وزاد النسائي عن أبي هريرة نفسه قال: سجدنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.
أهوال يوم القيامة وانقسام الناس فريقين
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١ الى ١٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥)
الإعراب:
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا ظرف، والعامل فيه جوابه، وجوابه إما مقدر، أي بعثتم، أو جوابه: أَذِنَتْ والواو فيها زائدة، والتقدير: إذا السماء انشقت أذنت. وقيل: جوابه:
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ على تقدير: فيا أيها الإنسان، فحذفت الفاء، أو جوابه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ.
ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أَنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي أنه، وقد سدت مسد مفعولي ظَنَّ. وظَنَّ وما عملت فيه: في موضع رفع خبر: إن.
البلاغة:
السَّماءُ والْأَرْضُ بينهما طباق. صفحة رقم 138
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ بينهما مقابلة.
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ... إلخ سجع مرصع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
انْشَقَّتْ تشققت وتصدعت. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها استمعت له، وانقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها، انقياد المطواع الذي يأذن للأمر، والأذن: هو الاستماع للشيء والإصغاء إليه «١».
ويكون انشقاقها بالغمام، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان ٢٥/ ٢٥].
وَحُقَّتْ وحق لها أن تسمع وتطيع وتنقاد. مُدَّتْ بسطت واتسعت رقعتها بزوال جبالها وآكامها وأبنيتها. وَأَلْقَتْ ما فِيها من الموتى والكنوز إلى ظاهرها. وَتَخَلَّتْ تكلفت في الخلو أقصى جهدها، حتى لم يبق في باطنها شيء. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها سمعت وأطاعت في ذلك، أي في الإلقاء والتخلية. وَحُقَّتْ حق لها أن تسمع وتطيع، وذلك كله يوم القيامة.
وجواب إِذَا وما عطف عليها محذوف دل عليه ما بعده تقدير: لقي الإنسان عمله، أو بعثتم.
كادِحٌ جاهد ومجدّ في عملك. إِلى رَبِّكَ إلى لقاء ربك، وهو الموت.
فَمُلاقِيهِ ملاق عملك من خير أو شر يوم القيامة. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أعطي كتاب عمله. بِيَمِينِهِ هو المؤمن. حِساباً يَسِيراً سهلا لا يناقش فيه، بأن يعرض عليه عمله، كما في حديث الصحيحين، ثم يتجاوز عنه،
وفي الحديث المذكور: «من نوقش الحساب عذّب».
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي يرجع في الجنة إلى عشيرته المؤمنين، مسرورا بحسابه اليسير.
مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ هو الكافر، يؤتى كتاب عمله بشماله من وراء ظهره، قيل:
يغل يمناه إلى عنقه، ويجعل يسراه وراء ظهره. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ينادي عند رؤية ما فيه هلاكه، قائلا: يا ثبوراه، وهو الهلاك. وَيَصْلى سَعِيراً يقاسي نارا مستعرة، ويدخل نارا شديدة. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً كان في عشيرته في الدنيا فرجا بطرا باتباعه لهواه.
يَحُورَ يرجع، والمراد: أنه لن يرجع إلى ربه. بَلى أي بلى يحور ويرجع إليه، فهو إيجاب لما بعد لَنْ أي جواب لما بعد النفي، أي نعم يرجع. إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً عالما بأعماله وبرجوعه إليه، فلا يهمله، بل يرجعه ويجازيه.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما أذن اللَّه لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن» أي يتلوه يجهر به (النهاية لابن الأثير: ١/ ٣٣).
التفسير والبيان:
يخبر اللَّه تعالى عن أهوال يوم القيامة وأماراتها بقوله:
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي إذا تشققت السماء وتصدعت مؤذنة بخراب العالم، وانشقاقها من علامات القيامة، وأطاعت ربها وانقادت له فيما أمر، وحق لها أن تطيع أمره وتنقاد وتسمع لأنه العظيم القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء.
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ أي وإذا الأرض بسطت وسوّيت ووسّعت بزوال جبالها وآكامها. ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا.
ولفظت وأخرجت ما فيها من الأموات والكنوز، وطرحتهم إلى ظهرها، وخلت خلوا تاما عما فيها، وتخلت إلى اللَّه وتبرأت من كل من فيها، ومن أعمالهم.
ونظير الآية: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه ٢٠/ ١٠٥- ١٠٧].
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي استمعت وأطاعت أوامر ربها، وحق لها أن تتخلى وتستمع لما يريد ربها أن يأمرها به لأنها واقعة في قبضة القدرة الإلهية.
وجواب إِذَا محذوف لإرادة التهويل على الناس، والتقدير: إذا حدث ما حدث، رأيتم أعمالكم من خير أو شر.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ أي يا أيها الإنسان، والمراد به الجنس الذي يشمل المؤمن والكافر، إنك عامل في هذه الحياة ومجاهد ومجدّ في عملك، ومصير سعيك وعملك إلى ربك أو إلى لقائه بالموت، وإنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، أو سوف تلقى ربك بعملك. والكدح: جهد النفس في العمل حتى تأثرت.
روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال جبريل: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه».
فقوله: فَمُلاقِيهِ يعود الضمير إلى العمل من خير أو شر، وقيل: يعود الضمير على قوله رَبِّكَ أي فملاق ربك، ومعناه: فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك.
ثم ذكر أحوال الناس وانقسامهم إلى فريقين يوم القيامة، فقال: الفريق الأول- المؤمنون: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه وهم المؤمنون، فإنه يحاسب حسابا سهلا، بأن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله ويتجاوز عنها، من غير أن يناقشه الحساب، فذلك هو الحساب اليسير.
روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من نوقش الحساب عذّب، قالت:
فقلت: أفليس الله تعالى قال: فَسَوْفَ يُحاسَبُ... يَسِيراً؟ قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذّب».
وهذا الذي يعطى كتابه بيمينه ويحاسب حسابا يسيرا بالعرض يرجع إلى أهله وعشيرته في الجنة مغتبطا فرحا مسرورا بما أعطاه الله عز وجل وما أوتي من الخير والكرامة.
روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنكم تعملون أعمالا لا تعرف، ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله، فمسرور أو مكظوم».
ونظير الآية قوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة ٦٩/ ١٩- ٢١].
الفريق الثاني- الكافرون: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً أي وأما من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره حيث تثنى يده خلفه، ويعطى كتابه بها، وتكون يمينه مغلولة إلى عنقه، فإذا قرأ كتابه، نادى يا ثبوراه، أي بالهلاك والخسار، ثم يدخل جهنم، ويصلى حرّ نارها وشدتها.
ونظير الآية قوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ، فَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ [الحاقة ٦٩/ ٢٥- ٢٩].
ثم ذكر الله تعالى سببين لعذابه فقال:
١- إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي إنه كان في الدنيا فرحا لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، وإنما يتبع هواه، ويركب شهواته، بطرا أشرا لعدم خطور الآخرة بباله، فأعقبه ذلك الفرح اليسير حزنا طويلا.
٢- إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي إن سبب ذلك السرور والبطر ظنه بأنه لا يرجع إلى الله، ولا يبعث للحساب والعقاب، ولا يعاد بعد الموت.
ثم رد الله عليه ظنه قائلا:
بَلى، إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً أي بلى إنه سيحور ويرجع إلى ربه، وسيعيده الله كما بدأه، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها، فإن الله ربه كان به وبأعماله عالما خبيرا، لا يخفى عليه منها شيء أو خافية.
وفي هذا إشارة إلى أنه لا بد من دار للجزاء غير دار التكليف لأن ذلك مقتضى العلم التام والقدرة والحكمة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على ما يأتي:
١- من علامات القيامة: أولا- تصدع السماء وتفطرها بالغمام، والغمام مثل السحاب الأبيض، وثانيا- بسط الأرض ودكّ جبالها، وإخراج أمواتها، وتخليها عنهم، وكل من السماء والأرض تصغي وتسمع وتنقاد وتخضع لأمر ربها، وحق لها أن تسمع أمره.
٢- يكدح كل إنسان ويتعب في حياته، ثم يرجع يوم القيامة بعمله إلى ربه رجوعا لا محالة، فملاق ربه، أو ملاق عمله. قال قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله، فليفعل، ولا قوة إلا بالله. وهذا دليل على أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها.
٣- الناس فريقان يوم القيامة: سعداء مؤمنون وأشقياء كفار، أما الفريق الأول: فهم الذين يعطون كتب أعمالهم بأيمانهم، ويعرضون على ربهم عرضا لا مناقشة فيه، ويتجاوز الله عنهم، ويرجعون إلى عشيرتهم مسرورين، فاللهم اجعلنا منهم.
وأما الفريق الثاني: فهم الذين يتناولون كتب أعمالهم بشمائلهم مباشرة، أو بشمائلهم من وراء ظهورهم، فينادون بالهلاك على أنفسهم، فيقول الواحد منهم:
يا ويلاه، يا ثبوراه، والثبور: الهلاك والخسارة، ثم يدخلون النار حتى يصلوا حرّها.
وسبب خسار هذا الفريق: البطر في الدنيا، وإنكار المعاد والحساب والجزاء والثواب والعقاب، والله خبير بهم، عليم بأن مرجعهم إليه.
والفرح المنهي عنه: ما يتولد من البطر والترفه، لا الذي يكون من الرضى