
ويلفت النظر بخاصة إلى الأسلوب الاستدراكي الذي تضمنته الآية [١٠].
فهذه الروحانية التي شملتهم وجعلتهم يشعرون ما أخبر الله به بعد المعركة بأن الملائكة يقاتلون معهم إنما كانت للتطمين والبشرى. وإلّا فالنصر هو من الله عزّ وجل. والمتبادر أن هذا الاستدراك قد استهدف نزع ما قد يمكن أن يعلق في ذهن أحد من المسلمين من عقيدة تأثير الملائكة. وهي العقيدة التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام. وكان العرب بقوتها يعبدون الملائكة تقربا بهم إلى الله، وفي هذا ما فيه من التلقين التوحيدي البليغ المستمر المدى.
وفي صدد ما جاء في الآيات من غشيان النعاس للمسلمين والمطر الذي أنزله الله عليهم من السماء نقول: إن المسلمين كانوا على ما يبدو على شيء من التهيّب والتعب وكانوا في حاجة إلى الماء حتى يشربوا ويغتسلوا وتثبت الأرض تحت أقدامهم وكان في كل هذا مجال لوسوسة الشيطان وتخويفه وإثارته القلق في نفوسهم فكان من عناية الله بهم وتأييده أن سلّط عليهم النعاس فجعلهم يستغرقون في نوم أزال عنهم تعبهم وأنساهم قلقهم وأنزل عليهم المطر ليشربوا ويغتسلوا ويتزودوا بالماء ولتجمد الأرض تحت أقدامهم، ثم كانت تلك الروحانية التي شملتهم وأنزلت على قلوبهم الطمأنينة والسكينة وأشعرتهم بتأييد الله لهم بملائكته أيضا.
وكل هذا تأييد رباني لرسول الله والصادقين من أصحابه تدخل في نطاق المعجزات ويمكن أن تكرر في كل موقف جهادي إيماني يقفه المؤمنون الصادقون من أعداء الله وأعدائهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)

(١) فلا تولّوهم الأدبار: فلا تقلبوا ظهوركم للعدو وتفروا من أمامه.
(٢) متحرّفا لقتال: قاصدا أسلوبا من أساليب القتال والحركات الحربية.
(٣) متحيّزا إلى فئة: منضما إلى جماعة أخرى للتعاون على القتال.
(٤) وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا: ليكون به للمؤمنين عمل فيه النفع والخير والحسنى.
(٥) إن تستفتحوا: إن تطلبوا الفتح والنصر أو إن تطلبوا حكم الله لأن كلمة الفتح جاءت في بعض آيات القرآن بمعنى الحكم. ومن ذلك آية الأعراف رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [٨٩].
في الآيتين الأولى والثانية: خطاب موجّه للمسلمين شدّد فيه التنبيه والإنذار بعدم الفرار من أمام العدو حينما يتزاحفون على بعضهم للقتال. ومن يفعل ذلك بدون قصد حربي مشروع كاستهداف أسلوب من أساليب القتال أو الانحياز إلى فئة مقاتلة أخرى من جماعته فقد باء بغضب الله واستحقّ النار وبئس ذلك من مصير له ولأمثاله.
وفي الآية الثالثة: ١- تقرير رباني موجّه فيه الخطاب أولا إلى المسلمين بأنهم ليسوا هم الذين قتلوا الكفار وإنما الذي قتلهم هو الله. وثانيا إلى النبي بأنه ليس هو الذي رمى فأصاب ولكن ذلك هو الله.
٢- وتنبيه بأن الله عز وجل قد أراد بما جرى أن يكون للمؤمنين فيه البلاء الحسن الذي لهم فيه الخير والثواب وأن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به.
وفي الآية الرابعة: إيذان بأن الله قد ألهم ويسّر ما كان إيهانا لقوة الكافرين

وإحباطا لمكرهم وكيدهم.
وفي الآية الخامسة: خطاب موجّه للكفار على سبيل الإنذار والتحدي، فإذا كانوا ينتظرون حكم الله بينهم وبين المسلمين فقد جاء حكمه عليهم بما كان من نصره للمسلمين. وإذا كانوا ينتهون مما هم فيه من كفر وعناد وعداء فهو خير لهم وأفضل. وإذا عادوا إلى العدوان والبغي فإن الله لهم بالمرصاد ولن تغني عنهم جموعهم مهما كثرت. لأن الله مع المؤمنين دائما.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وما بعدها إلى آخر الآية [١٩]
والآيات كما هو المتبادر استمرار تعقيبي للآيات السابقة وقد نزلت مثل سابقاتها بعد الوقعة وبرغم تنوع الجهات المخاطبة فيها فإنها تبدو وحدة متماسكة.
وهذا ما جعلنا نعرضها وحدة تامة.
ولقد روى المفسرون روايات عن بعض أمور حدثت، وأقوال قيلت كانت سببا لنزول هذه الآيات «١».
منها أن النبي ﷺ أخذ قبضة من تراب أو من حصباء فرمى بها نحو الكفار قبل الاشتباك قائلا: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلّا وأصابه شيء منها وأن الآية [١٧] تشير إلى ذلك، ومنها أن أبا جهل وقف عند الكعبة قبل خروجه إلى بدر ودعا الله أن ينصر الأهدى والأفضل من الفريقين وأن يفتح عليه وأن يخذل أقطعهما للرحم، وأن الآية [١٩] تشير إلى ذلك. ومنها أنه كانت مفاخرات بين المسلمين بقتل فلان فلانا وأن الفقرة الأولى من الآية [١٧] في صدد ذلك.

ومهما يكن من أمر هذه الروايات فإن الآيات يمكن أن تلهم حدوث شيء مماثل لما ورد فيها. كما أن الآية [١٧] يمكن أن تلهم معنى أشمل من الردّ على ما كان من تفاخر بعض المسلمين وهو أن الله هو الذي نصرهم وهزم أعداءهم وكبتهم وأن هذا لم يكن لو لم يلهمهم الله الدخول في المعركة ويثبت أقدامهم وقلوبهم فيها في حين أن بعضهم كان يتهيب منها. والفقرة الأخيرة من الآية [١٩] قرينة قوية على هذا التوجيه. ولعل فيها تدعيما لما استهدفه مطلع السورة فالله هو الذي ألهم ونصر وقتل ورمى، والأنفال من أجل ذلك هي منوطة بأمره ولا يحق لأحد أن يدّعيها.
ومع ما في الآية الأخيرة من التحدي والإنذار للكفار فقد احتوت أيضا دعوة من جديد إلى الحق والصواب والكفّ عن الموقف الباغي الجحودي. وقد جاءت الدعوة من جانب الغالب للمغلوب. وفي هذا ما فيه من جليل التلقين ورائعه في صدد مبادئ الجهاد الإسلامي وفي صدد هدف الرسالة المحمدية في هداية الناس على اختلافهم ومختلف مواقفهم ودعوتهم المرة بعد المرة وفي كل مناسبة وظرف إلى الحق والصواب والخير والإسلام مما تكرر في الآيات القرآنية المكيّة والمدنيّة وفي الظروف المماثلة أيضا.
ولم يرو المفسرون شيئا في مناسبة الآيتين الأوليين أي [١٥ و ١٦] وكل ما قالوه أنهما نزلتا في أهل بدر. وكلامهم يفيد أنهما نزلتا قبل المعركة مع أن كل الآيات السابقة واللاحقة من السورة نزلت بعد انتهاء المعركة على ما يلهمه فحواها ونبهنا عليه قبل.
وقد تلهمان أنه لوحظ على بعض المسلمين حين اشتداد المعركة شيء من الاضطراب أو أن بعضهم كاد ينكشف للعدو فاقتضت الحكمة هذا التنبيه والإنذار الشديدين اللذين احتوتهما الآيتان بالنسبة للمستقبل. والحكمة في هذا التشديد القاصم واضحة. والتلقين فيها مستمر المدى. فإن الجهاد ثبات وجلد. وفرار واحد من الصف قد يخلّ الصف كله. وقد يضيع ثمرة النصر ويقلبه إلى هزيمة

وكسرة. ولقد كان من الممكن أن يتغير مجرى تاريخ الإسلام لو انكسر المسلمون في وقعة بدر. وهذا ما عناه النبي ﷺ في دعائه المروي: «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض».
ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن هاتين الآيتين هما خاصتان بيوم بدر لا قبله ولا بعده، وأن بعض المؤمنين ولّوا الأدبار يوم أحد ويوم حنين فعفا الله عنهم كما جاء في آية سورة آل عمران [١٥٥] وآيات سورة التوبة [٢٥- ٢٧] ومعنى هذا أن الآيتين منسوختان. على أن هناك من قال إنهما محكمتان وإن توبة الله وعفوه عن المتولّين يوم أحد ويوم حنين أمر خاص لا يستوجب نسخ حكمهما. وقد رجّح الطبري هذا القول وفي هذا سداد وصواب.
وإطلاق الكلام في الآيتين يؤيد ذلك حيث يلهم بقوة أنهما بالنسبة للمستقبل عامة، ولا سيما نزلتا بعد معركة بدر على ما رجّحناه قبل. ولقد روى الخمسة حديثا عن أبي هريرة يذكر فيه «من الموبقات السبع التولّي يوم الزحف» «١». وروى الطبري عن ابن عباس قولا جاء فيه «أكبر الكبائر الشرك بالله والفرار يوم الزحف». والحديثان هما بالنسبة لكل موقف ويدعمان قول محكمية الآيتين وشمولهما لكل موقف.
تعليق على ما قيل في مدى جملة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى
لقد اتخذ بعض الكلاميين هذه الجملة حجّة على إثبات عدم تأثير أي مؤثر في شيء ما لذاته، فالنار في رأي القائلين لا تحرق وإنما الحارق الله. والسكين لا تذبح بذاتها وإنما الذابح الله... إلخ «٢».
وهذا للرد على مذهب كلامي آخر يقول بتأثير عمل الإنسان ومسؤوليته عن الأثر الذي يحدثه ومع تسليمنا بصواب استلهام نصوص القرآن وتلقيناته ومبادئه في
(٢) انظر تفسير الجملة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.