آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ بِالنَّارِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾ أَيْ: تَقَارَبْتُمْ مِنْهُمْ وَدَنَوْتُمْ إِلَيْهِمْ، ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ﴾ أَيْ: تَفِرُّوا وَتَتْرُكُوا أَصْحَابَكُمْ،
﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ﴾ أَيْ: يَفِرُّ بَيْنَ يَدَيْ قِرْنِهِ مَكِيدَةً؛ لِيُرِيَهُ أَنَّهُ [قَدْ] (١) خَافَ مِنْهُ فَيَتْبَعُهُ، ثُمَّ يَكِرُّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ عَنْ أَصْحَابِهِ لِيَرَى غِرَّةً مِنَ الْعَدُوِّ فَيُصِيبَهَا.
﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ أَيْ: فَرَّ مِنْ هَاهُنَا إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُعَاوِنُهُمْ وَيُعَاوِنُوهُ (٢) فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، حَتَّى [وَ] (٣) لَوْ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَفَرَّ إِلَى أَمِيرِهِ أَوْ إِلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، دَخَلَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْر، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً -وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ -فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا؟ فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: "مَنِ الْقَوْمُ؟ " فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: "لَا بَلْ أَنْتُمُ العَكَّارون، أَنَا فِئَتُكُمْ، وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلنا يَدَهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ (٤) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ بِهِ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "العَكَّارون" أَيْ: الْعَطَّافُونَ. وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي أَبِي عُبَيْدٍ لَمَّا قُتِلَ عَلَى الْجِسْرِ بِأَرْضِ فَارِسَ، لِكَثْرَةِ الْجَيْشِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَجُوسِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوِ انْحَازَ إِلَيَّ كُنْتُ لَهُ فِئَةً. هَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ عُمَرَ (٥)
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ عُمَرُ: يَا أَيُّهَا الناس، أنا فئتكم.

(١) زيادة من أ.
(٢) في ك، م: "يعاونونه".
(٣) زيادة من ك، م.
(٤) المسند (٢/٧٠) وسنن أبي داود برقم (٢٦٤٧) وسنن الترمذي برقم (١٧١٦) وسنن ابن ماجة برقم (٣٧٠٤).
(٥) رواه الطبري في تفسيره (١٣/٤٣٩).

صفحة رقم 27

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ عُمَرُ: أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْر، عَنْ عُمَرَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّمَا كَانَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنَا (١) فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ قُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ لَا نَثْبُتُ عِنْدَ قِتَالِ عَدُوِّنَا، وَلَا نَدْرِي مَنِ الْفِئَةُ: إِمَامُنَا أَوْ عَسْكَرُنَا؟ فَقَالَ: إِنَّ الْفِئَةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ﴾ (٢) فَقَالَ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ الْمُتَحَيِّزُ: الْفَارُّ إِلَى النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ الْيَوْمَ إِلَى أَمِيرِهِ أَوْ أَصْحَابِهِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْفِرَارُ لَا عَنْ سَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ" (٣)
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَقَدْ بَاءَ﴾ أَيْ: رَجَعَ ﴿بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ﴾ أَيْ: مَصِيرُهُ وَمُنْقَلَبُهُ يَوْمَ مِيعَادِهِ: ﴿جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّي، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَة، حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْم، عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى الْعَبْدِيُّ، سَمِعْتُ السَّدُوسِيَّ -يَعْنِي ابْنَ الْخَصَاصِيَةِ، وَهُوَ بَشِيرُ بْنُ مَعْبَدٍ -قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَايِعَهُ، فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ: "شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَأَنْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّة الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَّا اثْنَتَانِ فَوَاللَّهِ لَا أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَنْ وَلَّى الدُّبُر فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، فَأَخَافُ إِنْ حَضَرْتُ ذَلِكَ خَشَعَتْ نَفْسِي وَكَرِهَتِ الْمَوْتَ. وَالصَّدَقَةُ، فَوَاللَّهِ مَا لِي إِلَّا غُنَيْمَةٌ وَعَشْرُ ذَوْدٍ هُنَّ رَسَل أَهْلِي وحَمُولتهم. فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، ثُمَّ حَرَّكَ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: "فَلَا جِهَادَ وَلَا صَدَقَةَ، فِيمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أُبَايِعُكَ. فَبَايَعْتُهُ عليهنَّ كلهنَّ.
هَذَا حَدِيثٌ (٤) غَرِيبٌ (٥) مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٦) ولم يخرجوه في الكتب الستة.

(١) في م: "وإنه".
(٢) زيادة من ك، د، م، أ، وفي هـ:: الآية".
(٣) صحيح البخاري برقم (٢٧٦٦) وصحيح مسلم برقم (٨٩).
(٤) في م: "الحديث".
(٥) في أ: "عزيز".
(٦) المسند (٥/٢٢٤).

صفحة رقم 28

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَعُ مَعَهُنَّ عَمَلٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ". (١)
وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الأسْفَاطِيّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الشَّنِّي، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَ عَنْ جَدِّي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، بِهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ. وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (٢)
قُلْتُ: وَلَا يُعْرَفُ لِزَيْدٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْهُ سِوَاهُ.
وَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ الْفِرَارَ إِنَّمَا كَانَ حَرَامًا عَلَى الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ -يَعْنِي الْجِهَادَ -كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَنْصَارِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَقِيلَ: [إِنَّمَا] (٣) الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ بَدْرٍ خَاصَّةً، يُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي نَضْرَةَ، وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي هَذَا: أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ عِصَابَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ يَفِيئُونَ إِلَيْهَا سِوَى عِصَابَتِهِمْ تِلْكَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ"؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَأَمَّا الْيَوْمُ: فَإِنِ انْحَازَ إِلَى فِئَةٍ أَوْ مِصْرٍ -أَحْسَبُهُ قَالَ: فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ لَهِيعَة: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ فَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ النَّارَ، قَالَ: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا] ﴾ (٤) ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٥]، ثُمَّ كَانَ يَوْمُ حُنَيْن بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ، قَالَ: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٥] ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٧].

(١) المعجم الكبير (٢/٩٥) قال الهيثمي في المجمع (١/١٠٤) :"فيه يزيد بم ربيعة ضعيف".
(٢) المعجم الكبير (٥/٨٩) وسنن أبي داود برقم (١٥١٧) وسنن الترمذي برقم (٣٥٧٧).
(٣) زيادة من ك، م، أ.
(٤) زيادة من ك، م، أ، وفي هـ "إلى قوله".

صفحة رقم 29

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَمُسْتَدْرِكِ الْحَاكِمِ، وَتَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ مَرْدُوَيه، مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ إِنَّمَا (١) أُنْزِلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ (٢) وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ حَرَامًا عَلَى غَيْرِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ النُّزُولِ فِيهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ، مِنْ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْمُوبِقَاتِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ، وَاللَّهُ [تَعَالَى] (٣) أعلم.

(١) في م: "أنها".
(٢) سنن أبي داود برقم (٢٦٤٨) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٢٠٣) والمستدرك (٢/٣٢٧) وتفسير الطبري (١٣/٤٣٧).
(٣) زيادة من م.

صفحة رقم 30
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
سامي سلامة
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1420
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية