بالأرض، وتكرير إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة، وجواب إذا محذوف تقديره وقع من الهول ما تقصر عنه عبارة الفقهاء الفصحاء ويكل عنه لسان العلماء البلغاء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» المراد به الجنس فيدخل فيه كل إنسان «إِنَّكَ كادِحٌ» جاهد وساع مدافع في عملك وسائر فيه «إِلى رَبِّكَ كَدْحاً» عظيما، الكدح عمل الإنسان جهده في الخير والشر وهو مفعول لكادح «فَمُلاقِيهِ» ٦ أي مواجه ربك يوم الجزاء فتقف أمامه فيجازيك على عملك الخير بأحسن منه والشر بمثله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» ٧ في ذلك اليوم الذي وعدكم به الرسل «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» ٨ وينال الثواب المترتب عليه «وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ» المعدين له في الجنة من أهل الجنة ومن المؤمنين المتصلين به أهل الدنيا «مَسْرُوراً» ٩ بما أوتي من الخير والكرامة وهذا الكتاب الذي يأخذه يفرح به، راجع الآية ١٩ فما بعدها من سورة الحاقة، وحق له أن يسر لأنها مؤديه إلى جنة ربه ورضاه، فمن ينجح بأعلى شهادة بالدنيا عبارة عن أنها تخوله مزاولة الطب والمحاماة أو الهندسة والزراعة أو السياسة أو القضاء من مناصب الدنيا الفانية وفي نهايتها التعب والعناء، تراه يطير فرحا، فكيف بمن يفوز بالدار الباقية وما فيها من حور وولدان ومآكل ومشارب وملابس وسرور لا يفنى، وشتان بين المسرورين كما بين الدنيا والآخرة «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» ١٠ إهانة له وكراهية لرؤيته وبعضا لإمساكه
«فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» ١١ يصيح يا ويلاه يا هلاكاه، وهذا أشد حسرة وأكثر تأثرا وأعظم حزنا ممن يسقط في آخر دورة من أدوار تعليمه إذ يرجى له أن يمهل ليكمل أو يؤذن له بما دون ذلك، وأما هذا فيلاقي العذاب الأليم ويخلد في الجحيم ولا يجاب دعاؤه ولا يسمع نداؤه «وَيَصْلى سَعِيراً» ١٢ نارا تأجج يحرق فيها لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة طيبة «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ» بدار الدنيا «مَسْرُوراً» ١٣ باتباع هواه وركوب شهوته والعكوف على ملاذه «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» ١٤ يرجع إلى ربه ولن يحيى بعد موته وليس كما ظن «بَلى» إنه يعود إلى ربه ويبعث من قبره ويحاسب على فعله «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» ١٥ من يوم خلقه إلى يوم حشره إلى
ما بعد ذلك، والبصير لا يخفى عليه شيء، وهو مبالغة من باصر، وهو من يدرك الأمور المحسوسة والمعقولة يبصره وبصيرته، ولما كان الله تعالى عالما بأحواله كلها فلا يجوز في حكمته إهماله، بل لا بد من إثابته على صالح عمله ومعاقبته على سيئه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وان النبي صلّى الله عليه وسلم قال من حوسب عذّب، قالت فقلت أو ليس يقول الله عز وجل (يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قالت فقال ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذّب. قال تعالى «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ» ١٦ الحمرة التي تبقى بالأفق بعد غروب الشمس وتظهر قبل طلوعها بعد البياض «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» ١٧ جمع وضمّ ما كان منتشرا في النهار من الناس والدواب والهوام والحيتان والطير، لأن ما كان طوره الانتشار في النهار، قد يجتمع في الليل، وبالعكس فإن ما كان منضما بالنهار قد ينتشر بالليل، ويقال طعام موسوق أي مجموع ومستوسقة مجتمعة، قال الشاعر:
إن لنا قلائصا حقائقا | مستوسقات لم يجدن سائقا |
فيوما ترانا صالحين وتارة | تقوم بنا كالواسق المتلبّب |
وما المرء إلا كالشهاب ووضوءه | يحور رمادا بعد إذ هو ساطع |
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا | والموت أكرم نزال على الحرم |
ولا حاجة هنا لتقدير لفظ (رب) أي أقسم برب الشفق كما قاله بعض المفسرين، لأن الله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه جمادا كان أو ناميا، وحكم لا في هذا القسم حكمها في (لا أقسم بيوم القيامة) المارة في ج ١ فراجعها. قال تعالى «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» ١٨ ثمّ نوره وجمع وكملت استدارته فصار بدرا «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» ١٩ أي لتداولنّ أيها الناس في حياتكم ومماتكم حالا بعد حال مماثلة ومطابقة وموافقة لأحتها في الشدة والهول، قال الأعرج بن جابس:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره | وساقي طبق منه إلى طبق |
ما زلت أقطع منها منهلا عن منهل | حتى أنخت بباب عبد الواحد |
وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، وعلى هذا المعنى ما جاء في القاموس من جملة معاني الطبق، ويأتي بمعنى القرآن، قال العباس بن عبد المطلب يمدح حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت | الأرض وضاء بنورك الأفق |
تنقل من صالب إلى رحم | إذا مضى عالم بدا طبق |
قال فمن؟ أي فمن دونهم أو من قبلهم أو هم أنفسهم، وهو حديث صحيح ولكن لا يراد أنه جاء مفسرا لهذه الآية، تدبر ومن خصّ هذا الخطاب لسيد المخاطبين صفحة رقم 433
لحضرة الرّسول بصورة المعاهدة والمواثقة «فَمَنْ نَكَثَ» فيها ونقض عهده الذي أعطاه لك يا سيد الرّسل «فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» ولن يضرّ الله شيئا بل يعود ضرره على نفسه «وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ» في هذه البيعة والعهد «فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (١٠) في الآخرة وفخرا كبيرا في الدنيا. واعلم أن الهاء في عليه المارة في هذه الآية تقرأ بالضمّ، ولا يوجد في القرآن غير هذه الهاء مضمومة بعد على تفخيما للفظة الجلالة، وأجمعت القراء عليه بالتلقي من حضرة الرّسول وأصحابه من بعده، ويوجد في الآية ٦٩ من سورة الفرقان في ج ١ (فِيهِ) تقرأ بإشباع الهاء كسرا، كذلك وردت بالتلقي أيضا فلا يجوز كسر الأوّل ولا تخفيف الثاني تبعا لقواعد الإعراب والنّطق لأنهما مستقاة من القرآن والمنزل عليه. واعلم أن هذه البيعة هي الواقعة تحت الشّجرة في الحديبية المشار إليها في الآية ١٧ من سورة الممتحنة المارة، ومعنى المبايعة هي العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل طاعته
للسلطان ويلزمه الوفاء بها وبكل عهد ألزم نفسه به، راجع الآية ٩٢ من سورة النّحل في ج ٢ وما ترشدك إليه.
وتسمى هذه البيعة بيعة الرّضوان لابتداء الآية بقوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ) إلخ كما سيأتي بعد في هذه السّورة، والمبايعة مع الرّسول مبايعة مع الله تعالى، كما أن المبايعة مع السّلطان المسلم مبايعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم،
قال تعالى «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ» من غفار ومزينه وجهينة وأشجع وأسلم، وذلك حين رجوعه من غزوته هذه إلى المدينة، أي غزوة الحديبية معتذرين من تخلفهم عن الذهاب معه، وهذا من الإخبار بالغيب أيضا لأن هذه الآيات نزلت في الطّريق قبل وصوله المدينة وتقدم المعتذرين لحضرته بالاعتذار وهو قولهم لك إنا لم نتخلف عنك كلا ولا جبنا ولا لأمر آخر وإنما «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا» عن استصحابك إذ ليس لنا من يخلفنا عليهم ويقوم بأمورهم فيكون خليفتنا فيهم «فَاسْتَغْفِرْ لَنا» يا رسول الله، لانا معترفون بالإساءة والتقصير مع عذرنا هذا راجع الآية ٦٤ من سورة النّساء المارة، فأكذبهم الله بقوله «يَقُولُونَ» لك يا أكمل الرّسل هذا القول «بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ»
من حقيقة التخلف لأنهم أرادوا به تقليل سواد جيش المؤمنين وخذلانهم وأن يبينوا لأهل مكة أنهم ليسوا مع الرّسول بسبب ما هو كامن في قلوبهم من النّفاق والعداء للرسول وأصحابه، فهذا هو سبب تخلفهم لا ما اختلقوه من العوز الكاذب، وان طلبهم الاستغفار صورة، لأنهم لا يعتقدون منفعته وحقيقته «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الكاذبين إذا كان الأهل والمال عائقين عن الذهاب للجهاد أو لمجرد استصحابك «فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا» القتل أو الهزيمة أو خلل بالمال والأهل أو مجرد عقوبة على تخلفكم هذا «أَوْ أَرادَ بِكُمْ» ما يضاد ذلك من كلّ أنواع الخير مما يعدّ رزقا تنتفعون به «نَفْعاً» هل ينفعكم غير الله، وهل يكشف الضّر عنكم غيره؟ فسيقولون لك كلا لا أحد البتة، ولذلك فلا محل لقبول عذرهم «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (١١) وقد أخبر الله رسوله بأنكم ستعتذرون في هذه الأعذار الواهية بألسنتكم وتخفون ضدها، والأمر ليس كما ذكرتم بل كما قلت لكم «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً» وقلتم إن أهل مكة سيستأصلونهم جميعا فلا يرجعون إلى المدينة «وَزُيِّنَ ذلِكَ» الظن من قبل الشّيطان «فِي قُلُوبِكُمْ» وقطعتم بصدقه «وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ» بأن الله تعالى مخلف وعده لرسوله فينهزم ويغلب «وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» (١٢) بائرين هالكين «وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» ويظن بهما هذا الظّن السّيء الذي يؤدي إلى كفره «فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» سماهم كافرين هنا لأنهم ظنوا بالله اخلاف وعده لرسوله، ومن يظن هذا الظّن فهو كافر ويكون مأواه «سَعِيراً» (١٣) نارا متأججة، لأنه لم يصدق قول الله ورسوله ولو صدق لما ظن هذا الظّن، ثم إن الله تعالى لم يقطع أمل المنافقين منه إذا تابوا وأنابوا ونصحوا، وقد فسح لهم الأمل بقوله جل قوله «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يقيم فيهما من يشاء من خلقه وكلّ من وما فيهما ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ويختار طائعهم وعاصيهم «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (١٥) بخلقه لا يزال يقبلهم
إذا رجعوا إليه مخلصين، ثم ان حضرة الرّسول بعد أن وصلوا المدينة صار يعرض بغزو خيبر لأن الله فتحها وتخصيص غنائمها بالّذين شهدوا الحديبية وأخبره الله بما سيقول الّذين لم يشهدوها معه بقوله «سَيَقُولُ» لك «الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» وقد أظهر الله تعالى كذب عذرهم في قولهم هذا لأنهم لم يحتجّوا بأشغالهم وأموالهم وأهليهم كما ذكروا قبل عند طلبهم الاستغفار لما في هذه الغزوة من أمل الغنيمة، بخلاف الحديبية لأنها كانت للزيارة فقط، وبان بهذا أن مبنى حالهم على الطّمع ليس إلا «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا» بطلبهم هذا الالتحاق معكم «كَلامَ اللَّهِ» الأزلي القاضي بعدم ذهابهم وباختصاص غنائم خبير لأهل الحديبية، فإذا قبلتم طلبهم فينبغي أن تشركوهم بالغنائم، والله تعالى لم يرد ذلك، فكأنهم غيروا كلام الله، وهذا هو قصدهم ليس إلّا فيا سيد الرّسل «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» أبدا ما دمتم على نفاقكم لا مطلقا لمنافاته لما يأتي بعد «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ» وأوحى إلى نبيه به «مِنْ قَبْلُ» وصول المدينة أثناء رجوعه من الحديبية لا الآن «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا» على ما يصيبنا مما تعنونه. قال تعالى «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (١٥) من كلام الله مما فيه نفع لهم فقط وهذا هو الذي سبب حرمانهم لا من كون المؤمنين يحمدونهم. فيا أكمل الرّسل «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى» قتال «قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» وعزم قوي، فإن أطعتم «داعيكم إلى قتالهم كنتم مؤمنين حقا ولكم الأجر من الله
والنّعمة والمغفرة كما سبق من ذنوبكم كلها إلى يوم تلبيتكم هذه الدّعوة، وإذا أعرضتم وثبّتم على نفاقكم فلكم العذاب الأليم على ما اقترفتموه وهؤلاء الّذين ستدعون إلى قتالهم «تُقاتِلُونَهُمْ» فتقتلونهم «أَوْ يُسْلِمُونَ» فيسلمون لكم ويؤمنون بالله ورسوله ولكم بذلك الثواب الذي ما فوقه ثواب، لا يقاس بكل الغنائم، قال صلّى الله عليه وسلم لأن يهدبك الله رجلا خير لك من حمر النّعم. وفي هذه الآية بشارة لتحقيق أحد الأمرين النّصر والظّفر أو الإسلام والإيمان «فَإِنْ تُطِيعُوا» من يدعوكم لقتالهم «يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً لقاء إطاعتكم هذه وكذلك كلّ طاعة لرسولكم وإمامكم وأميركم
يكون لكم فيها الأجر الحسن والثواب الجليل «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ» عن واقعة الحديبية «يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» (١٦) لا تطيقه أجسامكم، وهؤلاء القوم الّذين وصفهم الله بالحزم البالغ هم هوازن وثقيف لأنهم من أشد العرب بأسا، وقد نزلت هذه الآية فيهم، والله أعلم، والدّاعي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا التفسير والتأويل أنسب بالمقام لأنه بمعرض الامتحان للمنافقين المذكورين، وان قوله تعالى (لَنْ تَتَّبِعُونا) مقيد بأمرين في غزوة خيبر لما سبق من أن الله تعالى خصص غنائمها لأهل الحديبية، واستمرارهم على النّفاق، وعليه فإنهم إذا آمنوا وصدقوا بقلبهم ولسانهم ونصحوا الله ورسوله فلا مانع من اتباعهم لحضرة الرّسول في غزواته الأخر. وما قاله بعض المفسرين من أن المراد بهم فارس والرّوم حينما دعاهم إلى حربهما عمر رضي الله عنه زمن خلافته وإن هذه من قبيل الأخبار بالغيب بعيد عن المعنى المراد بسياق الكلام وسياقه، وأبعد منه القول بأنهم بنو حنيفية أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب حينما دعاهم لحربهم أبو بكر رضي الله عنه في خلافته، لأن ما نحن فيه ينافي هذين الأمرين لما فيه من عود الكلام إلى غير مذكور، ولا يوجد ما يدل عليه، ولا هو معلوم أو مشهور راجع الآية ٢٢ من سورة ص في ج ١ وما هو في معناها مما رمزنا إليه في تفسيرها وإن عود الكلام إلى ما سبق له ذكر كما جرينا عليه أولى بالمقام وأنسب للمعنى المراد وأحسن، ولأن هاتين الحادثتين وقعتا بعد نزول هذه الآية بسنتين وكونها من الأخبار بالغيب جائز ككثير من أمثالها، ولكن مناسبتها لما قبلها يبعد ذلك والله أعلم، واعلم أن كلّ من تخلف عن دعوة الإمام إلى الحرب دون عذر شرعي فهو منافق يدخل دخولا أوليا في هذه الآية، لأن تخلفه دليل على عدم نصحه لامامه، وإن ما في قلبه مخالف لما في لسانه، وإن حضرة الرّسول لو لم يدعهم إلى جهاد هوازن وثقيف حينما استنفر النّاس لحرب حنين وبني المصطلق الآتي ذكرهما بعد في سورة التوبة الآتية التي قصد بها اختبارهم وإظهار رجوع من رجع منهم عن نفاقه لما جاز، بل لا متنع أبو بكر وعمر من الاذن لهم بالخروج معهم إلى الجهاد كما امتنعا من أخذ الزكاة من ثعلبة لا متناع رسول الله من أخذها منه، وكما
صفحة رقم 276
امتنعا من إعادة مروان بن الحكم من منفاه لأن حضرة الرّسول طرده من المدينة لأنهم لا يخالفون رسولهم قيد شعرة قولا ولا فعلا حيا كان أو ميتا، وهذا مما يدل على صحة ما ذكرناه وعلى أن الدّاعي هو حضرة الرّسول لا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. واعلم أن من قال أن الدّاعيين أبو بكر وعمر استدل على صحة خلافتهما، إذ وعد المدعوين بالثواب على طاعة الدّاعين وليس بشيء، وخلافتهما لا يمتري فيها إلّا منافق أو حسود فاسق. ولما سمع الزمنى والمرضى والعرج والعميان هذه الآية قالوا كيف حالنا يا رسول الله؟ فأنزل الله جل شأنه «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» في التخلف عن الجهاد لعدم قدرتهم على الكر والفر ويدخل في هذه الآية الفقير الذي لا يمكنه استصحاب ما يلزمه من أدوات الجهاد ولم يمنحه الإمام أو الأمير شيئا يكفيه لذلك ويدخل في هذه الآية من يمرض المريض كما سيأتي في الآيتين ٩٣ و ٩٤ من سورة التوبة الآتية، أما ما جاء في آية النّور ٦٢ المارة المضاهية لهذه الآيات من حيث اللّفظ فهي في حق الأكل لا في حق الجهاد إذ كلّ منها جاءت لمناسبة ما قبلها «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ» عن
أمرهما ويعرض عنهما «يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» (١٧) في الدنيا والآخرة. قال تعالى «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ» من الصّدق والإخلاص في بيعتهم لك والوفاء بما عاهدوك به وواثقوك عليه، لأنهم صرحوا بالموت وعدم الفرار في مبايعتهم وما بعد هذا من وفاء كما علم ما في قلوب المنافقين من الشّك والنّفاق والظّن السّيء «فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ» وثبتهم واطمأنت نفوسهم «وَأَثابَهُمْ» على ذلك «فَتْحاً قَرِيباً» (١٨) لأراضي خيبر وقراهم «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها» منها ومن غيرها فيما يأتي من الزمن إلى يوم القيامة إن شاء الله «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (١٩) ولم يزل كذلك على الدّوام والاستمرار «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ» مغانم خيبر لتسدوا حاجتكم فيها، وهي في جنب ما يأتيكم بعد قليل من كثير، وفيها إشارة إلى كثرة