آيات من القرآن الكريم

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
ﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ

وَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ لِأَنَّ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَبْلُغُ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ وَلَا تَظْهَرُ نِهَايَتُهُ إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِمَسْأَلَة الموافاة.
[٤٦]
[سُورَة النازعات (٧٩) : آيَة ٤٦]
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)
جَوَابٌ عَمَّا تضمنه قَوْله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [النازعات: ٤٢] بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ حَالِ السُّؤَالِ مِنْ طَلَبِ الْمَعْرِفَةِ بِوَقْتِ حُلُولِ السَّاعَةِ وَاسْتِبْطَاءِ وُقُوعِهَا الَّذِي يَرْمُونَ بِهِ إِلَى تَكْذِيبِ وُقُوعِهَا، فَأُجِيبُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ إِنْ طَالَ تَأَخُّرُ حُصُولِهَا فَإِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَأَنَّهُمْ يَوْمَ وُقُوعِهَا كَأَنَّهُ مَا لَبِثُوا فِي انْتِظَارٍ إِلَّا بَعْضَ يَوْمٍ.
وَالْعَشِيَّةُ: مُعَبَّرٌ بِهَا عَنْ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كَأَنَّهُمْ، فَهُوَ تَشْبِيهُ حَالِهِمْ بِحَالَةِ مَنْ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا عَشِيَّةً، وَهَذَا التَّشْبِيهُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تقريب معنى المشبّه مِنَ الْمُتَعَارَفِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ ضُحاها تَخْيِيرٌ فِي التَّشْبِيهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩]. وَفِي هَذَا الْعَطْفِ زِيَادَةٌ فِي تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ حِصَّةَ الضُّحَى
أَقْصَرُ مِنْ حِصَّةِ الْعَشِيَّةِ.
وَإِضَافَةُ (ضُحًى) إِلَى ضَمِيرِ (الْعَشِيَّةِ) جَرَى عَلَى اسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ شَائِعٍ فِي كَلَامِهِمْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: أُضِيفَ الضُّحَى إِلَى الْعَشِيَّةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُونَ: آتِيكَ الْغَدَاةَ أَوْ عَشِيَّتَهَا، وَآتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا، وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي عُقَيْلٍ:

نَحْنُ صَبَّحْنَا عَامِرًا فِي دَارِهَا جُرْدًا تَعَادَى طَرَفَيْ نَهَارِهَا
عَشِيَّةَ الْهِلَالِ أَوْ سِرَارِهَا أَرَادَ عَشِيَّةَ الْهِلَالِ أَوْ عَشِيَّةَ سِرَارِ الْعَشِيَّةِ: فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ: آتِيكَ الْغَدَاةَ أَوْ عَشِيَّتَهَا اهـ.
وَمُسَوِّغُ الْإِضَافَةِ أَنَّ الضُّحَى أَسْبَقُ مِنَ الْعَشِيَّةِ إِذْ لَا تَقَعُ عَشِيَّةٌ إِلَّا بَعْدَ مُرُورِ ضُحًى، فَصَارَ ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْمِ يُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَشِيَّةِ الْيَوْمِ لِأَنَّ الْعَشِيَّةَ

صفحة رقم 98

أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي الْعَشِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا فِي الضُّحَى، فَالْعَشِيَّةُ أَقْرَبُ وَالضُّحَى أَسْبَقُ.
وَفِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ أَيْضًا رِعَايَةٌ عَلَى الْفَوَاصِلِ الَّتِي هِيَ عَلَى حَرْفِ الْهَاءِ الْمَفْتُوحَةِ مِنْ أَيَّانَ مُرْساها وَبِانْتِهَاءِ هَاتِهِ السُّورَةِ انْتَهَتْ سُوَرُ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ الَّتِي مَبْدَؤُهَا سُورَةُ الْحُجُرَاتِ.

صفحة رقم 99

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٨٠- سُورَةُ عَبَسَ
سميت هَذِه الصُّورَة فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ «سُورَةَ عبس».
وَفِي أ «حكام ابْنِ الْعَرَبِيِّ» عَنْوَنَهَا «سُورَةَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ». وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: تُسَمَّى «سُورَةَ الصَّاخَّةِ». وَقَالَ الْعَيْنِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» تُسَمَّى «سُورَةَ السَّفَرَةِ»، وَتُسَمَّى سُورَةَ «الْأَعْمَى»، وَكُلُّ ذَلِكَ تَسْمِيَةٌ بِأَلْفَاظٍ وَقَعَتْ فِيهَا لَمْ تَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ أَوْ بِصَاحِبِ الْقِصَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ نُزُولِهَا.
وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ وَهُوَ عَبَسَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَالَ فِي «الْعَارِضَةِ» : لَمْ يُحَقِّقِ الْعُلَمَاءُ تَعْيِينَ النَّازِلِ بِمَكَّةَ مِنَ النَّازِلِ بِالْمَدِينَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يُحَقَّقُ وَقْتُ إِسْلَامِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ فَلَا مُحَصَّلَ لِكَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَعُدَّتِ الرَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ (وَالنَّجْمِ) وَقَبْلَ سُورَةِ (الْقَدْرِ).
وَعَدَدُ آيِهَا عِنْدَ الْعَادِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ وَأهل الْكُوفَة اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ أَرْبَعُونَ.
وَهِيَ أُولَى السُّوَرِ مِنْ أَوَاسِطِ الْمُفَصَّلِ.
وَسَبَبُ نُزُولهَا يَأْتِي ذكره عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: ١].

صفحة رقم 101

أغراضها تَعْلِيم الله رَسُوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُوَازَنَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْمَصَالِحِ وَوُجُوبَ الاستقراء لخفياتها كَيْلا يُفِيتَ الِاهْتِمَامُ بِالْمُهِمِّ مِنْهَا فِي بادىء الرَّأْيِ مُهِمًّا آخَرَ مُسَاوِيًا فِي الْأَهَمِّيَّةِ أَوْ أَرْجَحَ.
وَلِذَلِكَ يَقُولُ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ: إِنَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مُعَارِضِ الدَّلِيلِ الَّذِي لَاحَ لَهُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى اخْتِلَافِ الْحَالِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ هَدْيِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُقْبِلِينَ عَلَى تَتَبُّعِ مَوَاقِعِهِ.
وَقَرْنُ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِإِكْرَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَسُمُوِّ دَرَجَتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّنَاءُ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ لِمَنْ رَغِبَ فِي عِلْمِهِ.
وَانْتُقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى وَصْفِ شِدَّةِ الْكُفْرِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ بِمُكَابَرَةِ الدَّعْوَةِ الَّتِي شَغَلَتِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى رَغْبَةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَهُوَ مِمَّا كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حِينَ حُضُورِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَذَلِكَ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا عُنِيَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ إِنْكَارَ الْبَعْثِ هُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي تَصْمِيمِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْمُحَالِ، فَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ بِالْخَلْقِ الَّذِي خُلِقَهُ الْإِنْسَانُ، وَاسْتُدِلَّ بَعْدَهُ بِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ مِنْ أَرْضٍ مَيْتَةٍ.
وَأُعْقِبَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْإِنْذَارِ بِحُلُولِ السَّاعَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ أَهْوَالِهَا وَبِمَا يَعْقُبُهَا مِنْ ثَوَابِ الْمُتَّقِينَ وَعِقَابِ الْجَاحِدِينَ.
وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ عَسَى أَنْ يَشْكُرُوهُ.
وَالتَّنْوِيهُ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَعُلُوِّ قَدْرِهِمْ وَوُقُوعِ الْخَيْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَالْخَشْيَةِ، وَأَنَّهُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْغِنَى الَّذِينَ فَقَدُوا طَهَارَةَ النَّفْسِ، وَأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالتَّحْقِيرِ وَالذَّمِّ، وَأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْكفْر والفجور.

صفحة رقم 102
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية