الفرار من الزحف والنصر من عند الله
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
الإعراب:
زَحْفاً منصوب على الحال أي متزاحفين، ويجوز أن يكون حالا للكفار.
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ حال من فاعل: يُوَلِّهِمْ والاستثناء مفرغ، أو منصوب على الاستثناء أي ومن يولهم إلا رجلا متحرفا.
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ ذلِكُمْ: خبر مبتدأ مقدر، تقديره: والأمر ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ عطف على ذلِكُمْ، وتقديره: والأمر أن الله موهن.
وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على ذلكم، وتقديره: والأمر أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. ومن قرأ «وإن» بالكسر فعلى الابتداء والاستئناف.
البلاغة:
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الخطاب للمشركين على التهكم مثل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩].
المفردات اللغوية:
زَحْفاً أي مجتمعين، كأنهم لكثرتهم يزحفون لأن الكل كجسم واحد متصل، فيظن أنه بطيء وهو في الواقع سريع، والمراد: جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم. الْأَدْبارَ جمع دبر وهو الخلف، ويقابله القبل، ويكنى بهما عن السوأتين، والمراد من قوله: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الهرب منهزمين. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم لقائهم مُتَحَرِّفاً منحرفا أو منعطفا إلى جانب آخر مظهرا الانهزام خدعة ثم يكر، بأن يريهم الفرار مكيدة، وهو يريد الكرة مُتَحَيِّزاً منحازا أو منضما إلى جماعة أخرى ليقاتل العدو معها، والفئة: الجماعة من المسلمين التي يستنجد بها. وأصل الفئة: الطائفة من الناس باءَ رجع متلبسا به وَمَأْواهُ المأوى: الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان أو الحيوان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ببدر بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصره إياكم وَما رَمَيْتَ يا محمد أعين القوم إِذْ رَمَيْتَ بالحصى لأن كفا من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى بإيصال ذلك إليهم، ليقهر الكافرين.
لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً ليختبر المؤمنين منه اختبارا حسنا بالغنيمة، والاختبار يكون بالنقم لمعرفة الصبر، وبالنعم لمعرفة الشكر، والمراد هنا الاختبار بالنعم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بأحوالهم.
ذلِكُمْ الإبلاء حق وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ مضعف كَيْدِ الْكافِرِينَ تدبيرهم الذي يقصد به غير ظاهره إِنْ تَسْتَفْتِحُوا تطلبوا أيها الكفار الفتح والنصر في الحرب أي الفصل والقضاء في الأمر، حيث قال أبو جهل: «اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة» أي أهلكه فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ القضاء بهلاك من هو كذلك، وهو أبو جهل ومن قتل معه. وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر والحرب وَإِنْ تَعُودُوا لقتال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم نَعُدْ لنصره عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ تدفع فِئَتُكُمْ جماعتكم.
سبب النزول: نزول الآية (١٧) :
وَما رَمَيْتَ: المشهور عند أكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت في رمي النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم بدر القبضة من حصباء الوادي، حين قال للمشركين: شاهت الوجوه، ورماهم بتلك القبضة، فلم يبق عين مشرك إلا دخلها منه شيء.
روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر، سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض، كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بتلك الحصباء، فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
نزول الآية (١٩) :
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا: روى الحاكم عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير قال: كان المستفتح أبو جهل، فإنه قال حين التقى القوم: أيّنا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف، فأحنه (أهلكه) الغداة، وكان ذلك استفتاحا، فأنزل الله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إلى قوله: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال: قال أبو جهل: اللهم انصر أعز الفئتين، وأكرم الفرقتين، فنزلت.
وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة: قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق، فأنزل الله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية.
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها في تعليم المؤمنين قواعد القتال، بمناسبة قصة بدر، ففي الآية السابقة أمرهم بضرب الهامات والرؤوس، وتقطيع الأيدي والأرجل، وهنا ذكر الله حكما عاما أيضا في الحروب، وهو تحريم الفرار من الزحف في مواجهة الأعداء إلا لمصلحة حربية، مثل التحرف لقتال (إظهار الانهزام والفرار خدعة ثم الكرّ) والتحيز إلى فئة (الانضمام إليها لمقاتلة العدو معها).
التفسير والبيان:
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إذا اقتربتم من عدوكم ودنوتم منهم حال كونهم جيشا زاحفين نحوكم لقتالكم، فلا تفرّوا منهم، مهما كثر عددهم، وأنتم قلة، ولكن اثبتوا لهم وقاتلوهم، فالله معكم عليهم.
وهذا الانهزام أمامهم محرم إلا في حالتين:
إحداهما- أن يكون المقاتل متحرفا لقتال، أي مظهرا أنه منهزم، ثم ينعطف عليه، ويكر عليه ليقتله. وهو أحد مكايد الحرب وخدعها.
والثانية- أن يكون متحيزا إلى فئة أي منضما إلى جماعة أخرى من المسلمين لمقاتلة العدو معها، يعاونهم ويعاونونه. فيجوز له ذلك في هاتين الحالتين.
أما فيما عداهما، فمن فرّ أو انهزم وجبن عن القتال، فقد رجع متلبسا بغضب من الله، ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم، وبئس المصير هي، وبئس المصير مصيره. قال البيضاوي: هذا إذا لم يزد العدو على الضعف، لقوله تعالى:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال ٨/ ٦٦] وقال ابن عباس: من فرّ من ثلاثة لم يفر، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ.
والآية تدل على تحريم الفرار من الزحف، وأنه من كبائر المعاصي، بدليل
ما روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا: «اجتنبوا السبع الموبقات- المهلكات- قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
ثم علل الله تعالى ضرورة الثبات والصبر أمام العدو بنصره على الأعداء، فقال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم بقوتكم وعدتكم،
وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بأيديكم لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر، وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع، كما قال تعالى:
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة ٩/ ١٤].
وذلك أن المسلمين لما كسروا أهل مكة، وقتلوا، وأسروا، أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت، وأسرت. ولما طلعت قريش،
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها، يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبريل عليه السّلام فقال: خذ قبضة من تراب، فارمهم بها، فقال لما التقى الجمعان لعلي رضي الله عنه: أعطني قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.
فقيل لهم: إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، بتثبيته قلوبكم، وإلقائه الرعب في قلوبهم. وما رميت أيها الرسول إذ رميت المشركين في الظاهر بالقبضة من الحصباء التي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه سائر البشر في العادة، ولكن الله رماها، حيث أوصل ذلك التراب إلى عيونهم، فصورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام، وأثره إنما صدر من الله، والعبرة بإحداث الأثر فعلا، فالله هو الذي بلّغ أثر ذلك الرمي إليهم، وكبتهم بها، لا أنت.
وقد تكرر فعل الرمي من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم حنين.
ويكون الفرق بين فعله تعالى في القتل وبين فعل النبي والمؤمنين: أن الله هو المؤثر الحقيقي الفعال في تحقيق النتائج، وأما فعل البشر فهو القيام بالأسباب الظاهرة المقدورة لهم التي كلفهم بها ربهم، كما هو الحال في جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية، من كونها لا تستقل في تحقيق غاياتها إلا بفعل الله وتأثيره.
فعل الله ذلك كله ليكبت المشركين، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم، مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا حقه، ويشكروا بذلك نعمته، فهو منه تعالى اختبار للمؤمنين بالنصر والغنيمة وذيوع الصيت وحسن السمعة بين العرب.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل قول ومنه دعاؤهم واستغاثة الرسول والمؤمنين ربهم قبل القتال، عليم بأحوالهم ونياتهم وبمن يستحق النصر والغنيمة.
ثم أتى ببشارة أخرى مع ما حصل لهم من النصر، وهي أنه تعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين في المستقبل، محبط مكرهم، مصغّر أمرهم، جاعل كل ما لهم في تبار ودمار.
ثم خاطب الله أهل مكة على سبيل التهكم قائلا لهم: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما، وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم ما سألتم، وتم النصر للأعلى والأهدى، وحدث الهلاك والذلة للأدنى والأضل.
ثم أنذرهم الله، وحذرهم بقوله: إن تنتهوا عن الكفر والتكذيب بالله ولرسوله، وعداوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة وأجدى من الحرب التي جربتموها وما أحدثت من قتل وأسر وإن تعودوا لمحاربته وقتاله، وإلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة، نعد إلى نصره وهزيمتكم، كما قال تعالى لبني إسرائيل: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء ١٧/ ٨] والخطاب هنا للكفار، وهو الظاهر من السياق، وقيل: الخطاب للمؤمنين لأن قوله: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لا يليق إلا بالمؤمنين، أما لو حملنا الفتح على البيان والحكم والقضاء، لم يمتنع أن يراد به الكفار.
ولن تفيدكم جماعتكم شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، إذ ليست الكثرة دائما من وسائل
النصر أمام القلة، فقد يحدث العكس إذا اقترن فعل القلة بالصبر والثبات والإيمان والثقة بالله تعالى.
وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر والتأييد والتوفيق إلى النجاح، فلو جمعتم ما قدرتم من الجموع، فإن من كان الله معه، فلا غالب له، كما قال تعالى: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[الصافات ٣٧/ ١٧٣] وقال: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة ٥/ ٥٦] وقال: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة ٥٨/ ١٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- تحريم الفرار من القتال أمام العدو إلا في حالتين: التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة. ولكن هذا الحكم مقيد عند الجمهور بألا يزيد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم، فمن فر من اثنين فهو فارّ من الزحف، ومن فرّ من ثلاثة فليس بفارّ من الزحف، ولا وعيد عليه، لقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال ٨/ ٦٦] فالمسلم مطالب بالثبات أمام اثنين من الأعداء، وهذا ما استقر عليه التشريع.
والفرار معصية كبيرة موبقة، بظاهر القرآن وإجماع أكثر الأئمة للحديث المتقدم عن السبع الموبقات، التي منها
«التولي يوم الزحف».
أما الهرب من الزحف إذا زاد عدد الأعداء عن ضعف المسلمين فهو مباح لما
رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فحاص الناس حيصة،
فكنت فيمن حاص- أي هرب-، فقلنا: كيف نصنع، وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة، ثم بتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: «من القوم؟» فقلنا: نحن الفرارون، فقال: «لا، بل أنتم العكّارون- الكرارون العطافون- أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين».
وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فيما رواه محمد بن سيرين- في أبي عبيدة، لما قتل على الجسر، بأرض فارس، لكثرة الجيش، من ناحية المجوس، فقال عمر: لو تحيّز إليّ لكنت له فئة» وقال مجاهد: قال عمر: «أنا فئة كل مسلم».
لكن وإن جاز الانهزام، فالصبر أحسن، بدليل أن جيش مؤتة، وهم ثلاثة آلاف، وقف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لخم وجذام.
ووقع في تاريخ الأندلس: أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقى وملك الأندلس: لذريق، وكان في سبعين ألف عنان- فرس- فزحف إليه طارق، وصبر له، فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح.
قال ابن وهب: سمعت مالكا يسأل عن القوم يلقون العدو، أو يكونون في محرس يحرسون، فيأتيهم العدو وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون، فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم.
وحكم الفرار من الزحف ليس مختصا بمن كان انهزم يوم بدر، كما يرى بعض الصحابة والتابعين (أبي سعيد الخدري، والحسن البصري وقتادة والضحاك) وإنما
هذا الحكم عام في جميع الحروب، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو عام، فيتناول جميع الحالات، كل ما في الأمر أنه نزل في واقعة بدر، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
والآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب، وهذا رأي مالك والشافعي وأكثر العلماء.
قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فرّ من الزحف، ولا يجوز لهم الفرار، وإن فرّ إمامهم لقوله عز وجل: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية: وفيها أنه استحق غضب الله ونار جهنم. وقال أيضا: ويجوز الفرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا، فإن بلغ اثني عشر ألفا، لم يحل لهم الفرار، وإن زاد عدد المشركين على الضعف
لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو بشر وأبو سلمة العاملي: «ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلّة»
إلا أن فيه راويا متروكا.
فإن فرّ فليستغفر الله عز وجل،
لما رواه الترمذي عن بلال بن يسار بن زيد قال: حدثني أبي عن جدّي، سمع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه، غفر الله له، وإن كان قد فرّ من الزحف».
٢- استدل أهل السنة بقوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنه تعالى قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومن المعلوم أنهم جرحوا الأعداء، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وقوله تعالى عن النبي عليه الصلاة والسّلام: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أي وما رميت خلقا ولكن رميت كسبا. وعلى كل حال فمذهب أهل
السنة ثابت بصريح قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر ٣٩/ ٦٢].
٣- المؤمن مطالب بتعاطي الأسباب الظاهرية، والقيام بالتكليف الذي كلفه الله، ثم يتوكل على الله ويفوض الأمر إليه، أما تحقيق النتائج والأهداف فهو متروك قطعا لله عز وجل، لا بقوة الإنسان وقدرته، لهذا صح النفي والإثبات في قوله: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي أن صورة الرمي صدرت من الرسول عليه الصلاة والسّلام، وأثرها إنما صدر من الله.
وحادثة رمي الأعداء بحفنة من الحصباء حدثت يوم بدر في الأصح كما قال ابن إسحاق لأن الآية نزلت عقيب بدر والسورة بدرية، وتكررت يوم أحد ويوم حنين.
٤- كان الإخلاص في الجهاد، وصدق اللقاء، والثقة بالله سبب رضوان الله على أهل بدر، وإعطائهم البلاء الحسن، أي الإنعام عليهم، أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب.
٥- إن كل قوى الكفار تتبدد أمام قدرة الله وإرادته ونصره عباده المؤمنين، فأوهن الله كيدهم وألقى الرعب في قلوبهم، وفرّق كلمتهم، وأطلع المؤمنين على عوراتهم، وخزاهم وأذلهم، وهددهم بالعودة إلى خذلانهم إن عادوا لمحاربة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وأنبأهم بدحر قواتهم مهما كثرت، وأن الله مؤيد بنصره المؤمنين، ولكن مع كل هذا فتح الله باب الأمل أمامهم بالعودة عن الكفر والشرك والمعاداة إلى الإيمان والطاعة والإسلام واتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومؤازرته وتأييده، رحمة منه بعباده، والله رؤف بالعباد.
٦- لقد تحقق مطلب أبي جهل حينما قال: اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر، وقول المشركين حينما أرادوا الخروج إلى بدر، وأخذوا بأستار الكعبة: