تتحصنون بها من أعدائكم، وَأَيَّدَكُمْ أي: قواكم بِنَصْرِهِ على الكفار، أو بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم.
والخطاب للمهاجرين، وقيل: للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم، يخافون أن يتخطفهم الناس من كثرة الفتن، فكان القوي يأكل الضعيف منهم، فآواهم الله إلى الإسلام، فحصل بينهم الأمن والأمان، وأيدهم بنصره، حيث نصرهم على جميع الأديان، وأعزهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم، ورزقهم من الطيبات، حيث فتح عليهم البلاد، وملكوا ملك فارس والروم، فملكوا ديارهم وأموالهم، ونكحوا نساءهم وبناتِهم، لعلهم يشكرون.
الإشارة: التذكير بهذه النعمة يتوجه إلى خصوص هذه الأمة، وهم الفقراء المتوجهون إلى الله، فهم قليل في كل زمان، مستضعفون في كل أوان، حتى إذا تمكنوا وتهذبوا، وطهروا من البقايا، منَّ عليهم بالنصر والعز والتأييد، كما وعدهم بقوله:
| وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ | الآية «١»، والغالب عليهم شكر هذه النعم، لَمَا خصَّهم به من كمال المعرفة. والله تعالى أعلم. |
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بتضييع أوامره وارتكاب نواهيه، وَالرَّسُولَ بمخالفة أمره وترك سنته، أو بالغلول في الغنائم، أو بأن تُبطنوا خلاف ما تظهرون.
قيل: نزلت في أبي لبابة في قصة بَني قُرَيْظَةَ. روى أنه صلّى الله عليه وسلّم حاصرهم إِحْدَى وعشرين ليلةً، فَسَأَلوا الصُّلْحَ كما صَالَحَ إِخْوانَهُمْ بَني النَّضِير، عَلَى أَنْ يَصيروا إلى إخوانهم بأذْرِعَاتٍ وأريحا من الشَّام، فأبَى إلا أن يَنْزِلوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأبَوْا وقَالوا: أرْسِلَ لنا أبا لُبَابَةَ، وكان مُنَاصِحاُ لهُمْ لأنَّ عيَالهُ ومَالَهُ في أَيْدِيِهِمْ، فَبَعَثَه إليْهِمْ، فقالوا:
ما تَرَى؟ هَلْ نَنْزِلُ على حُكْم سَعْدٍ؟ فأَشارَ إلى حَلْقِهِ، أنه الذَّبْحُ، فقال أبو لُبَابَة: فما زَالت قَدَمَاي حَتَّى عَلِمْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ الله ورسُولَهُ، فنزل وشدَّ نَفْسَهُ إلى ساريةٍ في المسجد، وقال: والله لا أَذُوقُ طعاماُ ولا شَرَاباً حتى أمُوتَ، أوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أيام حتى خَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيهِ، ثم تَابَ الله عليه، فقيل له: قد تِيب عَلَيْكَ فحُلّ نفسك، فقال:
لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحلَّه، فقال: إِنَّ من تَمام تَوْبَتِي أن أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الّتِي أصَبْتُ فيها الذَّنْب، وأن أنخَلِعَ من مالى، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يَجْزِيكَ الثُّلثُ أنْ تَتَصَّدَّقَ بِه» «١».
ثم قال تعالى: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم، أو فيما أسر الرسول إليكم من السر فتفشوه، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الخيانة ليست من شأن الكرام، بل هي من شأن اللئام، كما قال الشاعر:
| لا يَكتُمُ السرَّ إلا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ | فالسرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ |
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنه سبب الوقوع في الإثم والعقاب، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة، كما فعل أبو لبابة. وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمَن آثر رضا الله ومحبته عليهم، وراعى حُدود الله فيهم، فعلّقوا هممكم بما يؤديكم إلى أجره العظيم، ورضاه العميم، حتى تفوزوا بالخير الجسيم.
الإشارة: خيانة الله ورسوله تكون بإظهار الموافقة وإبطان المخالفة، بحيث يكون ظاهره حسن وباطنه قبيح، وهذا من أقبح الخيانة، وينخرط فيه إبطان الاعتراض على المشايخ وإظهار الوفاق، وهو من أقبح العقوق لهم، وأما خيانة الأمانة فهى إفشاء أسرار الربوبية لغير أهلها، فمن فعل ذلك فسيف الشريعة فوق رأسه، إذا كان سالكاً غير مجذوب، لأن من أفشى سر الملك استحق القتل، وكان خائناً، ومن كان خائناً لا يُؤمن على السر، فهو حقيق أن ينزع منه، إن لم يقتل أو يتب، ولله در القائل:
| سَأَكْتُم عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي «٢» | وَلاَ أَنْثُرُ الدُّر النَّفيس على الْبَهَمْ |
| فإنْ قَدَّرَ اللَّهُ الكَريمُ بلطفه | ولا قيت أَهلاً للعُلُوم وللحِكَمْ |
| بَذَلْتُ عُلُومِي واستَفَدْتُ عُلُومَهُم | وإِلاّ فمخزونٌ لديَّ ومكتتم |
(٢) إذا لم يعلم الجاهل وكتمنا عنه العلم، فما فائدة العلم إذن.. ؟!