
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يجب الشكر له [وأجمل] الشكر في مزيد من الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
قال عطاء ابن أبي رباح: حدّثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ ﷺ فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا.
فقال النبيّ ﷺ لأصحابه: «إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» [٢٢٩] قال: فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية «١».
وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبيّ ﷺ فيفشونه حتّى بلغ المشركين.
وقال الزهري والكلبي: نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله ﷺ حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النظير على أن يسيروا الى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله ﷺ إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله ﷺ فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنّه الذبح فلا تفعلوا.
قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أن قد خنت الله والرسول فلمّا نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتّى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتّى خرّ مغميّا عليه ثمّ تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تبت عليك.
قال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلّني فجاءه فحله بيده، ثمّ قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب. وأن أنخلع من
.

مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجزيك الثلث إن تصدقت» [٢٣٠] «١».
فقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه «٢».
قال محمد بن إسحاق: معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثمّ تخالفونه في السر إلى غيره.
وقال ابن عباس: لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك فرائضه، وَالرَّسُولَ بترك سنته، وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ.
قال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
وعلى هذا التأويل يكون قوله (وَتَخُونُوا) نصبا على جواب النهي.
والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء.
وقيل: هو نصب على الصرف كقول الشاعر:
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم «٣» |
وقرأ مجاهد: أمانتكم واحدة. واختلفوا في هذه [الآية] فقال ابن عباس: هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض الله عزّ وجلّ والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يقول لا تنقضوها.
وقال ابن زيد: معنى الأمانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم الله على دينه فخانوا، إذ أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر.
قال قتادة: إنّ دين الله أمانة فأدّوا الى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده. ومن كانت عليه أمانة فليردّها إلى من أئتمنه عليها.
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
التي عند بني قريظةتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ
بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً قال مجاهد: مخرجا في الدنيا والآخرة.
وقال مقاتل بن حيان: مخرجا في الدين من الشبهات. وقال عكرمة: نجاة. وقال الضحاك: بيانا. وقال مقاتل: منقذا.
. (٢) المصدر السابق [.....]
. (٣) قال في اللسان: ٧/ ٤٤٧: البيت للمتوكل الليثي ويروى لأبي الأسود الدؤلي
.

قال الكلبي: بصرا، وقال ابن إسحاق: فصلا بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم.
وقال ابن زيد: فرقا يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتّى يعرفوه ويشهدوا به.
والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان.
تقول: فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقا وفروقا وفرقانا، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ ما سلف من ذنوبكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «١». وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ «٢» لأن هذه السورة مدينة.
وهذا القول والمكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ «٣» وكان هذا المكر على ما
ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشا لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت رؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح، قالوا: ادخل فدخل.
فقال أبو البحتري: أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم.
فصرخ. إبليس. الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره، وقد سمع به من حولكم، [فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم] «٤» ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم.
قالوا: صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي: أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم [ما ضر من] وقع إذا غاب عنكم
. (٢) سورة الأنفال: ٣٠- ٣٢
. (٣) سورة التوبة: ٤٠
. (٤) زيادة عن تاريخ الطبري: ٢/ ٩٨
.

واسترحم وكان أمره في غيركم. فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون الى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به الى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه. والله لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله الشيخ.
فقال أبو جهل: لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره: إني أرى أن نأخذ واحدا من كل بطن من قريش غلاما وسبطا ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفا صارما ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلّها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا، فقال إبليس: صدق هذا الفتى و [هذا] أجودكم رأيا، القول ما قاله لا أرى غيره.
فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ ﷺ وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج الى المدينة وأمر رسول الله ﷺ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال: اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه.
ثمّ خرج النبيّ ﷺ وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا. رضي الله عنه. بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقة وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّا. رضي الله عنه.
وهو على فراش رسول الله ﷺ يحسبون أنّه النبيّ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّا. رضي الله عنه.
وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلّا وضع على رأسه التراب.
فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ «١».
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي: ليوثقوك. وقال قتادة: ليشدوك وثاقا.
.