
روى البخاري فى صحيحه «إنكم سترون ربكم عيانا»
وروى الشيخان عن أبى سعيد وأبى هريرة «أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال:
هل تضارّون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ قالوا لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك».
وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب، قال الأزهرى: قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته، وأشعار العرب وكلماتهم فى هذا كثيرة جدا اه.
(٢) (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي ووجوه الفجار تكون يوم القيامة: عابسة كالحة مستيقنة أنها ستصاب بداهية عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها.
ونحو الآية قوله: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» وقوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ».
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٠]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)

شرح المفردات
التراقى: العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال، واحدها ترقوة، من راق:
أي من يرقيه وينجيه مما هو فيه على نحو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام الذي يعدّ لذلك والمراد هل من طبيب يشفى بالقول أو بالفعل، الفراق: أي من الدنيا حبيبته، التفّت الساق بالساق: أي التوت عليها حين هلع الموت وقلقه والمراد أنه اشتد عليه الخطب، المساق: المرجع والمآب، فلا صدّق ولا صلى: أي فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه، يتمطى: أي يتبختر افتخارا، أولى لك: أي ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره، فأولى: أي فهو أولى بك من غيرك، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره، سدى: أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف فى الدنيا ولا يحاسب، نطفة: أي ماء قليلا وجمعها نطاف ونطف، يمنى: أي يراق ويصب فى الرحم، علقة: أي قطعة دم جامد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال يوم القيامة وما يرى فيها من عظيم الأهوال، ووصف سعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء بيّن أن الدنيا لها نهاية ونفاد ثم تكون مرارة الموت وآلامه، وأن الكافر قد أضاع الفرصة فى الدنيا، فلا هو صدّق بأوامر دينه ولا هو أدّى فرائضه ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين:

(١) أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وثواب كل عامل بما يستحق وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جل وعلا.
(٢) أنه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من منىّ يمنى، فأهون عليه أن يعيده خلقا آخر!
الإيضاح
(كَلَّا) ردع وزجر: أي ازدجروا وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت، فأقلموا عن إيثار الدنيا على الآخرة، فستنقطع الصلة بينكم وبينها وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلّدين أبدا.
ثم وصف الحال التي تفارق فيها الروح الجسد فقال:
(إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي إذا بلغت الروح أعالى الصدر، وأشرفت النفس على الموت، قال دريد بن الصّمّة:
وربّ عظيمة دافعت عنها | وقد بلغت نفوسهم التراقى |
أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى | إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر |
(وَقِيلَ مَنْ راقٍ؟)
أي وقال أهله: من يرقيه ليشفيه مما نزل به؟ قال قتادة:
التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا، وقال أبو قلابة: ومنه قول الشاعر:
هل للفتى من بنات الموت من واقى | أم هل له من حمام الموت من راقى |

يطمع فى الحياة لشدة حبه لهذه العاجلة كما قال: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة.
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما، قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال ابن عباس: المراد التفّت شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة واختلطتا، فالتفّ بلاء ببلاء، والعرب تقول لكل أمر اشتد، شمّر عن ساقه، وكشف عن ساقه، قال النابغة الجعدي:
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها | وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا |
وجواب إذا وتمام الجملة يقدر بنحو قولنا- انكشفت للمرء حقيقة الأمر، أو وجد ما عمله من خير أو شر حاضرا بين يديه.
ثم ذكر ما كان قد فرط منه فى الدنيا فقال:
(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي فما صدّق بالله ووحدانيته، بل اتخذ الشركاء والأنداء وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه، وما صلى وأدّى فرائضه التي أوجبها عليه، بل أعرض وتولى عن الطاعة.
(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي ليته اقتصر على الإعراض والتولّى عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحا، يمشى الخيلاء متبخترا.
والخلاصة- إن هذا الكافر كان فى الدنيا مكذبا للحق بقلمه، متوليا عن العمل بجوارحه، معجبا بما فعل، فلا خير فيه لا باطنا ولا ظاهرا ثم هدده وتوعده فقال:
(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي ويل لك مرة بعد أحرى، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك صفحة رقم 156

ويرى قوم أن معنى أولى أجمل وأمرى، فيكون المراد- النار أولى بك وأجمل.
ثم كرر هذا الوعيد فقال:
(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت جدير بهذا.
روى قتادة «أن النبي ﷺ أخذ بيد أبى جهل فقال: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد، والله ما تستطيع لى أنت ولا ربك شيئا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتله».
وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» أشيء قاله رسول الله ﷺ من نفسه أم أمره الله تعالى به؟
قال بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله تعالى».
ثم أقام الدليل على البعث من وجهين:
(١) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يترك الإنسان فى الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يترك فى قبره مهملا لا يحاسب، بل هو مأمور منهى محشور إلى ربه، فخالق الخلق لا يساوى الصالح المزكّى نفسه بصالح الأعمال، والطالح المدسّى نفسه باجتراح السيئات والآثام كما قال: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» وقال: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ».
وإذا فلا بد من دار للثواب والعقاب والبعث والقيامة.
(٢) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى؟) أي أما كان هذا المنكر قدرة الله على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه- نطفة فى صلب أبيه، ثم كان علقة ثم سواه بشرا ناطقا سميعا بصيرا، ثم جعل منه أولادا ذكورا وإناثا بإذنه وتقديره؟

(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السوىّ من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ فذلك أهون من البدء فى قياس العقل كما قال: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».
وقد جاء من طرق عدة «أن النبي ﷺ كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك اللهمّ وبلى
وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «من قرأ منكم: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» فليقل: بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فبلغ «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» فليقل آمنا بالله»
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.