للوصول إلى الكنز والله أعلم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
القراآت:
أن تكون بالتاء الفوقانية: أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد أسارى يزيد والمفضل. الآخرون أَسْرى من الأسارى. يزيد أبو عمرو والمفضل. الباقون من الأسرى. مِنْ وَلايَتِهِمْ بكسر الواو حمزة. والباقون: بفتحها.
الوقوف:
فِي الْأَرْضِ ط لتقدير الاستفهام أي أتريدون الْآخِرَةَ ط حَكِيمٌ هـ عَظِيمٌ هـ وَاتَّقُوا اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ مِنْهُمْ ط حَكِيمٌ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط حَتَّى يُهاجِرُوا ج مِيثاقٌ ط بَصِيرٌ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط كَبِيرٌ هـ حَقًّا ط كَرِيمٌ هـ مِنْكُمْ ط فِي كِتابِ اللَّهِ ط عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى ما كان ما صح وما استقام والإثخان كثرة القتل وإشاعته من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والمعنى فيه تذليل الكفر وإضعافه وإعزاز الإسلام وإظهاره بإشاعة القتل في الكفرة.
روي أن رسول الله ﷺ أتى بسبعين أسيرا- فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب- فاستشار أبا بكر.
فيهم فقال: قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء، مكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب
له فلنضرب أعناقهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله ليليّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: ٣٦] ومثلك يا عمر مثل نوح قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦] ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق.
وروي إنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم. فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية.
وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما.
وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر على رسول الله ﷺ فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه.
وروي أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر. وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إليّ.
واعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام تمسكوا في هذا المقام بوجوه: الأول: وَما كانَ لِنَبِيٍّ صريح في النهي وقد حصل الأسر بدليل قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى. الثاني: أنهم أمروا بالقتل يوم بدر في قوله فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ فكان الأسر معصية. وأجيب بأن قوله حَتَّى يُثْخِنَ يدل على أن الأسر كان مشروعا ولكن بشرط الإثخان ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقا عظيما فلعل العتاب إنما ترتب لأن الإثخان أمر غير مضبوط فظنوا أن ذلك القدر من القتل بلغ حد الإثخان فأخطأوا في الاجتهاد وكان قوله فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ تكليفا مختصا بحالة الحرب فلم يتناول الأسر بعد انهزام الكفار. الثالث: قالوا: الحكم بأخذ الفداء معصية وإلا لم يتوجه الذم في قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي حطامها سمي بذلك لأنه سريع الزوال كالعرض قسيم الجوهر وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي ثوابها أو ما هو سبب الجنة وهو إعزاز الإسلام بإشاعة القتل في أعدائه. وقرىء بجر الآخرة أي عرض الآخرة على التقابل. وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياؤه على أعدائه ويقهرونهم ويلجئونهم إلى القتل والفداء بعد الأسر ولكنه حَكِيمٌ لا يرخص في أخذ الفداء إلا بعد إفشاء القتل في الأعداء.
والجواب أن كل ذلك محمول على ترك الأولى وكذا الكلام في قوله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحدا يخطىء في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وحصول أولاد
منهم مسلمين، وإن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم. قال ابن عباس: هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي إسلامهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤] قال بعض العلماء: هذا الكلام يوهم أن مقتضى الآيتين مختلف وليس كذلك فإن كلتاهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان على الداء. وعن سعيد بن جبير لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بأنه سيحل لكم الفدية وكأن قرب الوقت من التحليل يوجب تخفيف العقاب. وقال محمد بن إسحق لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي. وحاصل هذا القول يرجع إلى ترك الأولى ذلك أن الأولى وغير الأولى يشتركان في كونهما مباحين وإنما يعاتب على ترك الأولى لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحث على فعل الأولى. وعن بعضهم المراد حكم الله بأنه لا يعذب من شهد بدرا. واعترض بأنه يلزم أن لا يكونوا مكلفين. والجواب أن عدم العقاب على الذنب لا يوجب عدم التكليف فلعل التكليف لأجل زيادة الثواب.
وقيل: لولا كتاب سبق بالعفو عن هذه الواقعة لكان استحقاق مس العذاب حاصلا.
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم أو عن أخذ الفداء لأنه من جملة الغنائم فنزلت فَكُلُوا
والفاء للتسبيب ومعنى الآية قد أبحت لكم الغنائم فكلوا وحَلالًا نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم تؤمروا به إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط منكم من ترك الأولى رَحِيمٌ فبذلك رخص لكم فيما رخص من أخذ الفداء ثم قال لاستمالة قلوب الأسارى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ إن يظهر معلومه أن فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً وهو الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته يُؤْتِكُمْ في الدنيا خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من المنافع العاجلة وَيَغْفِرْ لَكُمْ في الآخرة، أو المراد بالخير إيصال الثواب وبالمغفرة إزالة العقاب. ثم إنا قد نعلم أن كل من خلص من الأسر وآمن فقد آتاه الله في الدنيا خيرا لدلالة الآية على ذلك إجمالا، وذلك الخير إن كان دينيا فلا شك أن كلهم قد وجدوا ذلك لأن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر، وإن كان دنيويا فتفضيل ذلك غير معلوم إلا ما
روي عن بعضهم كالعباس روى أن رسول الله ﷺ قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو
المغفرة.
وقال ابن عباس: نزلت الآية في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث.
وكان العباس أسر يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه النوبة حتى أسر فقال العباس. كنت مسلما إلا أنهم استكرهوني فقال صلى الله عليه وسلم: إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال العباس: وكلمت رسول الله ﷺ أن يترك ذلك الذهب عليّ فقال: أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا. قال: وكلفني الرسول ﷺ فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن الحرث. فقال العباس:
تركتني يا محمد أتكفف قريشا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي فإن حدث فيّ حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل. فقال العباس: وما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي. قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابا في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جمع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
ثم قال وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي نكث ما بايعوك عليه،
روي أنه ﷺ لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاضدة المشركين كما هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر.
وقيل: المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء. فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه. فَأَمْكَنَ أي المؤمنين مِنْهُمْ يوم بدر قتلا وأسرا فذاقوا وبال أمرهم فسيمكن المؤمنين منهم مرة أخرى إن أعادوا الخيانة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيجازيهم على حسب أعمالهم.
واعلم أن رسول الله ﷺ إنما ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ثم انتقل منها إلى المدينة، فمن المؤمنين من وافقه في الهجرة وهم المهاجرون الأولون، ومنهم من لم يوافقه في ذلك، ومنهم من هاجر بعد هجرته فذكر في خاتمة هذه السورة أحكام هذه الأصناف وأحوالهم مع ذكر أنصاره بالمدينة ومع ذكر الكفار أيضا فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ويدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والانقياد لجميع التكاليف وَهاجَرُوا فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أما المجاهدة بالأموال فلأنهم إذا فارقوا الديار ضاعت
مساكنهم ومزارعهم وضيعاتهم وبقيت في أيدي الأعداء واحتاجوا إلى الإنفاق في تلك العزيمة والسفرة وفي الغزوات والمحاربات، وأما المجاهدة بالأنفس فيكفي في وصف ذلك أنهم أقدموا على قتال أهل بدر من غير آلة ولا عدّة والأعداء في غاية الكثرة ونهاية الشدّة، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وكانوا أول الناس إقداما على هذه الأفعال والتزاما لهذه الخصال، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الحديد: ١٠] وذلك أن غيرهم يقتدي بهم وتقوى دواعيهم بما يرون منهم، والمحن تخف على القلوب بالمشاركة، ولأن المهاجرين لهم سابقة في الإسلام ذكر الله تعالى الأنصار بعدهم فقال وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي الذين أنزلوا المهاجرين بهم وجعلوا لهم مأوى أي نصروهم على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أطبق جم غفير من المفسرين كابن عباس وغيره على أن المراد بهذه الولاية الإرث كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون القرابة حتى نسخ ذلك بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ واستبعد الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله هذا التفسير لأنه يستلزم النسخ واستلزام النسخ محذور منه ما أمكن، ولأن لفظ الولاية يشعر بالقرب حيث يطلق دون الإرث كقولهم: السلطان ولي من لا ولي له. وقال سبحانه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [يونس: ٦٢] فإذن المراد أن المهاجرين والأنصار يعظم بعضهم بعضا وبينهم معاونة وتناصر وأنهم يد واحدة على الأعداء، وأن حب كل واحد لغيره جار مجرى حبه لنفسه، أما قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فوجهت قراءة حمزة بأن تولي بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة والتجارة والقصارة كأنه بتولية صاحبه يزاول أمرا ويباشر عملا. قال المفسرون: لا يجوز أن يكون المراد بهذه الولاية النصرة والمعونة وإلا لم يصح عطف وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ
عليه لأن الشيء لا يعطف على مثله، فالمراد بها الإرث كما مر. وأجيب بأنا لو حملناهما على التعظيم زال الإشكال وحصل التغاير لأن أهل الإيمان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض الأحوال مع أنهم لا يوالونهم بمعنى الإجلال والتعظيم، وكذا قد ينصر المرء عبده ولا تعظيم جعل الله تعالى حكم هؤلاء المؤمنين متوسطا بين الأولين وبين الكفرة من حيث إنه نفى عنهم الولاية قبل أن يهاجروا وأثبت لهم النصرة عند الاستنصار إلا على الكفار المعاهدين لأنهم لا يبدأون بالقتال. ثم قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ظاهره إثبات الموالاة بينهم والغرض نهي المسلمين عن موالاتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا
يتوارث بعضهم بعضا. وفيه أن المشركين واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد ﷺ صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وإن كان كل واحد منهم في نهاية الإنكار لصاحبه وذلك من أدل الدلائل أن تلك العداوة ليست لأجل الدين ولكنها محض الحسد والعناد، ومن جعل الولاية في هذه الآيات بمعنى الإرث استدل بذلك على أن الكفار في التوارث على اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة، فالمجوسي يرث الوثني، والنصراني يرث المجوسي، واليهودي يرث النصراني وبالعكس. ثم قال إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي ما أمرتكم به من موالاة المسلمين المهاجرين ومن عدم موالاة غير المهاجرين إلا في حالة الاستنصار ومن عدم موالاة الكفرة أصلا تَكُنْ فِتْنَةٌ أي تحصل مفاسد عظيمة فِي الْأَرْضِ من تفرق الكلمة واختلاط المؤمن بالكافر
ووقوع الهرج والمرج. ثم كرر تعظيما لشأن المؤمنين وثناء عليهم قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الآية. فوصفهم بأنهم هم المؤمنون حقا ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقد تقدم تفسير مثله في أول السورة. والحاصل أن هذه السعادات العالية إنما حصلت لهم لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال، وفيه تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات. ثم وصف اللاحقين بالهجرة بعد السابقين إليها فقال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ نقل الواحدي عن ابن عباس: أن المراد بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية. وقيل: بعد نزول الآية. وقيل: بعد يوم بدر والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ألحقهم بالأولين تشريفا للآخرين وتعظيما لشأن السابقين، ولولا كون القسم الأول أشرف لما صح هذا الإلحاق. ثم ختم الكلام بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أي أحق بهم وأجدر فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه وقسمته أو في اللوح أو في القرآن وهو آية المواريث. وهذه الآية ناسخة عند الأكثرين للتوراث بالهجرة والنصرة، أما الذين فسروا تلك الولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم فإنهم قالوا: لما كانت تلك الولاية مخالفة للولاية بسبب الميراث بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة ذلك الوهم أعني إزالة وهم من يجعل الولاية بمعنى الإرث. وقد تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام وهم ذوو قرابة ليست بسبب فرض ولا عصوبة أو كل قريب يخرج عن أصحاب الفروض والعصبات وإنهم عشرة أصناف: الجد أو الأم وكل جد وجدة ساقطين، وأولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وبنو الإخوة للأم والعم للأم،
وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات. والخلاف في أنه إذا لم يوجد ذو فرض أو عصبة فهل يورث ذوو الأرحام أو يوضع المال في بيت المال؟ فقدمهم أبو حنيفة على بيت المال للآية، وعكس الشافعي وقال: إن الآية مجملة في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلما قال فِي كِتابِ اللَّهِ كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه فصارت هذه الآية مقيدة بأحكام آية الميراث فلا تبقى حجة في توريث ذوي الأرحام. واعلم أنه سبحانه قال في أول الآيات وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في براءة بتقديم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأن في هذه السورة تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة في قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وفي قوله لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ أي من الفداء وفي قوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ وفي براءة تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله وهو قوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة: ١٦] وفي قوله كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: ١٩] ثم إنه حذف من الآية الثانية بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ اكتفاء بما في الأولى وحذف في الثالثة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أيضا اكتفاء بما في الآيتين قبلها والله أعلم. ثم ختم السورة بقوله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكم وصواب وصلاح وليس فيها عيب وعبث، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أن الملائكة لما قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قال مجيبا لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: ٣٠].
التأويل:
ما كانَ لِنَبِيٍّ الروح أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى أي نفس مأسورة وقوى موجهة إلى تدبير أمور المعاش والدعوة إلى الله وإن كان تصرفا بالحق للحق حتى يشيع في أرض البشرية قتل القوى والنفوس المنطبعة بسيف الرياضة والمجاهدة، لهذا كان رسول الله ﷺ قبل الوحي يتحنث في غار حراء تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وطبعه يكون مائلا إلى الدنيا راغبا فيها وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ منكم أي ليس الإنسان من سجيته وطبعه أن يميل إلى الآخرة إنما هو بتوفيق الله إياه وبعنايته الأزلية لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بأن الإنسان لا يكون منجذبا نحو عالم الأرواح بالكلية وإنما يكون متوسطا بين العالمين مراعيا للطرفين لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ من فداء النفس المأسورة وهو التفاتها إلى تدبير البدن عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب القطيعة والبعد عن عالم النور فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من أوقات الجهاد الأكبر من الأنوار والأسرار عند رفع الأستار حَلالًا طَيِّباً نفوسكم عن لوث محبنها فكل ما يشغل المرء عن الالتفات إلى الله فهو شرك وصنم. وَاتَّقُوا اللَّهَ عما سواه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر بأنوار
وجوده ظلمات وجودكم رَحِيمٌ بكم حيث يغنيكم عنكم ويبقيكم به. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى من النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عند استيلاء سلطان الذل عليها إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً من الاطمئنان إلى ذكر الله والانقياد لأحكامه يُؤْتِكُمْ خَيْراً مما أخذ منكم من اللذات الفانية وأسبابها وذلك هو البقاء الحقيقي والذوق السرمدي وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعني الميل إلى ما جبلت النفوس عليه من طموح إلى الزخارف الدنيوية فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بالتجاوز عن حدود الشريعة ورسوم الطريقة فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ عند استيلاء الذكر عليها وقتلها بسيف الرياضة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالها حَكِيمٌ فيما دبر من أمر جهادها وتزكيتها. وَالَّذِينَ آوَوْا ذكر الله ومحبته في القلوب وَنَصَرُوا المحبة بالذكر الدائم والطلب القائم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في المرافقة والموافقة في الطلب والسير إلى الله وَالَّذِينَ آمَنُوا بأن الطلب حق وَلَمْ يُهاجِرُوا عن أوصافهم وأفعالهم ووجودهم المجازي. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ تمسكوا بأذيال إرادة الواصلين منكم فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ بأن تدلوهم على طريق الحق بمعاملتكم وسيركم ليقتدوا بكم وبأحوالكم إِلَّا عَلى قَوْمٍ أي إلا على بعض أحوالكم مما سالحتهم عليه نفوسكم بعد ما جاهدتموها وأسرتموها وأمنتم شرها، فلا تدلوا الطلاب على هذه الأحوال لئلا يميلوا إلى الصلح في أوان الجهاد فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يشير إلى أن المتأخرين إذا دخلوا في زمرة المتقدمين الواصلين فهم منهم وإنهم ذوو رحم الوصول لأنه ليس عند الله صباح ولا مساء ولهذا
قال عليه الصلاة والسلام: «أمتي كالمطر لا يدري أوّلهم خير أم آخرهم».