آيات من القرآن الكريم

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ

في الواجب والتطوع. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب، من الخشية والإخلاص والتوكل، ومحاسن أعمال الجوارح التي هي العِيار عليها، كالصلاة والصدقة، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: كرامات وعلو منزلة، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، وَمَغْفِرَةٌ لما فرط من ذنوبهم، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أعده لهم في الجنة، لا ينقطع مدده، ولا ينتهي أمده، بمحض الفضل والكرم.
الإشارة: الانفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب، من حضرة الغيوب من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، لا تزال تتوالى على القلوب، حتى تغيب عما سوى المحبوب، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً، وهذه غنائم خصوص الخصوص، وغنائم الخصوص: هي القرب من الحبيب، ومراقبة الرقيب، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد، وهذه غنائم العباد والزهاد، وغنائم عوام أهل اليمين: مغفرة الذنوب، والستر على العيوب، والنجاة من النار، ومرافقة الأبرار، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ: أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم وَأَتُوبُ إِليْهِ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زبد البحر، وعدد الرمال وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» «١».
قال الشيخ زروق: وهذه هي الغنيمة الباردة، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو معنى قوله:
قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، ثم دل على موجباتها فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ... الآية، وقوله تعالى: زادَتْهُمْ إِيماناً: اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام: إيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو إيمان الملائكة، وإيمان يزيد وينقص، وهو إيمان عامة المسلمين، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين، ومَنْ تعلق بهم من المريدين السائرين، فهؤلاء إيمانهم دائما فى الزيادة، وأرواحهم دائما فى الترقي فى المعرفة، يزيدون بالطاعة والمعصية لتيقظهم وكمال توحيدهم، وفي الحكم: «وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول». وقال أيضا: «معصية أورثت ذُلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً» والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على الخروج إلى غزوة بدر، فقال:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٦]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)

(١) أخرجه الترمذي فى (الدعوات- باب ١٧) من حديث أبى سعيد رضى الله عنه.

صفحة رقم 305

قلت: (كما أخرجك) : خبر عن مبتدأ محذوف، أي: هذه الحال، وهي عزلهم عن تولية الأَنفال في كراهتهم لها، كحال إخراجك في الحرب في كراهتهم لها، أو حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة، مثل حالهم في كراهية خروجك، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله: لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، أي: الأنفال تثبت لله وللرسول صلّى الله عليه وسلّم، مع كراهتهم، ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربُّك من بيتك، يعني المدينة لأنها مسكنه أو بيته منها، وجملة: (وإن فريقاً) :
حال مِن أخرجك، أي: أخرجك في حال كراهية فريق من المؤمنين.
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلّم: قد كره أصحابُك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ لقتال العدو، والحال أن فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ خروجك لذلك، وتلك الكراهية من قِبل النفس وطبع البشرية، لا من قِبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله، فإنهم راضون مستسلمون، غير أن الطبع ينزع لِحَظَّه، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده.
وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ أي: يخاصمونك في إيثارك الجهاد لإظهار الحق، حيث أرادوا الرجوع للمدينة، وقالوا: إنا لم نخرج لقتال، قالوا ذلك بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لهم أنهم منصورون أينما توجهوا، بإعلام الرسول لهم، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة، كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي: يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت، وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، إذ رُوي أنهم كانوا رجّالة، وما كان فيهم إلاَّ فارسان، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يخرج لقصد الجهاد، وإنما لملاقاة عير قُرَيْش، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ، ومعها أربعُون رَاكباً، فيهم أَبُو سُفْيان، وعمرو بنُ العاص، ومخرفة بن نوفل، وعمرو بن هِشَام، فأراد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلّم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة، حيث أخبره جبريلُ بقدومها من الشام، فأخبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين، فأعْجَبَهُم تلقيها، لكثرةِ المال وقلةِ الرجالِ، فلما خرجُوا، بَلَغ الخبرُ أبا سفيان، فسلك بالعير طريق السَاحِل، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعيرهم، نادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة، النَّجَاء النجاء، على كل صَعْبٍ وذَلُولٍ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إن أصَابَهَا مُحَمَّدٌ لن تُفْلِحُوا بعدها أبداً.
وقد رأت، قبل ذلك بثلاث ليال، عاتكةُ بنت المطلب، رؤيا وهو أن رجلاً تمثل على جبل قبيس فنادى:
يا آل لكع، اخرجوا إلى مصارعكم، ثم تمثل على الكعبة، فنادى مثل ذلك، ثم أخذ حجراً فضرب به، فلم يبق بيت في مكة إلا دخلة شيء من ذلك الحجر، فحدثت بها العباس، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم؟ لنتربص ثلاثاً، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بني هاشم أنكم أكذب بيت في العرب، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسولُ أبي سفيان ليستنفرهم.

صفحة رقم 306

فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة، ومضى بهم إلى بدر، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة، وكان رسول صلّى الله عليه وسلّم بوادي ذَفِران، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين: إما العيرُ وإما قُرَيْش، فاستشار فيه أصحابه، فقال بعضهم: ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له، وردد عليهم وقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول الله، عَلَيكَ بالعيرِ ودَع العَدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقام أبو بكر وعُمَرُ فأحْسَنَا، ثم قام سَعْدُ بن عُبادة فقال: انظرُ فى أمرك، وامض، فو الله لَو سِرْتَ إلى عَدَنٍ ما تَخَلَفَ رجلٌ مِنْ الأنْصارِ، ثم قام المقِدَادُ بنُ عَمْرٍو فقال: امْضِ يا رسول الله لما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببتَ، لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «١»، ولكن اذهب أنت وربك فقاتِلاَ إنا معكُما مقاتلونَ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أشيروا عَلَيَّ أيّها الناسُ، يريدُ الأنصار لأنهم كانوا عددهم، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم بُرءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف ألاّ يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سَعْدُ بنُ معَاٍذ وقال: لَكأنَّكَ تُرِيدُنَا يا رسولِ الله؟ فقال: أجَلْ، فقال: قد آمنّا بِك وصَدَّقْنَاكَ، وشهدنا أن ما جئْتَ بِهِ هو الحقُّ، فأعطَيْنَاكَ على ذلِك عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا على السَّمْعِ والطَّاعّةِ، فامْضِ يا رَسُولَ اللهِ لما أردت، فو الذي بَعَثَكَ بالْحق لو اسْتَعْرَضت بنا هذا البَحْرَ فخُضته لخضْنَاهُ مَعَكَ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ، وما نَكرَهُ أن تَلقِي بِنَا عَدُوِّنَا، وإنا لَصُبُرٌ عِندَ الحَربِ، صُدُقٌ عندَ الِّلقَاءِ، ولعَلَّ اللَّهَ يُريكَ منا ما تقرُّ بِه عينُكَ، فَسِرْ بنا على بَركَةِ اللهِ، فنشطه قوله، ثم قال: «سيروا على بَركَةِ الله، وأبْشِرُوا فِإنَّ الله قد وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائفَتَينِ، واللهِ لكأنّي أنْظرُ إلى مَصارع القَوْم».
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر، فَبُني له هناك عريش، فجلس فيه هو وأبو بكر، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شيء منها، ونزلت الملائكة في العنان، أي: السماء، فقتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما فرغ من غزوة بدر، قيل له: عليك بالعير، فقال العباس- وهو فى وثاقه: لا يصلح، فقيل له: لم؟
فقال له: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك، فكره بعضهم قوله، ثم رجع صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة منصوراً فرحاً مسروراً، وقد أنجزه الله ما وعده.
الإشارة: من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر، والهناء والسرور، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس، وما تحقق سير السائرين إلا

(١) الآية ٢٤ من سورة المائدة.

صفحة رقم 307
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي
تحقيق
أحمد عبد الله القرشي رسلان
الناشر
الدكتور حسن عباس زكي - القاهرة
سنة النشر
1419
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية