آيات من القرآن الكريم

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
ﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅ ﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ

جزاء فريقي الناس في الآخرة وتفويض علم الساعة لله تعالى وقصر مدة الدنيا
[سورة النازعات (٧٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٦]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣)
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
الإعراب:
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى يَوْمَ: بدل من قوله: فَإِذا جاءَتِ.. وما:
موصولة أو مصدرية.
فَأَمَّا مَنْ طَغى.. الفاء في فَأَمَّا: جواب إذا في قوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وهي المأوى له لأنه لا بد من ضمير يعود من الجملة إلى المبتدأ. وذهب الكوفيون إلى أن الألف واللام عوض عن الضمير العائد، والتقدير فيه: مأواه. ويصح أن يكون جواب فَإِذا جاءَتِ محذوفا، دل عليه: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ أو ما بعده من التفصيل.
هِيَ الْمَأْوى هي إما ضمير فصل أو مبتدأ.
البلاغة:
فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا.. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى.. بينهما مقابلة.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها تشبيه مرسل مجمل.
عَشِيَّةً وضُحاها بينهما طباق.

صفحة رقم 48

المفردات اللغوية:
الطَّامَّةُ الْكُبْرى الداهية العظمى وهي القيامة، التي تطمّ، أي تعلو على سائر الدواهي، والتي هي أكبر الطامات، أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث، أو ساعة سوق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى بأن يراه مدونا في صحيفته، وكان قد نسيه من فرط الغفلة أو طول المدة، والمراد: كل ما عمل في الدنيا من خير أو شر. وَبُرِّزَتِ أظهرت. الْجَحِيمُ النار المحرقة. لِمَنْ يَرى لكل راء، بحيث لا تخفى على أحد.
طَغى تكبر وتجاوز الحد، حتى كفر. وَآثَرَ قدّم وفضل. الْحَياةَ الدُّنْيا باتباع الشهوات، ولم يستعد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس. الْمَأْوى المستقر، أي مأواه، واللام فيه سادّة مسدّ الإضافة، للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي. مَقامَ رَبِّهِ مقامه بين يدي ربّه لعلمه بالمبدأ والمعاد، أو جلاله وعظمته. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى زجرها وكفّها عن هواها المردي باتباع الشهوات. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ليس له سواها مأوى. والحاصل أن العاصي في النار والمطيع في الجنة.
يَسْئَلُونَكَ أي كفار مكة. أَيَّانَ مُرْساها متى إرساؤها أي وقوعها وقيامها.
فِيمَ أي في أي شيء. أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي ما أنت من ذكراها لهم، والمراد: ليس عندك علمها حتى تذكرها. مُنْتَهاها منتهى علمها، لا يعلمه غيره. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ إنما ينفع إنذارك. مَنْ يَخْشاها يخافها، أي إنما بعثت لإنذار من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت. وأما تخصيص (من يخشى) فلأنه المنتفع بالإنذار. لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا أو في القبور.
إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي عشية يوم أو ضحاه، كقوله تعالى: إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥]. وإنما أضاف الضحى إلى العشية لأنهما من يوم واحد.
سبب النزول: نزول الآية (٤٢) :
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ..: أخرج الحاكم وابن جرير عن عائشة قالت:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن الساعة، حتى أنزل عليه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن مشركي أهل مكة سألوا

صفحة رقم 49

النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: متى تقوم الساعة؟ استهزاء منهم، فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها إلى آخر السورة.
وأخرج الطبراني وابن جرير عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة مثله «١».
المناسبة:
بعد بيان أدلة القدرة الإلهية على البعث والحشر والنشر، من خلق السماء والأرض، وإثبات إمكان الحشر عقلا، أخبر الله تعالى بعد ذلك عن وقوعه فعلا، وما يصحبه من أهوال، وما يترتب عليه من انقسام الناس إلى فريقين:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
وبعد بيان البرهان العقلي على إمكان القيامة، والإخبار عن وقوعها، وذكر أحوالها العامة وأحوال الأشقياء والسعداء فيها، أجاب الله تعالى عن تساؤل المشركين استهزاء وعنادا عن وقت حدوثها، وأوضح أن علمها مفوض إلى الله تعالى، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوث للإنذار فقط، وأن ما أنكروه سيرونه، حتى كأنهم أبدا فيه، وكأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، ثم مضت.
التفسير والبيان:
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي إذا حان وقت مجيئ الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات، وهي يوم القيامة أو النفخة الثانية التي يكون معها البعث أو تسليم أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وينسى الإنسان كل شيء قبلها في

(١) أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين.

صفحة رقم 50

جنبها، فصل الله تعالى بين الخلائق، فمنهم شقي وسعيد، فجواب (إذا) محذوف وهو: فصل الله..
ولذلك اليوم صفتان: إنه حين يتذكر الإنسان جميع ما عمله من خير أو شر لأنه يشاهده مدونا في صحائف عمله، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر ٨٩/ ٢٣] وقال سبحانه: أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة ٥٨/ ٦]. وفيه تظهر نار جهنم المحرقة إظهارا لا يخفى على أحد.
سواء أكان مؤمنا أم كافرا، كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء ٢٦/ ٩١]. قال مقاتل: «يكشف عنها الغطاء، فينظر إليها الخلق» فأما المؤمن: فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر: فيزداد غما إلى غمه، وحسرة إلى حسرته.
ثم فصّل الله تعالى ما يحكم به بين الخلائق، فقال:
فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «١» أي فأما من تكبر وتمرد، وتجاوز الحد في الكفر والمعاصي، وقدّم الحياة الدنيا على أمر الدين والآخرة، ولم يستعد لها، ولا عمل عملها، فالنار المحرقة هي مأواه ومثواه ومستقره لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. قيل: نزلت الآية في النضر وابنه الحارث، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة.
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى أي وأما من خاف القيام بين يدي الله عز وجل وخاف حكم الله فيه يوم القيامة، وأدرك عظمة الله وجلاله، ونهى نفسه عن هواها، وزجرها عن المعاصي والمحارم التي تشتهيها، وردها إلى طاعة مولاها، فالجنة مكانه الذي يأوي

(١) اللام: للعهد الذهني، أي مأواه اللائق به، ولهذا استغنى عن العائد، ولا حاجة إلى تكلف أن الألف واللام بدل من الإضافة.

صفحة رقم 51

إليه، ومستقره ومقامه، لا غيرها. والآية نزلت في مصعب بن عمير وأخيه عمار بن عمير، وهي عامة في كل مؤمن خاف الله، ولم يتبع هواه.
وهذان الوصفان مضادان للوصفين اللذين وصف الله بهما أهل النار، فقوله: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ضد فَأَمَّا مَنْ طَغى وقوله:
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ضد قوله: وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا.
والخوف من الله لا بد وأن يكون مسبوقا بالعلم بالله، على ما قال الله:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر ٣٥/ ٢٨]. ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى، لذا قدمه على قوله: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى «١».
ثم ذكر الله تعالى تساؤل المشركين على سبيل الاستهزاء عن ميعاد القيامة، فقال:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي يسألك أيها النبي المشركون المكذّبون بالبعث عن وقت إرساء القيامة وميعاد وقوعها، متى يقيمها الله ويوجدها، أو ما منتهاها ومستقرها كرسوّ السفينة؟ وذلك حين كانوا يسمعون النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكر القيامة بأوصافها الهائلة. مثل الطامة والصاخة والازفة والحاقة والقارعة، فقالوا على سبيل الاستهزاء: أَيَّانَ مُرْساها أي زمان إرسائها.
عن عائشة رضي الله عنها- كما تقدم-: لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الساعة ويسأل عنها، حتى نزلت، فلما نزلت هذه الآية انتهى. وقال ابن عباس:
سأل مشركو مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متى تكون الساعة، استهزاء؟ فانزل الله عز وجل الآية.

(١) تفسير الرازي: ٣١/ ٥١

صفحة رقم 52

فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها؟ أو في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها، أي لست من ذلك في شيء «١». وهذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، حرصا على جوابهم. والمعنى ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق، بل مردها ومرجعها ومنتهى علمها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، ولا يوجد علمها عند غيره، فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها؟ وهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
ونظير الآية: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ: إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف ٧/ ١٨٧] وقوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان ٣١/ ٣٤]. ولهذا
لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن وقت الساعة قال فيما أخرجه مسلم عن عمر: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل؟».
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه، وما أنت إلا مخوّف لمن يخشى قيام الساعة، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده، اتّبعك فأفلح ونجا، ومن كذب بالساعة وخالفك، خسر وخاب، فدع علم ما لم تكلف به، واعمل بما أمرت به من إنذار. وخص الإنذار بأهل الخشية لأنهم المنتفعون بذلك.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي إن هذا اليوم الذي يسألون عنه واقع حتما، وكأنهم فيه، فإنهم إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر، ورأوا الساعة (القيامة) استقصروا مدة الحياة الدنيا، ورأوا كأنها ساعة من نهار، أو عشية من يوم أو ضحى من يوم. والمراد تقليل مدة الدنيا في نفوسهم إذا رأوا

(١) البحر المحيط: ٨/ ٤٢٤

صفحة رقم 53

أهوال القيامة. وقال ابن عباس: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا يوما واحدا.
وقيل: لم يلبثوا في قبورهم إلا عشية أو ضحاها، وذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- ليس هناك تصوير أوقع لحال تفاعل النفس وانفعالها بمشهد خطير، مثل هذا التصوير لعلاقة النفس الإنسانية بقيام القيامة.
فإنه إذا وقعت الواقعة، وأتت الداهية العظمى، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، كما قال ابن عباس، تذكّر الإنسان ما عمل من خير أو شر، وشاهد الجحيم النار المحرقة التي تبرز عيانا لكل إنسان مؤمن أو كافر. قال ابن عباس: «يكشف عنها، فتراها تتلظى كل ذي بصر» يراها الكافر بما فيها من أصناف العذاب، ويراها المؤمن ليعرف قدر النعمة التي أنعم الله بها عليه، ويشاهد الكافر الذي يصلى النار.
٢- الناس يوم القيامة والبعث فريقان: السعداء والأشقياء. فأما من عتا وتمرد، وتكبر وتجاوز الحد في الكفر والعصيان، وقدّم الحياة الدنيا على الآخرة، فمأواه ومستقرّه النار.
وأما من حذر مقامه بين يدي ربه، وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم، فمثواه ومستقره الجنة. قال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة لقوله عز وجل:
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى.
٣- أدّى تساؤل المشركين عن وقت قيام الساعة استهزاء إلى كثرة سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، حرصا على جوابهم. ولكن الله جلّت حكمته اختص بعلم

صفحة رقم 54

الساعة، ولم يطلع أحدا عليها لأن الإنذار والتخويف إنما يتمان إذا لم يكن العلم بوقت قيام القيامة حاصلا، فلا حاجة إلى الاستفهام عن وقتها بعد العلم باقترابها، فإن هذا القدر من العلم يكفي في وجوب الاستعداد لها، بل لا يتم الغرض من التكليف إلا بإخفاء وقتها كالموت.
٤- حجب الله نبيه عن السؤال عن الساعة، وأعلمه بأن علمها إلى الله وحده، ووجّهه للعناية والقيام بمهمته الأصلية: وهي الإنذار والتخويف لمن يخشى مقام الله لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذرا لكل مكلف، وهو كقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [يس ٣٦/ ١١].
٥- كل ما هو في حكم الواقع واقع حتما، فكأن الكفار والمشركين الذين يتساءلون عن القيامة استهزاء وتهكما واقعون فيها، قائمون في ساحاتها، وهم حين يرونها وما فيها من أهوال تشيب لها الولدان، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، ويقدّرون أنها قدر عشية من ليل أو ضحى من نهار يتبع تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا، كما قال تعالى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف ٤٦/ ٣٥].

صفحة رقم 55

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة عبس
مكيّة. وهي اثنتان وأربعون اية.
تسميتها:
سميت سورة (عبس) لافتتاحها بهذا الوصف البشري المعتاد الذي تقتضيه الجبلّة الإنسانية، ويغلب على الإنسان حينما يكون مشغولا بأمر مهم، ثم يطرأ عليه أمر آخر لصرفه عن الأمر السابق، ومع ذلك عوتب النبي صلّى الله عليه وسلّم على عبوسه تساميا لقدره، وارتفاعا بمنزلته النبوية.
مناسبتها لما قبلها:
لهذه السورة تعلق بما قبلها وهي النازعات لأنه تعالى ذكر هناك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم منذر من يخشى الساعة، وهنا ذكر من ينفعه الإنذار، وهم الذين كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يناجيهم في أمر الإسلام ويدعوهم إليه وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة. كما أن بينهما تشابها في موضوع الحديث عن يوم القيامة وأهوالها، وإثبات البعث بمخلوقات الله في الإنسان والكون، فهناك وصفت القيامة بقوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى [٣٤] وهنا وصفت بقوله سبحانه: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ [٣٣] وهما من أسماء يوم القيامة. وهناك أثبت الله البعث بخلق السماء والأرض والجبال، وهنا أثبته بخلق الإنسان والنبات والطعام.

صفحة رقم 56

ما اشتملت عليه السورة:
موضوع السورة كسائر موضوعات السور المكية التي تعنى بالعقيدة والرسالة والأخلاق التي قوامها في الإسلام المساواة بين الناس، دون تفرقة بين غني وفقير.
ابتدأت السورة بذكر قصة الأعمى عبد الله بن أم مكتوم ابن خال خديجة بنت خويلد الذي قدم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتعلم، في وقت كان فيه مشغولا مع جماعة من صناديد قريش يدعوهم إلى الإيمان، فعبس النبي صلّى الله عليه وسلّم وجهه وأعرض عنه، فعاتبه الله بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى.. [الآيات ١- ١٦] وأبانت أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبر.
ثم نددت بجحود الإنسان وكفره بنعم ربه وإعراضه عن هداية الله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ.. [الآيات ١٧- ٢٣].
وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على قدرة الله ووحدانيته بخلق الإنسان والنبات وتيسير طعام ابن آدم وشرابه، لإثبات القدرة على البعث: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ.. [الآيات ٢٤- ٣٢].
وختمت السورة بوصف أهوال يوم القيامة، وفرار الإنسان من أقرب الناس إليه، وبيان حال المؤمنين السعداء والكافرين الأشقياء في هذا اليوم: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ.. [الآيات في ٣٣- ٤٢].
سبب نزول السورة:
نزلت هذه السورة في شأن عبد الله بن أم مكتوم ابن خال خديجة رضي الله عنها. ويقال: عمرو بن قيس بن زائدة، وهذا أشهر وأكثر كما في جامع الأصول، واسم أم مكتوم: عاتكة بنت عامر بن مخزوم.
وذلك
أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعنده صناديد قريش: عبتة وشيبة ابنا

صفحة رقم 57

ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال:
يا رسول الله، أقرئني وعلّمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم شغله بالقوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة؟».
واستخلفه على المدينة واليا مرتين في غزوتين غزاهما «١».
قال أنس: فرأيته يوم القادسية راكبا، وعليه درع، ومعه راية سوداء.
ويروى: أنه صلّى الله عليه وسلّم ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدّى لغني.
وعلّق القرطبي على أسماء الصناديد المذكورين بقوله: وهذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين، ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة، ما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين، أحدهما قبل الهجرة، والآخر ببدر، ولم يقصد قط أمية المدينة، ولا حضر عنده مفردا، ولا مع أحد «٢».
ثم علّق أبو حيان على ذلك بقوله: والغلط من القرطبي، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما، وهو وهم منه، وكلهم من قريش، وكان ابن أم مكتوم منها، والسورة كلها مكية بالإجماع، وابن أم مكتوم كان أولا بمكة، ثم هاجر إلى المدينة، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية، وابن أم مكتوم، هو عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي القرشي، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة، وهو ابن خال خديجة رضي الله عنها «٣».

(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢١٢، عرائب القرآن: ٣٠/ ٢٧، تفسير الرازي: ٣١/ ٥٤
(٢) تفسير القرطبي، المكار السابق.
(٣) البحر المحيط: ٨/ ٤٢٧
.

صفحة رقم 58
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية