آيات من القرآن الكريم

وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ

فروع التمكن الذي أشرنا إليه ولا يختص أمره بما ذكر، وقد حال سبحانه بين العدلية وبين اعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل، وبين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ إلخ، على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلا على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان ويسر لهم من الطاعة، كأنه قيل: إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الاستجابة، وكلّ ميسر لما خلق له، فأنتم لما منحتم الإيمان ووفقتم للطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة واعلموا أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه بأن يحول بينه وبين الإيمان وبينه وبين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار، وتلخيصه أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم اهـ.
ولا يخفى ما فيه من التكليف، وقيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله تعالى إذا دعيتم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الأمن خوفا والجبن جرأة. وقرىء «بين المرّ» بتشديد الراء على حذف الهمزة ونقل حركتها إليها وإجراء الوصل مجرى الوقف وَأَنَّهُ أي الله عز وجل أو الشأن إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وبالغوا في الاستجابة، وقيل: المعنى أنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهدا في انتهاز الفرصة، أو المعنى أنه المتصرف في قلوبكم في الدنيا ولا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلوا الأمر إليه عز شأنه ولا تحدثوا أنفسكم بمخالفته.
وزعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده والشقي من أضله وأن القلوب بيده يقلبها كيفما يشاء ويخلق فيها الدواعي والعقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين، وأنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور وليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من انتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه.

صفحة رقم 179

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمّه وغيره والمراد بالفتنة الذنب وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، والمصيب على هذا هو الأثر كالشآمة والوبال، وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، وكذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر ولا التزام استخدام ولا نافية، والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، واعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهو كما ترى، وأجيب بأن أصل الكلام واتقوا فتنة لا تصيبكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، وسمي الأمر لأن المعاملة معه لفظا وفيه أن من البين أن عموم الإصابة ليس مسببا عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه، وقال بعض المحققين: إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما يناسب الكلام وعدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيا أو إثباتا فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكلك الإثبات أي إن تدن يأكلك وفي نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم. واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك وإنما قدر ما يستقيم به المعنى من غير نظر إلي مضمون الأمر أو نقيضه، وأجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال: إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة

صفحة رقم 180

لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم إصابتها لهم رأسا فلا بد من اعتبار الواسطة قطعا.
وقال بعض المتأخرين: مراد من قدر إن أصابتكم، إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا (١) طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه وإن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي- بلا- يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ [النمل: ١٨] وقال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النهي ساغ توكيده، ووجهه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذا لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاه ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور.
وقال أبو البقاء وغيره: يحتمل أن تكون لا ناهية والجملة في موضع الصفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله:

حتى إذا جن الظلام واختلط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي والله لا تصيبن خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن ثابت وأبيّ وابن مسعود والباقر والربيع وأبو العالية «لتصيبن» فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل: إن الأصل- لا- الا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا: أم والله، وقال بعضهم: أن «لا» في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:
فأنت من العواتك حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة ومن على تقدير كون لا ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعريض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظلم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد. وأما على الوجوه الأخر من كون لا نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى: لا تُصِيبَنَّ صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا، إذ الآية على هذه التقادير جميعا
(١) وزعم بعضهم أن لا دعائية اهـ منه

صفحة رقم 181

مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالمون وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاملا للأمة وفسرت الفتنة بإقرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤، الإسراء: ١٥، فاطر: ١٨، الزمر: ٧] لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذ لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لإثمهم.
وبدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم،
وأخرج الترمذي. وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب»
وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيها على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما من هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصاص وأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي في العدد، والجملة الاسمية للايذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها، وقوله سبحانه: مُسْتَضْعَفُونَ خبر ثان، وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى: فِي الْأَرْضِ أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب. واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ خبر ثالث أو صفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعد ما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من المستكن في مستضعفون والمراد بالناس على الأول وهو الأظهر أما كفار قريش أو كفار العرب كما قاله عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، وعلى الثاني فارس والروم.
وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس،
والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة، وفسر هنا بالاستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافكم، أو اذكروا ذلك الوقت فَآواكُمْ أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة، وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة، والأول أنسب بالمقام والامتنان به هنا أظهر. والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم الجليلة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئا مما خانه فيه، اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سرا، والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة

صفحة رقم 182

والسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن خيانة الله سبحانه بترك فرائضه والرسول صلّى الله عليه وسلّم بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقيل: المراد النهي عن الخيانة بأن يضمروا خلاف ما يظهرون أو يغلوا في الغنائم وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله تعالى عنه أن المراد بها الإخلال بالسلاح في المغازي.
وذكر الزهري والكلبي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة- وفي رواية البيهقي- خمسا وعشرين. فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلح. كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات من أرض الشام فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل لنا أبا لبابة رفاعة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم. فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقه يعني أنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشد نفسه (١) على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله تعالى علي، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره قال:
أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عيه ثم تاب الله تعالى عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني فجاءه عليه الصلاة والسلام فحله بيده ثم قال أبو لبابة: إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلّى الله عليه وسلّم: يجزيك الثلث أن تصدق به ونزلت فيه الآية»

وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهوا عن ذلك،
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مريدكم فخذوا حذركم فنزلت
وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ عطف على المجزوم أولا والمراد النهي عن خيانة الله تعالى والرسول وخيانة بعضهم بعضا، والكلام عند بعض على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم، ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة، وجوز أبو البقاء أن يكون الفعل منصوبا بإضمار أن بعد الواو في جواب النهي كما في قوله:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
والمعنى لا تجمعوا بين الخيانتين والأول أولى لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف هذا فإنه نهي عن الجمع ولا يلزمه النهي عن كل واحد على حدته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأمانات بالأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها عباده، وقرأ مجاهد «أمانتكم» بالتوحيد وهي رواية عن أبي عمرو ولا منافاة بينها وبين القراءة الأخرى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تبعة ذلك ووباله أو أنكم تخونون أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح، فالفعل إما متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام أو منزل منزلة اللازم، قيل: وليس المراد بذلك التقييد على كل حال وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنها سبب الوقوع في الاسم والعقاب، أو محنة من الله عز وجل يختبركم
(١) المشهور ان أبا لبابة ربط نفسه لتخلفه عن تبوك وحسنه ابن عبد البر اهـ منه

صفحة رقم 183

بها فلا يحملنكم حبها على الخيانة كأبي لبابة، ولعل الفتنة في المال أكثر منها في الولد ولذا قدمت الأموال على الأولاد، ولا يخفى ما في الأخبار من المبالغة.
وجاء عن ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله سبحانه يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
إلخ فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن، ومثله عن علي كرم الله تعالى وجهه وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن مال إليه سبحانه وآثر رضاه عليهما وراعى حدوده فيهما فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون يَجْعَلْ لَكُمْ بسبب ذلك الاتقاء فُرْقاناً أي هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل كما روي عن ابن جريج وابن زيد، أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين كما قال الفراء، أو نجاة في الدارين كما هو ظاهر كلام السدي، أم مخرجا من الشبهات كما جاء عن مقاتل، أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق- من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان- أي الصبح، وكل المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين، وجوز بعض المحققين الجمع بينها وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يسترها في الدنيا وَيَغْفِرْ لَكُمْ بالتجاوز عنها في الأخرى فلا تكرار، وقد يقال: مفعول يغفر الذنوب وتفسر بالكبائر وتفسر السيئات بالصغائر، أو يقال: المراد ما تقدم وما تأخر لأن الآية في أهل بدر وقد غفر لهم.
ففي الخبر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعد لهم على التقوى تفضل منه سبحانه وإحسان وأنها بمعزل عن أن توجب عليه جل شأنه شيئا، قيل: ومن عظيم فضله تعالى أنه يتفضل من غير واسطة وبدون التماس عوض ولا غيره سبحانه، ثم إنه عز وجل لما ذكر من ذكر نعمته بقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ إلخ ذكر نبيه عليه الصلاة والسلام النعمة الخاصة به بقوله عز من قائل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فهو متعلق بمحذوف وقع مفعولا لفعل محذوف معطوف على ما تقدم أو منصوب بالفعل المضمر المعطوف على ذلك، أي واذكر نعمته تعالى عليك إذ أو اذكر وقت مكرهم بك لِيُثْبِتُوكَ بالوثاق ويعضده قراءة ابن عباس «ليقيدوك» وإليه ذهب الحسن ومجاهد وقتادة أو بالاثخان بالجرح من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وهو المروي عن ابن أبان وأبي حاتم والجبائي، وأنشد:

فقلت ويحكم ما في صحيفتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
أو بالحبس في بيت كما روي عن عطاء والسدي وكل الأقوال ترجع إلى أصل واحد هو جعله صلّى الله عليه وسلّم ثابتا في مكانه أعم من أن يكون ذلك بالربط أو الحبس أو الإثخان بالجراح حتى لا يقدر على الحركة، ولا يرد أن الإثخان إن كان بدون قتل ذكر له فيما اشتهر من القصة وإن كان بالقتل يتكرر مع قوله تعالى: أَوْ يَقْتُلُوكَ لأنا نختار الأول، ولا يلزم أن يذكر في القصة لأنه قد يكون رأى من لا يعتد برأيه فلم يذكروا المراد على ما تقتضيه أو يقتلوك بسيوفهم أَوْ يُخْرِجُوكَ أي من مكة، وذلك على ما
ذكر ابن إسحاق أن قريشا لما رأت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون فيها ما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام فلما اجتمعوا كما قال ابن عباس لذلك واتعدوا أن يدخلوا الدار ليتشاوروا فيها غدوا في اليوم الذي اتعدوا فيه وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس عليه اللعنة في هيئة شيخ جليل عليه بدلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من

صفحة رقم 184

الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا: أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع أشراف قريش فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم وإنا والله ما نأمنه قال: فتشاوروا ثم قال قائل (١) منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا ثم قال قائل (٢) منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير بهم إليكم فيطؤكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غيره. فقال أبو جهل: والله إن فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هو هذا الرأي لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانهم قال لعلي كرم الله وجهه نم على فراشي وتسبح بردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينام في برده ذلك إذا نام، وأذن له عليه الصلاة والسلام في الهجرة فخرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار، وأنشد علي كرم الله تعالى وجهه مشيرا لما من الله تعالى به عليه:

وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمنا وقد صار في حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم وما يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يرد مكرهم ويجعل وخامته عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية، وقد يكتفى بالمشاكلة الصرفة وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره سبحانه.
قال بعض المحققين: إطلاق هذا المركب الإضافي عليه تعالى إن كان باعتبار أن مكره جل شأنه أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل لأن لمكر الغير أيضا نفوذا وتأثيرا في الجملة، وهذا معنى أصل فعل الخير فتحصل المشاركة
(١) هو ابو البختري بن هشام اهـ منه.
(٢) هو أبو الأسود ربيعة بن عمير اهـ منه

صفحة رقم 185

فيه، وإذا كان باعتبار أنه سبحانه لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا بما يستوجبه الممكور به فلا شركة لمكر الغير فيه فالإضافة حينئذ للاختصاص كما في- أعدلا بني مروان- لانتفاء المشاركة.
وقيل: هو من قبيل- الصيف أحر من الشتاء- بمعنى أن مكره تعالى في خيريته أبلغ من مكر الغير في شرّيته.
وادعى غير واحد أن المكر لا يطلق عليه سبحانه دون مشاكلة لأنه حيلة يجلب بها مضرة إلى الغير وذلك مما لا يجوز في حقه سبحانه.
واعترض بوروده من دون مشاكلة في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ.
وأجيب بأن المشاكلة فيما ذكر تقديرية وهي كافية في الغرض، وفيه نظر،
فقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه «من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله»
والمشاكلة التقديرية فيه بعيدة جد بل لا يكاد يدعيها منصف وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا التي لو أنزلناها على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا قائله النضر بن الحرث من بني عبد الدار على ما عليه جمهور المفسرين وكان يختلف إلى أرض فارس والحيرة فيسمع أخبارهم عن رستم، وإسفنديار وكبار العجم وكان يمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، وإسناد القول إلى ضمير الجمع من إسناد فعل البعض إلى الكل لما أن اللعين كان رئيسهم وقاضيهم الذي يقولون بقوله ويعملون برأيه.
وقيل: قاله الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام في دار الندوة، وأيا ما كان فهو غاية المكابرة ونهاية العناد، إذ لو استطاعوا شيئا من ذلك فما منعهم من المشيئة؟ وقد تحداهم عليه الصلاة والسلام وقرّعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا لا سيما في ميدان البيان فانهم كانوا فرسانه المالكين لأزمته الحائزين قصب السبق به.
واشتهر أنهم علقوا القصائد السبعة المشهورة على باب الكعبة متحدين بها، لكن تعقب (١) أن ذلك مما لا أصل له وإن اشتهر، وزعم بعضهم أن هذا القول كان منهم قبل أن ينقطع طمعهم عن القدرة على الإتيان بمثله، وليس بشيء إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة على ما قاله المبرد كأحدوثة وأحاديث ومعناه ما سطر وكتب. وفي القاموس الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع اسطار وإسطير وأسطور وبالهاء في الكل. وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير ويحرك في الكل، وقال بعضهم: إن جمع سطر بالسكون أسطر وسطور وجمع سطر أسطار وأساطير، وهو مخالف لما في القاموس، والكلام على التشبيه، وأرادوا ما هذا إلا كقصص الأولين وحكاياتهم التي سطروها وليس كلام الله تعالى، وكأنه بيان لوجه قدرتهم على قول مثله لو شاؤوا.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قائل هذا النضر أيضا على ما روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وجاء في رواية أنه لما قال أولا ما قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك. وأخرج البخاري. والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما أنه أبو جهل بن هشام. وأخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض أكرم الله تعالى

(١) المتعقب الشهاب اهـ منه

صفحة رقم 186

محمدا صلّى الله عليه وسلّم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق إلخ وهو أبلغ في الجحود من القول الأول لأنهم عدوا حقيته محالا فلذا علقوا عليها طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ولو كانت ممكنة لفرّوا من تعليقه عليها، وما يقال إن إن للخلو عن الجزم فكيف استعملت في صورة الجزم؟ أجاب عنه القطب بأنها لعدم الجزم بوقوع الشرط ومتى جزم بعدم وقوعه عدم الجزم بوقوعه، وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة: ٢٣] وفيه بحث ذكره العلامة الثاني. واللام في الْحَقَّ قيل للعهد، ومعنى العهد في أنه الحق الذي ادعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه كلام الله تعالى المنزل عليه الصلاة والسلام على النمط المخصوص ومِنْ عِنْدِكَ ان سلم دلالته عليه فهو للتأكيد وحينئذ فالمعلق به كونه حقا بالوجه الذي يدعيه النبي صلّى الله عليه وسلّم لا الحق مطلقا لتجوزيهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل «كأساطير الأولين» وفي الكشاف أن قولهم: هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين، هذا هو الحق، وزعم بعضهم أن هذا قول بأن اللام للجنس وأشار إلى أن الأولى حملها على العهد الخارجي على معنى الحق المعهود المنزل من عند الله تعالى هذا لا أساطير الأولين فالتركيب مفيد لتخصيص المسند إليه بالمسند على آكد وجه، وحمل كلام البيضاوي على ذلك وطعن في مسلك الكشاف بعدم ثبوت قائل أولا على وجه التخصيص يتهكم به. ولا يخفى ما فيه من المنع والتعسف وأمطر استعارة أو مجاز لأنزل، وقد تقدم الكلام في المطر والأمطار، وقوله سبحانه: مِنَ السَّماءِ صفة حجارة وذكره للإشارة إلى أن المراد بها السجيل والحجارة المسومة للعذاب،
يروى أنها حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم،
وجوز أن يكون الجار متعلقا بالفعل قبله، والمراد بالعذاب الأليم غير أمطار الحجارة بقرينة المقابلة، ويصح أن يكون من عطف العام على الخاص، وتعلق مِنْ عِنْدِكَ بمحذوف قيل: هو حال مما عنده أو صفة له، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش الْحَقَّ بالرفع على أن هو مبتدأ لا فصل، وقول الطبرسي: إنه لم يقرأ بذلك، ليس بذاك، ولا أرى فرقا بين القراءتين من جهة المراد بالتعريف خلافا لمن زعمه وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان لما كان الموجب لامهالهم وعدم إجابة دعائهم الذي قصدوا به ما قصدوا، واللام هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لاختصاصها بمنفي كان الماضية لفظا أو معنى، وهي اما زائدة أو غير زائدة والخبر محذوف، أي ما كان الله مريدا لتعذيبهم، وأيا ما كان فالمراد تأكيد النفي إما على زيادتها فظاهر وإما على عدم زيادتها وجعل الخبر ما علمت فلأن نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه، وقيل:
في وجه إفادة اللام تأكيد النفي هنا أنها هي التي في قولهم: أنت لهذه الخطة أي مناسب لها وهي تليق بك، ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل ولا يخلو عن حسن وإن قيل: إنه تكلف لا حاجة إليه بعد ما بينه النحاة في وجه ذلك، وحمل غير واحد العذاب على عذاب الاستئصال، واعترض بأنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائمه المقام وأجيب بمنع عدم الملاءمة، بل من أمعن النظر في كلامهم رآه مشعرا بطلب ذلك، والدليل على التقييد أنه وقع عليهم العذاب والنبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم كالقحط فعلم أن المراد به عذاب الاستئصال والقرينة عليه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه، فالمراد من الآية الإخبار بأن تعذيبهم عذاب استئصال، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه، والمراد بالاستغفار في قوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اما استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين حين هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروي هذا عن الضحاك واختاره الجبائي، وقال الطيبي: إنه أبلغ لدلالته على استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة، وإسناد الاستغفار إلى ضمير الجميع لوقوعه فيما بينهم ولجعل ما صدر عن البعض كما قيل بمنزلة الصادر عن الكل فليس هناك تفكيك للضمائر كما يوهمه كلام ابن عطية.

صفحة رقم 187

وأما دعاء الكفرة بالمغفرة وقولهم غفرانك فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه جل شأنه ولو من الكفرة، وروي هذا عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: إن قريشا لما قالوا ما قالوا ندموا حين أمسوا فقالوا:
غفرانك اللهم، وأما التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود: ١١٧] وروي هذا عن السدي وقتادة وابن زيد، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل من الأقوال الثلاثة، وأيا ما كان فالجملة الاسمية في موضع الحال إلا أن القيد مثبت على الوجهين الأولين منفي على الوجه الأخير، ومبني الاختلاف في ذلك ما نقل عن السلف من الاختلاف في تفسيره، والقاعدة المقررة بين القوم في القيد الواقع بعد الفعل المنفي، وحاصلها على ما قيل: إن القيد في الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي وقد يكون لنفي التقييد بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط، وقيل (١) : إن الدال على انتفاء الاستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لا نفس الكلام وإلا لكان معنى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ نفى كونه فيهم لأن أمر الحالية مشترك بين الجملتين. وأطال الكلام في نفي تساوي الجملتين سؤالا وجوابا، ثم تكلف للتفرقة بما تكلف، واعترض عليه بما اعترض، والظاهر عندي عدم الفرق في احتمال كل من حيث إنه كلام فيه قيد توجه النفي إلى القيد.
ومن هنا قال بعضهم: إن المعنى الأولى لو كنت فيهم لم يعذبوا كما قيل في معنى الثانية: لو استغفروا لم يعذبوا، ويكون ذلك إشارة إلى أنهم عذبوا بما وقع لهم في بدر لأنهم اخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة ولم يبق فيهم فيها إلا أن هذا خلاف الظاهر ولا يظهر عليه كون الآية جوابا لكلمتهم الشنعاء، وعن ابن عباس أن المراد بهذا الاستغفار استغفار من يؤمن منهم بعد، أي وما كان الله معذبهم وفيهم من سبق له من الله تعالى العناية أنه يؤمن ويستغفر كصفوان ابن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأضرابهم، وعند مجاهد أن المراد به استغفار من في أصلابهم ممن علم الله تعالى أنه يؤمن، أي ما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر وهو كما ترى، ويظهر لي من تأكيد النفي في الجملة الأولى وعدم تأكيده في الجملة الثانية أن كون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم ادعى حكمة لعدم التعذيب من الاستغفار، وحمل بعضهم التعذيب المنفي في الجملة الثانية بناء على الوجه الأخير على ما عدا تعذيب الاستئصال، وحمل الأول على التعذيب الدنيوي والثاني على الأخروي ليس بشيء وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم أي لاحظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة إذا زال المانع وكيف لا يعذبون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وحالهم الصد عن ذلك حقيقة كما فعلوا عام الحديبية وحكما كما فعلوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حتى ألجئوهم للهجرة، ولما كانت الآيتان يتراءى منهما التناقض زادوا في التفسير إذا زال ليزول كما ذكرنا، وأنت تعلم أنه إذا حمل التعذيب في كل على تعذيب الاستئصال احتيج إلى القول بوقوعه بعد زوال المانع وهو خلاف الواقع، وقال بعضهم في دفع ذلك: إن التعذيب فيما مر تعذيب الاستئصال وهنا التعذيب بقتل بعضهم، ونقل الشهاب عن الحسن والعهدة عليه أن هذه نسخت ما قبلها، والظاهر أنه أراد النفيين السابقين، والذي في الدر المنثور أنه وكذا عكرمة. والسدي قالوا: إن قوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ منسوخ بهذه الآية، وأيا ما كان يرد عليه أنه لا نسخ في الأخبار إلا إذا تضمنت حكما شرعيا، وفي تضمن المنسوخ هنا ذلك خفاء، وقال محمد بن إسحاق: إن الآية الأولى متصلة بما قبلها على أنها حكاية عن المشركين فانهم كانوا يقولون: إن الله تعالى لا يعذبنا

(١) القائل السعد اهـ منه

صفحة رقم 188

ونحن نستغفر ولا يعذب سبحانه أمة ونبيها معها فقص الله تعالى ذلك على نبيه صلّى الله عليه وسلّم مع قولهم الآخر فكأنه قيل: وإذا قالوا اللهم إلخ وقالوا أيضا: كيت وكيت ثم رد عليهم بقوله سبحانه وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ على معنى أنهم يعذبون وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون، وفيه أن وقوع ذلك القول منهم في غاية البعد مع أن الظاهر حينئذ أن يقال: ليعذبنا ومعذبنا ونحن نسنغفر ليكون على طرز قولهم السابق، وأيضا الأخبار الكثيرة تأبى ذلك، فقد أخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الأيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان فيكم إمامان مضى أحدهما وبقي الآخر وتلا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إلخ.
وجاء مثل ذلك عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري،
وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام عليه الصلاة والسلام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفرك ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلاته وقد انمحصت الشمس»
وذهب الجبائي إلى أن المنفي فيما مر عذاب الدنيا وهذا العذاب عذاب الآخرة أي إنه يعذبهم في الآخرة لا محالة وهو خلاف سياق الآية، وَما على ما عليه الجمهور وهو الظاهر استفهامية، وقيل: إنها نافية أي ليس ينفي عنهم العذاب مع تلبسهم بالصد عن المسجد الحرام وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي وما كانوا مستحقين ولاية المسجد الحرام مع شركهم، والجملة في موضع الحال من ضمير يصدون مبينة لكمال قبح ما صنعوا من الصدفان مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح، وهذا رد لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء إِنْ أَوْلِياؤُهُ أي ما أولياء المسجد الحرام إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك الذي لا يعبدون فيه غيره تعالى، والمراد بهم المسلمون وهذه المرتبة الأولى من التقوى، وما أشرنا إليه من رجوع الضميرين إلى المسجد هو المتبادر المروي عن أبي جعفر والحسن، وقيل: هما راجعان إليه تعالى، وعليه فلا حاجة إلى اعتبار الاستحقاق فيما تقدم آنفا إذ لم تثبت لهم ولاية الله تعالى أصلا بخلاف ولاية المسجد فإنهم كانوا متولين له وقت النزول فاحتيج إلى التأويل بنفي الاستحقاق، ويفسر المتقون حينئذ بما هو أخص من المسلمين لأن ولاية الله تعالى لا يكفي فيها الإسلام بل لا بد فيها أيضا من المرتبة الثانية من التقوى وإن وجدت المرتبة الثالثة منها فالولاية ولاية كبرى، وهذا ما نعرفه من نصوص الشريعة المطهرة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، وغالب الجهلة اليوم على أن الولي هو المجنون ويعبرون عنه بالمجذوب، صدقوا ولكن عن الهدى، وكلما أطبق جنونه وكثر هذيانه واستقذرت النفوس السلمة أحواله كانت ولايته أكمل وتصرفه في ملك الله تعالى أتم، وبعضهم يطلق الولي عليه وعلى من ترك الأحكام الشرعية ومرق من الدين المحمدي وتكلم بكلمات القوم وتزيا بزيهم، وليس منهم في عير ولا نفير، وزعم أن من أجهد نفسه في العبادة محجوبا ومن تمسك بالشريعة مغبونا، وإن هناك باطن يخالف الظاهر إذا هو عرف انحل القيد ورفع التكليف وكملت النفس:

وألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر
ويسمون هذا المرشد، صدقوا ولكن إلى النار، والشيخ صدقوا ولكن النجدي، والعارف صدقوا ولكن بسباسب الضلال، والموحد صدقوا ولكن للكفر والإيمان، وقد ذكر مولانا حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الكفرة الفجرة وقال: إن قتل واحد منهم أفضل عند الله تعالى من قتل مائة كافر، وكذا تكلم فيهم الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بنحو ذلك:

صفحة رقم 189

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء
والزمخشري جعل الْمُتَّقُونَ أخص من المسلمين على الوجه الأول أيضا وهو أبلغ في نفي الولاية عن المذكورين أي لا يصلح لأن يلي أمر المسجد من ليس بمسلم وإنما يستأهل ولايته من كان برا تقيا فكيف بالكفرة عبدة الأوثان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم عليه، وكأنه نبه سبحانه بذكر الأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ولكن يجحده عنادا، وقد يراد بالأكثر الكل لأن له حكمه في كثير من الأحكام كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أي المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله تعالى فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا إِلَّا مُكاءً أي صفيرا، وهو فعال بضم أوله كسائر أسماء الأصوات تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء من مكا يمكو إذا صفر، وقرىء مكا بالقصر كبكا وَتَصْدِيَةً أي تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت، ووزنه تفعلة من الصد كما قال أبو عبيدة فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضى البازي لتقضضه، ومن ذلك قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: ٥٧] أي يضجون لمزيد تعجبهم، وأنكر عليه، وقيل: هو من الصدأ وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه، والمراد بالصلاة اما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها على ما يشير إليه كلام الراغب بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها ولا معنى لها كصفير الطيور وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي تليق أن تقع عند البيت على حد:
تحية بينهم ضرب وجيع يروى أنهم كانوا إذا أرادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق ويرون أنهم يصلون أيضا.
وروي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. وقال بعض القائلين: إن التصدية بمعنى الصد، والمراد صدهم عن القراءة أو عن الدين أو الصد بمعنى الضجة كما نقل عن ابن يعيش في قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ والمأثور عن ابن عباس وجمع من السلف ما ذكرناه.
نعم روي عن ابن جبير: تفسير التصدية بصد الناس عن المسجد الحرام، وفيه بعد، وأبعد من ذلك تفسير عكرمة لها بالطواف على الشمال بل لا يكاد يسلم، والجملة معطوفة إما على وَهُمْ يَصُدُّونَ فتكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ببيان أنهم صدوا ولم يقوموا مقام من صدوه في تعظيم البيت، أو على وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ فتكون تقرير لعدم استحقاقهم لولايته. وقرأ الأعمش. «صلاتهم» بالنصب وهي رواية عن عاصم. وأبان، وهو حينئذ خبر كان ومكاء بالرفع اسمها، وفي ذلك الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو من القلب عند السكاكي، وقال ابن جني: لا قلب ثم قال: لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح وإنما جاءت منه أبيات شاذة لكن من وراء ذلك ما أذكره، وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته. ألا تراك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه فإذا الأسد بالباب ولا فرق بينهما، وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا وإنّما تريد، واحدا من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا النصب والرفع جوازا قريبا كأنه قيل: وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل ولا يكون مثل قولك: كان قائم أخاك، لأنه ليس في قائم معنى الجنسية. وأيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب. ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرا منك ولا تجيز كان إنسان خيرا منك، وتمام الكلام عليه في موضعه فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني القتل والأسر يوم بدر كما روي عن الحسن. والضحاك، وقيل: عذاب الآخرة، وقيل: العذاب المعهود في قوله سبحانه: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ [الأنفال: ٣٢] ولا تعيين، والباء في قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ للسببية، والفاء على تقدير أن لا

صفحة رقم 190

يراد من العذاب عذاب الآخرة للتعقيب، وعلى تقدير أن يراد ذلك للسببية كالباء وأمر اجتماعهما ظاهر، والمتبادر من الكفر ما يرجع الاعتقاد، وقد يراد به ما يشمل الاعتقاد والعمل كما يراد من الإيمان في العرف ذلك أيضا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ نزلت على ما روي عن الكلبي والضحاك ومقاتل في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير.
وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا، وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنها نزلت في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من أحد الأحابيش ليقاتل بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم سوى من استجاشهم من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا من الذهب، وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبي وهب:

فجئنا إلى موج من البحر وسطهم أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن عصابة ثلاث مئين إن كثرنا فأربع
وسبيل الله طريقه، والمراد به دينه واتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، واللام في لِيَصُدُّوا لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية، والموصول اسم إن وخبرها على ما قال العلامة الطيبي في قوله تعالى: فَسَيُنْفِقُونَها وينفقون إما حال أو بدل من كفروا أو عطف بيان، واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدي الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ فهو جزاء بحسب المعنى، وفي تكرير الانفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الانفاق كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: ١٩٢] وقولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى، والكلام مشعر بالتوبيخ على الانفاق والإنكار عليه، قيل: وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم لبيان غرض الانفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور، وقيل: في دفعه أيضا: المراد من الأول الانفاق في بدر.
ويُنْفِقُونَ لحكاية الحال الماضية وهو خبر أن، ومن الثاني الانفاق في أحد، والاستقبال على حاله، والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سببا لانفاق الثانية، أتى بالفاء لابتنائه عليه، وذهب القطب إلى هذا الاعراب أيضا على تقدير دفع التكرار باختلاف الغرضين، وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا يُنْفِقُونَ على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الاستقبال اتحدا، كأنه قيل: إن الذين كفروا يريدون أن ينفقوا أموالهم فسينفقونها، وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه إلا كما ترى، وقوله سبحانه: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً عطف على ما قبله، والتراخي زماني، والحسرة الندم والتأسف، وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندما وتأسفا لفواتها من غير حصول المطلوب، وهذا في بدر ظاهر. وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج

صفحة رقم 191

بعد ذلك فكان كالفائت، وضمير تكون للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة، فالكلام على تقدير مضافين أو ارتكاب تجوز في الإسناد.
وقال العلامة الثاني: إنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة انفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء، ومن الناس من قال: إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الانفاق مبالغة فافهم ثُمَّ يُغْلَبُونَ أي في مواطن أخر بعد ذلك وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي الذين أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي يساقون لا إلى غيرها لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح، واللام على الوجهين متعلقة بيحضرون وقد يراد من الخبيث ما أنفقه المشركون لعداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومِنَ الطَّيِّبِ ما أنفقه المسلمون لنصرته عليه الصلاة والسلام، فاللام متعلقة بتكون عليهم حسرة دون يحشرون، إذ لا معنى لتعليل حشرهم بتمييز المال الخبيث من الطيب، ولم تتعلق بتكون على الوجهين الأولين إذ لا معنى لتعليل كون أموالهم عليهم حسرة بتمييز الكفار من المؤمنين أو الفساد من الصلاح. وقرأ حمزة. والكسائي.
ويعقوب «ليميّز» من التمييز وهو أبلغ من الميز لزيادة حروفه. وجاء من هذا ميزته فتميز ومن الأول مزته فانمازوا. وقرىء شاذا فانمازوا اليوم أيها المجرمون [سورة ص: ٥٩] وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً أي يضم بعضه إلى بعض ويجمعه من قولهم: سحاب مركوم ويوصف به الرمل والجيش أيضا، والمراد بالخبيث إما الكافر فيكون المراد بذلك فرط ازدحامهم في الحشر، وإما الفساد فالمراد أنه سبحانه يضم كل صنف بعضه إلى بعض فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كله، وجعل الفساد فيها بجعل أصحابه فيها، وأما المال المنفق في عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجعله في جهنم لتكوى به جباههم وجنوبهم.
وقد يراد به هنا ما يعم الكافر وذلك المال على معنى أنه يضم إلى الكافر الخبيث ماله الخبيث ليزيد به عذابه ويضم إلى حسرة الدنيا حسرة الآخرة أُولئِكَ إشارة إلى الخبيث، والجمع لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين الذين بقوا على الكفر فوجه الجمع ظاهر، وما فيه من معنى البعد على الوجهين للايذان ببعد درجتهم في الخبث.
هُمُ الْخاسِرُونَ أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي المعهودين وهم أبو سفيان وأصحابه، واللام عند جمع للتعليل أي قل لأجلهم إِنْ يَنْتَهُوا عما هم فيه من معاداة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ منهم من الذنوب التي من جملتها المعاداة والانفاق في الضلال، وقال أبو حيان: الظاهر أن اللام للتبليغ وأنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ هذه الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وهذا الخلاف إنما هو على قراءة الجماعة وأما على قراءة ابن مسعود «ان تنتهوا يغفر لكم» بالخطاب فلا خلاف في أنها للتبليغ على معنى خاطبهم بذلك، وقرىء «نغفر لهم» على أن الضمير لله عزّ وجلّ وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله صلّى الله عليه وسلّم أو إلى المعاداة على معنى إن داوموا عليها فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي عادة الله تعالى الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة، ونظير ذلك قوله سبحانه: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا [الإسراء: ٧٧] فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى لقوله سبحانه: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا [الإسراء: ٧٧] باعتبار جريانها على أيديهم، ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، وبعضهم فسره بذلك ولعل الأول أولى لعمومه ولأن السنة تقتضي التكرر في العرف وإن قالوا: العادة تثبت بمرة، والجملة على ما

صفحة رقم 192

في البحر دليل الجواب، والتقدير إن يعودوا انتقمنا منهم أو نصرنا المؤمنين عليهم فقد مضت سنة الأولين، وذهب غير واحد إلى أن المراد بالذين كفروا الكفار مطلقا، والآية حث على الإيمان وترغيب فيه، والمعنى أن الكفار ان انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين وإن عادوا إلى الكفر بالارتداد فقد رجع التسليط والقهر عليهم، واستدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس، وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك قال: لا يؤاخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم وذلك لأن الله تعالى قال: إِنْ يَنْتَهُوا إلخ.
وقال بعض: إن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة أصلا وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتلزمه حقوق العباد، ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن مذهبه في المرتد كمذهب المالكية في أنه إذا رجع إلى الإسلام لم تبق عليه تبعة وهو كالصريح في أن من عصى طول العمر ثم ارتد ثم أسلم لم يبق عليه ذنب.
ونسب بعضهم قول ذلك إليه رضي الله تعالى عنه صريحا وادعى أنه احتج عليه بالآية وأنه في غاية الضعف إذ المراد بالكفر المشار إليه في الآية هو الكفر الأصلي وبما سلف ما مضى في حال الكفر، وتعقب ذلك بأن أبا حنيفة ومالكا أبقيا الآية على عمومها
لحديث «الإسلام يهدم ما كان قبله»
وإنهما قالا: إن المرتد يلزمه حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى كما في كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحق، وخالفهما الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال: يلزمه جميع الحقوق، وأنا أقول ما ذكره ذلك البعض عن أبي حنيفة في العاصي المذكور في غاية الغرابة، وفي كتب الأصحاب ما يخالفه، ففي الخافية إذا كان على المرتد قضاء صلوات أو صيامات تركها في الإسلام ثم أسلم قال شمس الأئمة الحلواني: عليه قضاء ما ترك في الإسلام لأن ترك الصلاة والصيام معصية تبقى بعد الردة. نعم ذكر قاضيخان فيها ما يدل على أن بعض الأشياء يسقط عن هذا المرتد إذا عاد إلى الإسلام وأطال الكلام في المرتد ولا بأس بنقل شيء مما له تعلق في هذا المبحث إذ لا يخلو عن فائدة، وذلك أنه قال: مسلم أصاب مالا أو شيئا يجب به القصاص أو حد قذف ثم ارتد أو أصاب ذلك، وهو مرتد في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زمانا ثم جاء مسلما فهو مأخوذ بجميع ذلك ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار الحرب مرتد أو أسلم فذلك كله موضوع عنه، وما أصاب المسلم من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة وقطع الطريق ثم ارتد أو أصاب ذلك بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فكل ذلك يكون موضوعا عنه إلا أنه يضمن المال في السرقة، وإذا أصاب دما في الطريق كان عليه القصاص، وما أصاب في قطع الطريق من القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة وفي ماله أصابه بعدها، وإن وجب على المسلم حد الشرب ثم ارتد ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فانه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر يمنع وجوب الحد ابتداء فإذا اعترض منع البقاء وإن أصاب المرتد ذلك وهو محبوس لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر ويؤاخذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى، ويتمكن الإمام من إقامة هذا الحد إذا كان في يده فإن لم يكن في يده حين أصاب ذلك ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فهو موضوع عنه أيضا انتهى، ومنه يعلم أن قولهم المرتد يلزمه حقوق العباد دون حقوق الله تعالى ليس على إطلاقه وتمام الكلام في الفروع، وأنت تعلم أن الوجه في الآية هو المطابق لمقتضى المقام وأن المتبادر من الكفر الكفر الأصلي.
و «الإسلام يهدم ما كان قبله»
بعض من حديث
أخرجه مسلم عن عمرو بن العاص قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه الشريفة قال: فقبضت يدي فقال:
عليه الصلاة والسلام ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي قال: أما

صفحة رقم 193

علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله» الحديث.
والظاهر أن ما لا يمكن حملها في الكل على العموم كما لا يخفى فلا تغفل. وذكر بعضهم أن الكافر إذا أسلم يلزمه التوبة والندم على ما سلف مع الإيمان حتى يغفر له وفيه تأمل فتأمل وَقاتِلُوهُمْ عطف على قُلْ وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ من الوعيد حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يوجد منهم شرك كما روي عن ابن عباس. والحسن، وقيل: المراد حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل، قيل:
لم يجىء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقى على ظهر الأرض مشرك أصلا على ما روي عن أبي عبد الله رضي الله عنه
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بقتالكم فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الجملة قائمة مقام الجزاء أي فيجازيهم على انتهائهم وإسلامهم، أو جعلت مجازا عن الجزاء أو كناية أو فكونه تعالى بصيرا أمر ثابت قبل الانتهاء وبعده ليس معلقا على شيء. وعن يعقوب أنه قرأ «تعملون» بالتاء على أنه خطاب للمسلمين المجاهدين أي بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام، وتعليق الجزاء بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا عن كفرهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم نِعْمَ الْمَوْلى لا يضيع من تولاه وَنِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلب من نصره: هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى والفرق أنه لما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في مقام البقاء بالحق سبحانه إليه الفعل بقوله تعالى: إِذْ رَمَيْتَ مع سلبه عنه ب ما رَمَيْتَ وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمدا عليه الصلاة بالله تعالى لا بنفسه ولعلو مقامه صلّى الله عليه وسلّم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلّى الله عليه وسلّم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئا، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية، بقي سر التعبير بالمضارع المنفي «بلم» في إحداهما والماضي المنفي «بما» في الأخرى فارجع إلى فكرك. فلعل الله تعالى يفتحه عليك: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعطيهم عطاء جميلا وهو توحيد الأفعال، والمراد لهذا فعل ذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم عَلِيمٌ بأنه القاتل حقيقة وكونكم مظهرا لفعله وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ لاحتجابهم بأنفسهم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية، قيل فيها: أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجليا ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه وَإِنْ تَنْتَهُوا عن طلب السوي فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الفوز بالمولى وَإِنْ تَعُودُوا إلى طلب الدنيا وزخارفها نَعُدْ إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ الدنيوية شَيْئاً مما لخاصته سبحانه وَلَوْ كَثُرَتْ لأنها كسراب بقيعة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلا تصح دعوى السماع مع الاعراض وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لكونهم محجوبين عن الفهم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ عن السماع الْبُكْمُ عن القبول الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ لماذا خلقوا وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً استعدادا صالحا لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ مع عدم علم الخير فيهم لَتَوَلَّوْا ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعا إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

صفحة رقم 194

اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
بالتصفية إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وهو العلم بالله تعالى، وقد يقال: استجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة والسلام بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فيزول الاستعداد فانتهزوا الفرصة وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم على حسب مراتبكم وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ من حيث القدر لجهلكم مُسْتَضْعَفُونَ في أرض النفس تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم فَآواكُمْ إلى مدينة العلم، وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ في مقام توحيد الأفعال وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي علوم تجليات الصفات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ذلك، وقد يقال: واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلا ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق والروحانية مُسْتَضْعَفُونَ في أرض البدن تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ من النفس وأعوانها فَآواكُمْ إلى حظائر قدسه وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بالواردات الربانية وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وهي تجلياته سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك
الإيمان وَالرَّسُولَ بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة والسلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي استودع الله تعالى فيكم حسب استعدادكم بإخفائها بصفات النفس وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن الخيانة والاحتجاب بمحبة الأموال والأولاد يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً نورا تفرقون به بين الحق والباطل، وربما يقال: إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز بها بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة. وفي بعض الآثار «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور من نور الله تعالى» وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وهي صفات نفوسكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوب ذواتكم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية جعلها بعضهم خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومعناها ما ذكرناه سابقا، وجعلها بعضهم خطابا للروح وهو تأويل أنفسي، أي وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها لِيُثْبِتُوكَ ليقيدوك في أسر الطبيعة أَوْ يَقْتُلُوكَ بانعدام آثارك أَوْ يُخْرِجُوكَ من عالم الأرواح وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنك الرحمة للعالمين وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إذ لا ذنب مع الاستغفار ولا عذاب من غير ذنب وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي إنهم مستحقون لذلك كيف لا وهم يصدون المستعدين عن المسجد الحرام الذي هو القلب باغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ لغلبة صفات أنفسهم عليهم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ تلك الصفات وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك الحكم، وقال النيسابوري: ولكن أكثرهم أي المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ وهو ذلك المسجد إِلَّا مُكاءً إلا وساوس وخطرات شيطانية «تم والحمد لله طبع الجزء التاسع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ويتلوه إن شاء الله الجزء العاشر مفتتحا بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ وأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى إتمامه إنه على ما يشاء قدير»

صفحة رقم 195

وَتَصْدِيَةً وعزما على الأفعال الشنيعة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ من الاستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ طريقه الموصل إليه فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً لزوال لذاتهم حتى يتكون نسيا منسيا ثُمَّ يُغْلَبُونَ لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي وهم، إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلا للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه: إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ وهم جهنم القطيعة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عما هم عليه يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ لمزيد الفضل وَقاتِلُوهُمْ أي قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس فإن جهادها هو الجهاد الأكبر حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ مانعة عن الموصول إلى الحق وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ويضمحل دين النفس الذي شرعته فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على ذلك والله تعالى الموفق لأوضح المسالك لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.

صفحة رقم 196

الجزء العاشر

صفحة رقم 197
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية