سقر (جهنم) إحدى الدواهي، وأنها نذير للبشر أو ذات إنذار، على معنى النّسب، قال الحسن البصري: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها.
٩- النار نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية.
الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرمين
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣٨ الى ٥٦]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
الإعراب:
فِي جَنَّاتٍ حال من أصحاب اليمين.
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ما: في موضع رفع مبتدأ، ولَهُمْ: خبره، ومُعْرِضِينَ: حال من ضمير لَهُمْ والعامل: ما في لَهُمْ من معنى الفعل. وعَنِ التَّذْكِرَةِ، وكَأَنَّهُمْ حُمُرٌ: في موضع الحال بعد حال، أي مشابهين حمرا مستنفرة، أي نافرة.
البلاغة:
يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إيجاز بحذف بعض الجمل، أي قائلين لهم:
ما سلككم في سقر؟ لفهم المخاطبين.
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ خاص بعد عام وهو الخوض بالباطل مع الخائفين، لتعظيم هذا الذنب.
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ إلخ، سجع مرصّع.
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية:
رَهِينَةٌ مرتهنة عند الله بعملها، إما خلّصها وإما أوبقها، وليست رهينة تأنيث رهين، لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصفة لقيل (رهين) لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هو اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهين، والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله، غير مفكوك، ولا يرتهن الله تعالى أحدا من أهل الجنة.
أَصْحابَ الْيَمِينِ هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، فلا يرتهنون بذنوبهم، وقد فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم. جَنَّاتٍ بساتين لا تدرك حقيقتها. يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا:
أو يسألون غيرهم عن حالهم. ما سَلَكَكُمْ أدخلكم. سَقَرَ جهنم. نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ نخالط أهل الباطل في باطلهم. بِيَوْمِ الدِّينِ يوم البعث والجزاء. الْيَقِينُ الموت.
الشَّافِعِينَ من الملائكة والأنبياء والصالحين. مُعْرِضِينَ عن التذكير، والمعنى: أي شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ.
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ مثل الحمير الوحشية التي هربت من الأسد أشد الهرب، شبههم في إعراضهم ونفورهم عن استماع الذكر بحمر. صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي قراطيس منشورة مبسوطة، تنشر وتقرأ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لن نتبعك حتى تأتي كلامنا بكتاب من السماء فيه من الله إلى فلان: أن اتبع محمدا.
كَلَّا ردع لهم عن اقتراحهم الآيات. بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة، لا لامتناع إيتاء الصحف. كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ردع لهم عن إعراضهم، فإن القرآن تذكرة كافية. فَمَنْ شاءَ أن يذكره. ذَكَرَهُ قرأه، فاتعظ به. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتقى عقابه. وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر لمن اتقاه.
سبب النزول: نزول الآية (٥٢) :
بَلْ يُرِيدُ..: أخرج ابن المنذر عن السّدّي قال: قالوا: لئن كان محمد صلّى الله عليه وسلّم صادقا، فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار، فنزلت: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً.
وفي رواية: أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه، من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك «١».
المناسبة:
بعد أن توعد الله الكفار والعصاة، وهددهم بأن النار إحدى الدواهي والبلايا العظام، وأنذرهم بأن النجاة مربوطة بالعمل الصالح، أكد المعنى المتقدم بأنه ليس لكل امرئ إلا جزاء عمله، وأخبر أن أصحاب اليمين ناجون، وأن المجرمين معذبون، ووصف الحوار الدائر بين الفريقين لمعرفة سبب دخول الفريق الثاني نار جهنم.
التفسير والبيان:
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ أي كل نفس مأخوذة بعملها، مرتهنة به، معتقلة بما قدمته من عمل يوم القيامة، فإن كان خيرا خلّصها وأعتقها، وإن كان شرّا أوبقها.
إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ أي باستثناء المؤمنين الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل يطلق سراحهم بما أحسنوا من أعمالهم.
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أي وهم في جنات يتنعمون، ويسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين، في النيران، قائلين لهم:
ما الذي أدخلكم في جهنم؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل.
فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة:
قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي لم نكن في الدنيا نؤدي الصلاة المفروضة، فلم نعبد ربنا مع المؤمنين الذين يصلون، ولم نحسن إلى خلقه من جنسنا، فلم نطعم الفقير المحتاج ما يجب إعطاؤه، وكنا نخالط أهل الباطل في باطلهم، كلما غوى غاو غوينا معه، أو نتكلم فيما لا نعلم، أو نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قولهم: كاذب، مجنون، ساحر، شاعر، وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة، حتى أتانا الموت ومقدماته، فاليقين:
الموت، كما في قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر ١٥/ ٩٩].
فهذه أسباب أربعة لازمتنا طوال حياتنا الدنيوية: ترك الصلاة، والزكاة، والخوض في باطل الكلام، وإنكار يوم البعث والحساب والجزاء. وفي ترك الأمرين الأوليين دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي فمن كان متصفا بمثل هذه الصفات، فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، والمعنى: لا شفاعة لهم من أحد من الملائكة والأنبياء والصالحين لأن مصيرهم إلى النار حتما.
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي ما الذي حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن المشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى؟ أو فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك في مكة معرضون عما تدعوهم إليه، وتذكّرهم به؟ كأنهم في نفورهم عن الحق وإعراضهم عنه من
حمر الوحش إذا فرت من رماة يرمونها، أو من أسد يريد افتراسها.
فالقسورة: إما جماعة الرماة الذين يتصيدونها، أو الأسد، وهو رأي جمهور اللغويين، سمي بذلك لأنه يقهر السباع، قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون، إذا رأوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد. وهذا التشبيه في غاية التقبيح والتهجين لحالهم، وإعلامهم بأنهم قوم بله.
والآية دليل على أن إعراضهم عن الحق والإيمان بغير سبب ظاهر مقنع، ولا استعداد للتفاهم والاقتناع، ففي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة، ونداء عليهم بالبلادة والغباوة، وعدم التأثر من مواعظ القرآن، بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجبا لنفرتهم «١».
ثم أتى بصورة من عنادهم، فقال تعالى:
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب، كما أنزل الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهم قد بلغوا من العناد حدا تجاوزوا به أقدارهم، كما جاء في آية أخرى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤].
وقال تعالى أيضا واصفا مطلبهم: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء ١٧/ ٩٣].
قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله: أنك رسول الله. وكل هذا ونحوه مما حكة وتعنت ومكابرة، فهم لن يؤمنوا، كما قال تعالى:
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧].
ثم أبان الله تعالى سبب تعنتهم، فقال:
كَلَّا، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي زجر لهم وردع على اقتراحهم إنزال تلك الصحف المفتوحة المبسوطة، فلا يؤتونها، وهم في الحقيقة منكرون البعث والحساب لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات.
وكفاهم القرآن، كما قال تعالى:
كَلَّا، إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي حقا إن القرآن تذكرة، ويكفيهم القرآن، فإنه خير تذكرة وموعظة، فمن أراد أن يذكره ويتعظ به ولا يهمله، اتعظ، فهو موعظة بليغة، وتذكر شاف.
ثم بيّن السبب الأصلي في عدم التذكرة، وذكر ما ينبئ عن كمال الهيبة، وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقى، وصفة اللطف الذي به يجب أن يرجى:
وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي لا يقع شيء في هذا الكون قهرا عن الله، فما يذكرون القرآن ويتعظون به إلا بمشيئة الله، الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته، والحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم.
روى أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسر هذه الآية، فقال: «يقول لكم ربكم جلّت قدرته وعظمته:
أنا أهل أن أتّقى، فلا يجعل معي إله غيري، ومن اتّقى أن يجعل معي إلها غيري، فأنا أغفر له» أو «كان أهلا أن أغفر له».
وفسر الزمخشري قوله تعالى: وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بقوله:
يعني إلا أن يقسرهم على الذكر، ويلجئهم إليه لأنه مطبوع على قلوبهم، معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا «١». وهذه طريقته على مبدأ المعتزلة في مثل هذه الآيات، وهو أن الله ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب، ولكن مشيئة الله قادرة على جعل العبد مؤمنا بالقهر والإلجاء أو الإكراه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كل نفس مرتهنة يوم القيامة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلّصها وإما أوبقها، إلا أهل اليمين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. قال الحسن البصري وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدّوا ما كان عليهم.
٢- يكون أهل اليمين يوم القيامة في جنات (بساتين) يسألون عن المشركين: ما الذي أدخلكم في سقر؟ والمقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل «٢».
فيذكر أهل النار أربعة أسباب هي: ترك الصلاة، وترك الصدقة، ومخالطة أهل الباطل في باطلهم، كإيذاء أهل الحق، وكل ما لا يعني المسلم، والتكذيب بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم، إلى أن أتانا الموت. قال العلماء:
يجب أن يحمل هذان الأمران الأوليان على الصلاة والصدقة الواجبتين، وإلا لم يجز العذاب على تركهما. وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع
(٢) تفسير الرازي: ٣٠/ ٢١١
الشريعة، كما يعذبون بأصولها، كالتكذيب بيوم الدين، وإنما أخر لأنه أعظم الذنوب، أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل، كقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد ٩٠/ ١٧] «١».
٣- وبخ الله تعالى أهل مكة وأمثالهم بسبب إعراضهم وتوليهم عما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من التذكرة والعظة بالقرآن الكريم. قال مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين:
أحدهما- الجحود والإنكار.
والثاني- ترك العمل بما فيه.
٤- شبه الله سبحانه المعرضين بتشبيه مهين مستقبح، وهو تشبيههم بالحمر الوحشية إذا نفرت وهربت من الأسد. قال ابن عباس: المراد الحمر الوحشية، شبههم تعالى بالحمر مذمّة وتهجينا لهم «٢». وقال أيضا كما تقدم: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد وهربت، كذلك هؤلاء المشركون إذا رأوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد. والقسورة: هي الأسد بلسان الحبشة «٣».
٥- طلب المشركون (أبو جهل وجماعة من قريش) أن يعطوا كتبا مفتوحة لكل واحد منهم، مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا. وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقا، فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار «٤».
(٢) البحر المحيط: ٨/ ٣٨٠
(٣) تفسير الرازي: ٣٠/ ٢١٢
(٤) تفسير القرطبي: ١٩/ ٩٠
٦- لم يجب الله تعالى مطلبهم لتعنتهم ومما حكتهم وإنما زجرهم عن اقتراح الآيات، وأبان صفة القرآن والسبب الأصلي في عدم التذكرة، بقوله: كَلَّا أي ليس يكون ذلك، ولا أعطيهم ما يتمنون لأنهم لا يخافون الآخرة اغترارا بالدنيا، وحقا إن القرآن تذكرة، فمن شاء اتعظ به ولكن ما يتعظون ولا يقدرون على الاتعاظ والتذكرة إلا بمشيئة الله ذلك لهم، والله الجدير بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، والحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.
صفحة رقم 248
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القيامةمكيّة، وهي أربعون آية:
تسميتها:
سميت سورة القيامة لافتتاحها بالقسم الإلهي بها، لتعظيمها، وإثبات حدوثها والرد على منكريها.
مناسبتها لما قبلها:
تتعلق هذه السورة بما قبلها بسبب اشتمالها على حديث الآخرة، ففي السورة المتقدمة قال تعالى مبينا السبب الأصلي في عدم التذكرة وهو إنكار البعث:
كَلَّا، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [٥٣] ثم ذكر في هذه السورة دليل إثبات البعث، ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله، ثم ذكر ما قبل ذلك من مقدمة وهي خروج الروح من البدن، ثم ما قبل ذلك من مبدأ الخلق، فذكرت الأحوال الثلاثة في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع».
ما اشتملت عليه السورة:
عنيت هذه السورة كغيرها من السور المكية بأحد أصول الدين والإيمان وهو إثبات البعث والجزاء، وما سبقه من مقدمات الموت وبدء الخلق.
افتتحت السورة بالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة جميعا معا، لإثبات البعث والمعاد، والرد على من أنكر بعث الأجساد: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ..
[الآيات ١- ٦].
ثم ذكر تعالى بعض علامات ذلك اليوم، وأخبر عن حتميته ووقوعه، فهو حق لا ريب فيه: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ.. [الآيات ٧- ١٥].
ثم نهى الله تعالى نبيه عن محاولة حفظ آيات القرآن أثناء الوحي، وطمأنه بأنه سبحانه متكفل بتثبيته في قلبه وحفظه ووعيه وبيانه بنحو شامل تام:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ..
[الآيات ١٦- ١٩].
وأردف ذلك بالتنديد بمحبة الدنيا وإيثارها على الآخرة، وبالإخبار عن انقسام الناس في الآخرة قسمين: أهل السعادة وأهل الشقاوة، فالأولون تتلألأ وجوههم بأنوار الإيمان، ويتمتعون بالنظر إلى ربهم دون حصر وتحديد وبلا كيفية، والآخرون تكون وجوههم سوداء مظلمة عابسة، تنتظر نزول داهية عظمي بها: كَلَّا، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ.. [الآيات ٢٠- ٢٥].
ثم ذكرت شدائد الاحتضار والموت وأهواله وكروبه ومضايقاته: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ.. [الآيات ٢٦- ٣٥].
وختمت السورة بإيراد الدليل الحسي الواقعي على إثبات الحشر والمعاد وهو بدء الخلق، والإعادة أهون من البداءة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً..
[الآيات ٣٦- ٤٠].