٣ من سورة القمر في ج ١ «يا أيها النبي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» على الأنبياء قبلك وأممهم وأمتك ومن توالد منهم إلى يوم القيامة «وَمُبَشِّراً» أهل الخير بالجنة دائمة النّعيم «وَنَذِيراً» ٨ لأهل الشّر بالنار دائمة الجحيم، وإنما جعلنا نبيّكم أيها العرب مخصوصا بهذه المزية «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ» تنصروه نصرا مؤزرا مع التعظيم والتبجيل «وَتُوَقِّرُوهُ» تحترموه مع الإجلال والتكريم «وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (٩) وهذه الضّمائر كلها لله تعالى. وما قيل إن ضمير تعزروه فما بعده لحضرة الرّسول وضمير تسبحوه لجلالة الإله لا يصح إلّا أن يجعل الوقف على وتوقروه وقفا تاما ثم يبتدأ مستأنفا بما بعده، وهذا بعيد، لذلك جرينا على خلافه وهو الأولى والأحسن بدليل التعليل أول الآية واجراء نسق العطف على ما هو عليه وقرئت هذه الأفعال كلها بالتاء دلالة على ذلك، ويجوز قراءتها بالياء على التبعة بطريق الالتفات والمعنى على ما هما عليه. وهذه الآيات التي نزلت بالطريق بعد منصرف رسول الله من الحديبية كما أشرنا إليه أول السّورة. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» أي المبايعين والمبايع له، واعلموا أيها المؤمنون انكم ألزمتم أنفسكم في هذه المبايعة الشّريفة النّصرة

صفحة رقم 272
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية