
ليجسوك، وَقِيلَ لِيُثْبِتُوكَ فِي بَيْتٍ فَحَذَفَ الْمَحَلَّ لِوُضُوحِ مَعْنَاهُ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ لِيُثْبِتُوكَ بِالتَّشْدِيدِ وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ لِيُبَيِّتُوكَ مِنَ الْبَيَاتِ وَقَوْلُهُ: أَوْ يَقْتُلُوكَ وَهُوَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّه أَوْ يُخْرِجُوكَ أَيْ مِنْ مَكَّةَ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ قَالَ: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤] تَفْسِيرُ الْمَكْرِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمُ احْتَالُوا عَلَى إِبْطَالِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ واللَّه تَعَالَى نَصَرَهُ وَقَوَّاهُ، فَضَاعَ فِعْلُهُمْ وَظَهَرَ صُنْعُ اللَّه تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي: الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ مُوَافِقَةٌ لِلْقُرْآنِ إِلَّا مَا فِيهَا مِنْ حَدِيثِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَتْ صُورَتُهُ مُوَافِقَةً لِصُورَةِ الْإِنْسِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّصْوِيرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فِعْلِ اللَّه أَوْ مِنْ فِعْلِ إِبْلِيسَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِيَفْتِنَ الْكُفَّارَ فِي الْمَكْرِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَقْدِرَ إِبْلِيسُ عَلَى تَغْيِيرِ صُورَةِ نَفْسِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْعُدْ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُقْدِرَ إِبْلِيسَ عَلَى أَنْوَاعِ الْوَسَاوِسِ فَكَيْفَ يَبْعُدُ مِنْهُ أَنْ يُقْدِرَهُ عَلَى تَغْيِيرِ صُورَةِ نَفْسِهِ؟
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَلَا خَيْرَ فِي مَكْرِهِمْ.
قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَقْوَى الْمَاكِرِينَ فَوَضَعَ خَيْرُ مَوْضِعَ أَقْوَى وَأَشَدَّ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَكْرٍ فَهُوَ يَبْطُلُ فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ لَوْ قُدِّرَ فِي مَكْرِهِمْ مَا يَكُونُ خَيْرًا وَحَسَنًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: خَيْرُ الْماكِرِينَ لَيْسَ هُوَ التَّفْضِيلَ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَيْرٌ كَمَا يقال: الثريد خير من اللَّه تعالى.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى مَكْرَهُمْ فِي ذَاتِ مُحَمَّدٍ. حَكَى مَكْرَهُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ، رُوِيَ أن النضر بن الحرث خَرَجَ إِلَى الْحَيْرَةِ تَاجِرًا، وَاشْتَرَى أَحَادِيثَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَكَانَ يَقْعُدُ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهَا مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ مُحَمَّدٌ مِنْ قِصَصِ الْأَوَّلِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:
قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وهاهنا مَوْضِعُ بَحْثٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا عَنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَدَّى الْعَرَبَ/ بِالْمُعَارَضَةِ، فَلَمْ يَأْتُوا بِهَا، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِتِلْكَ الْمُعَارَضَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّلِيلِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلِمَةَ (لَوْ) تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ. فَقَوْلُهُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا شَاءَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَمَا قَالَ. فَثَبَتَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الحرث أَقَرَّ أَنَّهُ مَا أَتَى بِالْمُعَارَضَةِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَهَا لَأَتَى بِهَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ. لَأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لَوْ أَتَى بِالْمُعَارَضَةِ، أَمَّا مُجَرَّدُ هَذَا الْقَوْلِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَالشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: لَهُمْ قَوْلُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَشَقَّ مِنْهُ عَلَيْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْكَلَامُ يُوجِبُ الْإِشْكَالَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قوله اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ حَكَاهُ اللَّه عَنِ الْكُفَّارِ، وَكَانَ هَذَا كَلَامَ الْكُفَّارِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ نَظْمِ الْقُرْآنِ فَقَدْ حَصَلَتِ الْمُعَارَضَةُ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَأَيْضًا حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] وَذَلِكَ أَيْضًا كَلَامُ الْكُفَّارِ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا يُشْبِهُ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَمُعَارَضَتَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمُعَارَضَةِ. الثَّانِي: أَنَّ كَفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا التَّهْدِيدَ الْكَثِيرَ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ، فَلَوْ كَانَ نُزُولُ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا لَعَرَفُوا كَوْنَهُ مُعْجِزًا لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَلَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ لَكَانَ أَقَلَّ الْأَحْوَالِ أَنْ يَصِيرُوا شَاكِّينَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَمَا أَقْدَمُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ لِأَنَّ الْمُتَوَقِّفَ الشَّاكَّ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، وَحَيْثُ أَتَوْا بِهَذِهِ الْمُبَالَغَةِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا لَاحَ لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَجْهٌ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُعْجِزَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ كَلَامٌ قَلِيلٌ لَا يَظْهَرُ فِيهِ وُجُوهُ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَتَمَشَّى إِلَّا إِذَا قُلْنَا التَّحَدِّي مَا وَقَعَ بِجَمِيعِ السُّوَرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالسُّورَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا قُوَّةُ الْكَلَامِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْوَجْهُ في كون القرآن معجز إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُعْجِزًا فِي نَفْسِهِ، فَسَوَاءٌ عَرَفُوا ذَلِكَ الْوَجْهَ أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا فَإِنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ الْحَالُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْقِرَاءَةُ بِنَصْبِ الْحَقَّ عَلَى خَبَرِ كانَ وَدَخَلَتْ هُوَ لِلْفَصْلِ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ «مَا» الْمُؤَكِّدَةِ وَدَخَلَتْ/ لِيُعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ:
الْحَقَّ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِهَذَا وَأَنَّهُ خَبَرٌ. قَالَ: وَيَجُوزُ هُوَ الْحَقُّ رَفْعًا وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ بِهَا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي إِجَازَتِهَا، وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ سُنَّةٌ، وروى صاحب «الكشاف» عن الأعمش أنه قرأ بِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ لَمْ يَذْكُرِ الْجَوَابَ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ تَقْرِيرَ وَجْهِ الْجَوَابِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا بَالَغُوا وَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُحِقًّا فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مُحَمَّدًا وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُمْطِرُ الْحِجَارَةَ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعَلَى مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ، لِسَبَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا دَامَ يَكُونُ حَاضِرًا مَعَهُمْ، فإنه