آيات من القرآن الكريم

وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ

وعلى ضوء الآيات القرآنية العديدة يصح أن يقال بجزم إن ما نسب إلى النضر أو غيره من قول هو من قبيل التبجح الناتج عن الظن بأن أسلوب القرآن ليس مما يفوق مدارك الناس... وإن ما يخاطبون به ليس مما يجهلونه كما هو المتبادر. ومع ما فى هذا من حقيقة فقد تحداهم القرآن في مكة بالإتيان بمثله أو بعشر سور أو بسورة أو بحديث فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما مرّ شرحه في سياق تفسير سور يونس وهود والإسراء والقصص والطور. ثم تحداهم القرآن بعد الهجرة في آيتي سورة البقرة [٢٣- ٢٤] فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما شرحنا في سياق تفسيرهما. حيث ينطوي في ذلك تكذيب التبجح المذكور الذي فات قائليه إدراك كون القرآن ليس فقط كلاما ونظما وقصصا يسهل تقليده وإنما هو روحانية ومبادئ وصدق لهجة ودعوة وقوة إيمان وتلقين لا يمكن أن يكون صادرا من بشر وإنما هي وحي رباني فوق مقدرة البشر.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
. (١) مكاء: صفير.
(٢) تصدية: تصفيق.

صفحة رقم 42

في الآيات:
١- حكاية بأسلوب تذكيري لما كان الكفار يقولونه على سبيل التحدي والاستهتار والسخرية حينما كان النبي ﷺ يتلو عليهم القرآن ويقول لهم إنه وحي من الله تعالى.
٢- ردّ على تحديهم وسخريتهم وجّه الخطاب فيه إلى النبي ﷺ وتضمن تقرير ما يلي:
١- إن الله تعالى إذا لم يكن قد صبّ عليهم العذاب الذي تحدوه فإنما ذلك لأن النبي كان بينهم، كأنه يراد القول إن سنة الله جرت على أن ينزل الله عذابه على الكفار بعد خروج أنبيائه من بين ظهرانيهم. وهو ما قررته آيات كثيرة في السور المكية.
٢- وإن الله لم يكن ليعذبهم أيضا وهم يستغفرون.
٣- وإنهم مستحقون لعذاب الله بعد ما بدا منهم ما بدا من الكفر وبخاصة من الصدّ عن المسجد الحرام بدعوى أنهم أولياؤه وأصحابه في حين أنهم ليسوا كذلك في الحقيقة. لأن أولياءه هم الذين يتقون صاحبه الحقيقي أي الله ويخافونه ويقفون عند حدوده ولا يصدون عن سبيله ولو كان أكثرهم يجهل هذه الحقيقة أو يتجاهلها. ولا سيما أن صلاتهم التي يؤدونها عند البيت ويعتبرون أنفسهم أولياءه بسببها ليست إلّا صفيرا وتصفيقا وليس فيها خضوع وخشوع يدلان على أنهم مخلصون لربّ البيت فعلا.
٤- وخطاب موجه إلى الكفار على سبيل التأنيب بعد ما وقع عليهم في بدر ما وقع مما اعتبر عذابا ربانيا: أن ذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. كأنما أريد أن يقال لهم إن الله قد صدق وعده واستجاب لدعاء الكفار وتحديهم بالعذاب بعد أن أخرج النبي وأصحابه من بين أظهرهم.
٥- وتقرير ينطوي على تقريع وإنذار وشماتة بما كان ويكون من الكفار.

صفحة رقم 43

فهم ينفقون أموالهم ويؤلبون الناس للصدّ عن سبيل الله. وسيذهب ما ينفقون هباء. وسيكون عليهم حسرة. وسيغلبون في الدنيا. ثم يحشرون إلى جهنّم في الآخرة. ولقد اقتضت مشيئة الله أن يميز الخبيث من الطيب وأن يجتمع الخبيث بعضه إلى بعض وأن يلقى في جهنّم وأن يكون أصحابه هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
تعليق على الآية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وما بعدها إلى آخر الآية [٣٧]
المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات أيضا عدا الأخيرة مكيات مثل الآيتين [٣٠ و ٣١] وروى الطبري أن الآية [٣٣] نزلت في مكة ثم خرج النبي ﷺ من بين أظهرهم فاستغفر لمن بقي فيها من المسلمين ثم خرج هؤلاء فعذب الله الكفار. وهناك حديث يرويه الشيخان عن أنس جاء فيه: «قال أبو جهل اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إلى جملة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» «١». هذا في حين أن أسلوب الآية الأولى من الآيات الخمس تذكيري مثل أسلوب الآيتين [٣١ و ٣٢] اللتين رجحنا مدنيتهما لمشابهة أسلوبهما لأسلوب الآية [٢٦] التي لا خلاف في مدنيتها. وفي الآية [٣٦] أمر إنما كان منهم بعد الهجرة وهو الاستعداد للحرب والإنفاق في سبيلها.
وجملة فَذُوقُوا الْعَذابَ في الآية [٣٥] هي على الأرجح إن لم نقل الأحسم في صدد ما وقع عليهم في بدر. ولهذا كله لا يمكن التسليم بمكية الآيات

(١) التاج، ج ٤ ص ١٠٩.

صفحة رقم 44

بل يمكن الجزم بمدنيتها. ونميل إلى القول إن في الحديث لبسا حيث يتبادر أنه لما نزلت الآية الأولى ذكر اسم الشخص الذي حكت قوله فصار وهم أن الآيات نزلت حين قال هذا الشخص ما قال مع أن الآية التي حكت قوله جاءت بأسلوب تذكيري كما قلنا آنفا.
ولقد روى الطبري أن الآية [٣٦] نزلت في أبي سفيان وغيره ممن وتروا في بدر حيث أخذوا يبذلون جهودهم ويجمعون الأموال وينفقونها في سبيل تحشيد الناس وتحريضهم على الحرب لأخذ الثأر من النبي والمسلمين بعد هزيمتهم في بدر. والرواية محتملة جدا وفيها دليل آخر على أن الآية وما قبلها مدنيات أيضا.
والذي يتبادر لنا على ضوء ما تقدم وعلى ضوء فحوى الآيات والسياق أن هذه الآيات جاءت لتذكر بما كان من تحدي كفار قريش واستعجالهم لعذاب الله على سبيل السخرية ولتبرر عدم إيقاع الله عذابه عليهم قبل هجرة النبي والمؤمنين وإيقاعه العذاب عليهم بعد الهجرة ولتذكرهم بذلك ولتنذرهم بهزائم أخرى بسبب استمرارهم في مواقف الصدّ وتحشيدهم للحرب وبذلهم الأموال في سبيل الله وما سوف يكون من حسرتهم ثم بالعذاب الأخروي الشديد، والله تعالى أعلم.
والخازن يروي أن جملة وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نزلت في ظروف وقعة الحديبية لأن كفار قريش منعوا رسول الله وأصحابه من زيارة الكعبة أو أنها تشير إلى ذلك. وهذا غريب. ومقام ورود الآيات وبعد الزمن والمناسبة وبين وقعة بدر ووقعة الحديبية يسوغ التوقف في هذه الرواية والترجيح بأنها قصدت التذكير بما كان من كفار قريش من منع المسلمين وبخاصة ضعفاءهم من الصلاة عند الكعبة في العهد المكي مما وردت الإشارة إليه في آيات سورة الحجج [٢٥- ٢٨] على ما شرحناه في سياق تفسيرها ومما روته روايات أيضا، ومما أريد به كذلك تبرير ما وقع على المشركين من عذاب يوم بدر.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة وَما

صفحة رقم 45

كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
(٣٣) منها أن الله كما أنه لم يشأ أن يعذبهم والنبي بين ظهرانيهم لم يشأ أن يعذبهم وبعض المسلمين ما زالوا بين ظهرانيهم وكانوا يستغفرون الله فلما خرج هؤلاء عذبهم.
ومنها أن القصد من ذلك ما كان يصدر من الكفار من كلمات الاستغفار مثل غفرانك اللهمّ حيث كانوا يعتقدون أن الله هو الغفار الحقيقي لأنه هو الخالق القادر المدبر. ومنها أن الله لم يكن ليعذبهم لو استغفروه عما بدا منهم وتابوا وأنابوا.
ولعل التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع مقاصد الآيات والوقائع. فالمشركون ظلوا يقولون بطبيعة الحال غفرانك اللهمّ، ولكن الله عذبهم بسبب استمرارهم على الصد عن المسجد الحرام وهو ما انطوى في الآية [٣٤] وليس في الآيات قرينة تبرر صرف الضمير في جملة يَسْتَغْفِرُونَ إلى المسلمين الذين بقوا في مكة. والنظم يقتضي أن تكون الجملة حكاية عن الكفار.
هذا، والآيات قوية محكمة مفحمة في تقريعها وإنذارها وتقريراتها وبخاصة بمجيئها عقب وقعة بدر التي نال الكفار فيها ما نالهم من خسارة وهوان.
ومع ذلك فإن من الحق أن نقول إنها من قبيل تسجيل واقع أمر الكفار ومواقفهم حين نزولها. ولقد آمن جميع من بقي حيّا منهم تقريبا عقب الفتح المكي وحسن إسلامه وسجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه. فيكون ما فيها إنذارا وتقريرا في صدد العذاب الأخروي قائما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم.
وجملة وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً تدل على كل حال على أن المشركين كانوا يؤدون عند الكعبة طقوسا يسمونها صلاة وإن لم يرد بيان وثيق يزيد الأمر وضوحا.
ولقد أورد ابن كثير وغيره في سياق الآية [٣٣] أحاديث عديدة، منها حديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) إذا

صفحة رقم 46
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية