سقر، وقيل لعد خزنتها والتذكير والعظة فيها من جهة أن في خلقه تعالى ما هو في غاية العظمة حتى يكون لقليل منهم معذبا ومهلكا لما لا يحصى دلالة على أنه عز وجل لا يقدر حق قدره ولا توصف عظمته ولا تصل الأفكار إلى حرم جلاله. وقيل الضمير للجنود وقيل لنار الدنيا وهذا أضعف الأقوال وأقواها على ما قيل ما تقدم. وبين «البشر» هاهنا و «البشر» فيما سبق أعني قوله تعالى لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ على تفسير الجمهور تجنيس تام لفظي وخطي وقل من تذكر له.
كَلَّا ردع لمن أنكرها وقيل زجر عن قول أبي جهل وأصحابه إنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم.
وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة وقال الفراء: هي صلة للقسم وقدرها بعضهم بحقا وبعضهم بألا الاستفتاحية. وقال الزمخشري إنكار بعد أن جعلها سبحانه ذكرى أن يكون لهم ذكرى وتعقبه أبو حيان بأنه لا يسوغ في حقه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ثم ينكر أن يكون لهم ذكرى وأجيب بأنه لا تناقض لأن معنى كونها ذكرى أن شأنها أن تكون مذكرة لكل أحد ومن لم يتذكر لغلبة الشقاء عليه لا يعد من البشر ولا يلتفت لعدم تذكره كما أن حلاوة العسل لا يضرها كونها مرة في فم منحرف المزاج المحتاج إلى العلاج وحال حسن الوقف على كلا وعدم حسنه هنا يعلم من النظر إلى المراد بها وصرح بعضهم بذلك فقال: إن كانت متعلقة بالكلام السابق يحسن الوقف عليها، وإن كانت متعلقة بالكلام اللاحق لا يحسن ذلك أي كما أنها كانت بمعنى ألا الاستفتاحية فالوقت حينئذ تام على للبشر ويستأنف كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر «إذا» ظرف زمان مستقبل «دبر» بفتح الدال وهو بمعنى أدبر المزيد كقبل وأقبل والمعروف المزيد وحسن الثلاثي هنا مشاكلة أكثر الفواصل وقيل دبر من دبر الليل النهار إذا خلفه والتعبير بالماضي مع إذا التي للمستقبل للتحقيق ويجوز أن يقال إنها تقلبه مستقبلا. وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش ومطر ويونس بن عبيد وهي رواية عن الحسن وابن يعمر والسلمي وطلحة «إذا» بالألف أَدْبَرَ بالهمز وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ وهو أنسب بقوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء وانكشف على قراءة الجمهور وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل «سفر» ثلاثيا وفسر بطرح الظلمة عن وجهه إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جواب للقسم وجوز أن يكون كَلَّا ردعا لمن ينكر أن تكون إحدى الكبرى لما علم من أن
أن واللام من الكلام الإنكاري في جواب منكر مصر وهذا تعليل ل كَلَّا والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كَلَّا وفي التعليل نوع خفاء فتأمل. وضمير إِنَّها لسقر والْكُبَرِ جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظيرها السوافي في جمع السافياء والقواصع في جمع القاصعاء فإن فاعلة تجمع على فواعل باطراد لا فاعلاء لكن حمل فاعلاه على فاعلة لاشتراك الألف والتاء في الدلالة على التأنيث وضعا فجمع فيهما على فواعل وقول ابن عطية الْكُبَرِ جمع كبيرة وهم كما لا يخفى أي إن سقر لإحدى الدواهي الكبر على معنى أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها قيل فيكون في ذلك إشارة إلى أن بلاءهم غير محصور فيها بل تحل بهم بلايا غير متناهية أو أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر من بينهم واحدة في العظم لا نظير لها وهذا كما يقال فلان أحد الأحدين وهو واحد الفضلاء وهي إحدى النساء وعلى هذا اقتصر الزمخشري. ورجح الأول بأنه أنسب بالمقام ولعله لما تضمن من الإشارة وقيل المعنى إنها لإحدى دركات النار الكبر السبع لأنها جهنم ولظى والحطمة وسقر والسعير والجحيم والهاوية. ونقل عن صاحب التيسير وليس بذاك أيضا وقيل ضمير إِنَّها يحتمل أن يكون للنذارة وأمر الآخرة.
قال في البحر فهو للحال والقصة وقيل هو للساعة فيعود على غير مذكور. وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير «لحدى الكبرى» بحذف همزة إحدى وهو حذف لا ينقاس وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين نَذِيراً لِلْبَشَرِ قيل تمييز لَإِحْدَى الْكُبَرِ على أن نَذِيراً مصدر بمعنى إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار أي إنها لإحدى الكبر إنذارا والمعنى على ما سمعت عن الزمخشري أنها لأعظم الدواهي إنذارا وهو كما تقول هي إحدى النساء عفافا. وقال الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل أي إنذار إنذارا وذهب غير واحد إلى أنه اسم فاعل بمعنى منذرة فقال الزجاج حال من الضمير في أنها وفيه مجيء الحال من اسم أن وقيل حال من الضمير في لَإِحْدَى واختار أبو البقاء كونه حالا مما دلت عليه الجملة والتقدير عظمت أو كبرت نذيرا وهو على ما قال أبو حيان قول لا بأس به وجوزت هذه الأوجه على مصدريته أيضا بتأويله بالوصف وقال النحاس: حذفت الهاء من نَذِيراً وإن كان للنار على معنى النسب يعني ذات إنذار وقد يقال في عدم إلحاق الهاء فيه غير ذلك مما قيل في عدم إلحاقها في قوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ٥٦] وقال أبو رزين: المراد بالنذير هنا هو الله تعالى فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبي صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أيضا أي ناد أو بلغ أو أعلن وهو كما ترى ولو جعل عليه حالا من الضمير المستتر في الفعل لكان أولى وكذا لو جعل منادى والكلام نظير قولك إن الأمر كذا يا فلان وقيل إنه على هذا حال من ضمير قُمْ أول السورة وفيه خرم النظم الجليل ولذا قيل هو من بدع التفاسير. وقرأ أبيّ وابن أبي وابن عبلة «نذير» بالرفع على أنه خبر بعد خبر لأن أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي نذير على ما هو المعول عليه من أنه وصف النار وأما على القول بأنه وصف الله تعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خبر لمحذوف لا غير أي هو نذير لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق أعني «البشر» وضمير شاءَ للموصول أي نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير والتخلف عنه. وقال السدي أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر عنها إلى الجنة وقال الزجاج:
أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات وفسر بعضهم التقدم بالإيمان والتأخر بالكفر وقيل: ضمير شاء الله تعالى أي نذيرا لمن شاء الله تعالى منكم تقدمه أو تأخره وجوز أن يكون لمن خبرا مقدما وأن يتقدم أو
يتأخر مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أي السبق إلى الخير أو التأخر أي التخلف عنه أن يتقدم ويتأخر فيكون كقوله تعالى فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: ٢٩] ولا يخفى أن اللفظ يحتمله لكنه بعيد جدا كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرهونة عند الله تعالى بكسبها والرهينة مصدر بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم لا صفة وإلّا لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء ويستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه قول عبد الرحمن بن زيد وقد قتل أبوه وعرض عليه سبع ديات فأبى أن يأخذها:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب | رهينة رمس ذي تراب وجندل |
أذكر بالبقيا على من أصابني | وبقياي أني جاهد غير مؤتل |
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنهم أطفال المسلمين
وأخرجوه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ونقل بعضهم عن ابن عباس أنهم الملائكة فإنهم غير مرهونين بديون التكاليف كالأطفال وتعقب بأن إطلاق النفس على الملك غير معروف وبأنهم لا يوصفون بالكسب أيضا على أن الظاهر سباقا وسياقا أن يراد بهم طائفة من البر المكلفين والكثير على تفسيرهم بما سمعت. وقيل هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل الذين كانوا عن يمين آدم عليه السلام يوم الميثاق وقيل الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ولا تدافع بين هذه الأقوال كما لا يخفى والاستثناء على ما تقدم، وكذا هذه الأقوال متصل وأما على قول الأمير كرم الله تعالى وجهه وما نقل عن ابن عمه فقال أبو حيان: هو استثناء منقطع وقيل يجوز الاتصال والانقطاع بناء على أن الكسب مطلق العمل أو ما هو تكليف فلا تغفل فِي جَنَّاتٍ خبر مبتدأ محذوف والتنوين للتعظيم والجملة استئناف وقع جواب عن سؤال نشأ مما قبله من استثناء أصحاب اليمين كأنه قيل ما بالهم؟ فقيل: هم في جنات لا يكتنه كنههما ولا يدرك وصفها وجوز أن يكون الظرف في موضع الحال من أَصْحابَ الْيَمِينِ أو من ضميرهم في قوله تعالى يَتَساءَلُونَ قدم للاعتناء مع رعاية الفاصلة. وقيل ظرف للتساؤل وليست المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضهم بعضا على أن يكون كل واحد منهم سائلا ومسؤولا معا بل وقوع السؤال منهم مجردا عن وقوعه عليهم فإن صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدي ووقوعه عليه معا بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تشاتم القوم أي شتم كل واحد منهم الآخر لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ويقصد بها الدلالة على الأول فقط ويكون الواقع عليه شيئا آخر كما في قولك: تراه والهلال. قال جار الله: إذا كان المتكلم مفردا يقول: دعوته وإذا كان جماعة يقول: تداعيناه، ونظيره رميته وتراميناه ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا التفاعل من الجانبين وعلى هذا فالمسؤول محذوف أعني المجرمين والتقدير يَتَساءَلُونَ المجرمين عنهم أي يسألون المجرمين عن أحوالهم فغير إلى ما في النظم الجليل وقيل يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ والمعنى على ذلك وحذف المسئول لكونه غير المسئول عنه وقوله تعالى ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بيان للتساؤل من غير حاجة إلى إضمار قول أو هو مقدر بقول وقع حالا من فاعل صفحة رقم 146
يَتَساءَلُونَ أي يسألونهم قائلين أي شيء أدخلكم في سقر وقيل المسئول غير المجرمين كجماعة من الملائكة عليهم السلام وما سَلَكَكُمْ إلخ حكاية قول المسئولين عنهم أي لما سأل أصحاب اليمين الملائكة عن حال المجرمين قالوا لهم نحن سألنا المجرمين عن ذلك وقلنا لهم ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى الآخر وكان يكفيهم أن يقولوا حالهم كيت وكيت لكن أتى بالجواب مفصلا حسب ما سألوه ليكون أثبت للصدق وأدل على حقيقة الأمر ففي الكلام حذف واختصار. وجوز أن تكون صيغة التفاعل على حقيقتها أي يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين وما سَلَكَكُمْ حكاية قول المسئول عنهم أيضا ولا يخفى ما في اعتبار الحكاية من التكلف فليس ذاك بالوجه وإن كان الإيجاز نهج التنزيل والحذف كثيرا في كلامه تعالى الجليل، والظاهر أن السؤال سؤال توبيخ وتحسير وإلّا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار ولو كانوا الأطفال فيما أظن لانكشاف الأمر ذلك اليوم. وروى عبد الله بن أحمد وجماعة عن ابن الزبير أنه يقرأ «يتساءلون عن المجرمين يا فلان ما سلككم» ورويت عن عمر أيضا وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ «يا أيها الكفار ما سلككم في سقر» قالُوا أي المجرمون مجيبين للسائلين لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ للصلاة الواجبة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي نعطيه ما يجب إعطاؤه والمعنى على استمرار النفي الاستمرار. واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات لأنهم جعلوا عذابهم لترك الصلاة فلو لم يخاطبوا بها لم يؤاخذوا وتفصيل المسألة في الأصول وتعقب هذا الاستدلال بأنه لا خلاف في المؤاخذة في الآخرة على ترك الاعتقاد فيجوز أن يكون المعنى من المعتقدين للصلاة ووجوبها فيكون العذاب على ترك الاعتقاد، وأيضا المضلين يجوز أن يكون كناية عن المؤمنين، وأيضا ذاك من كلام الكفرة فيجوز كذبهم أو خطؤهم فيه وأجيب بأن ذلك عدول عن الظاهر يأباه قوله تعالى وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ إلخ
والمقصود من حكاية السؤال والجواب التحذير فلو كان الجواب كذبا أو خطأ لم يكن في ذكره فائدة وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه والخوض في الأصل ابتداء الدخول في الماء والمرور فيه واستعماله في الشروع في الباطل من المجاز المرسل أو الاستعارة على ما قرروه في المشفر ونحوه. وعن بعضهم أنه اسم غالب في الشر وأكثر ما استعمل في القرآن بما يذم الشروع فيه وأريد بالباطل ما لا ينبغي من القول والفعل وعد من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا وحكاية أحوال الفسقة بأقسامهم على وجه الالتذاذ والاستئناس بها ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم لغير غرض شرعي بل لمجرد أن يتوصل به إلى طعن وتنقيص والتكلم بالكلمة يضحك بها الرجل جلساءه سواء كانت مباحة في نفسها أم لا نعم التكلم بالكلمة المحرمة لذلك باطل على باطل إلى غير ذلك مما لا يحصى وكان ذكر مَعَ الْخائِضِينَ إشارة إلى عدم اكتراثهم بالباطل ومبالاتهم به فكأنهم قالوا وكنا لا نبالي بباطل وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له لأنه أدهاها وأهولها وأنهم ملابسوه وقد مضت بقية الدواهي وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرا إلى آخر عمرهم حسبما نطق به قولهم حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت ومقدماته كما ذهب إليه جل المفسرين وقال ابن عطية الْيَقِينُ عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة وقول المفسرين هو الموت متعقب عندي لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي فلم يريدوا باليقين إلّا الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت انتهى وفيه نظر. ثم الظاهر أن مجموع ما ذكروه سبب لدخول مجموعهم النار فلا يضر في ذلك أن من أهل النار من لم يكن وجب عليه إطعام مسكين كفقراء الكفرة المعدمين. وفي الكشاف يحتمل الكلام أن يكون دخول كل منهم النار لمجموع الأربعة ويحتمل أن يكون دخول بعضهم لبعضها كان يكون
ذلك لمجرد ترك الصلاة أو ترك الإطعام وفيه دسيسة اعتزال وهو تخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين كتارك الصلاة في النار وأنت تعلم أن الآية في الكفار لا في أعم منهم فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لو شفعوا لهم جميعا فالكلام على الفرض واشتهر أنه من باب:
ولا ترى الضب بها ينجحر وحمل التعريف على الاستغراق أبلغ وأنسب بالمقام والفاء في قوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين ومُعْرِضِينَ حال لازمة من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الاستفهامية أعني لهم وهي المقصودة من الكلام وعَنِ متعلقة بها والتقديم للعناية مع رعاية الفاصلة أي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الإيمان به وجوز أن يراد بالتذكرة ما يعم القرآن وما بعد يرجح الأول وهو مصدر بمعنى التذكير أصل على ما ذكر مبالغة وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ حال من المستكن في معرضين بطريق التداخل والحمر جمع حمار والمراد به كما قال ابن عباس حمار الوحش لأنه بينهم مثل بالنفار وشدة الفرار ومُسْتَنْفِرَةٌ من استنفر بمعنى نفر كعجب واستعجب كما قيل والأحسن أن استفعل للمبالغة كأن الحمر لشدة العدو تطلب النفار من نفسها والمعنى مشبهين بحمر نافرة جدا فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي أسد وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وأخرج ذلك ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي هريرة، وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس أيضا بيد أنه قال هو بلسان العرب «الأسد» وبلسان الحبشة قَسْوَرَةٍ وفي رواية أخرى عنه إنها الرجال الرماة القنص وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وفي رواية أخرى عنه أخرجها ابن عيينة في تفسيره أنه ركز الناس أي أصواتهم وعنه أيضا حبال الصيادين وعن قتادة النبل وقال ابن الأعرابي وثعلب القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل وجمهور اللغويين على أنه الأسد وأيّا ما كان فقد شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بني كما في قوله سبحانه كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: ٥] أو شهادة عليهم بالبله وقلة العقل. وقرأ الأعمش «حمر» بإسكان الميم وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم «مستنفرة» بفتح الفاء أي استنفرها فزعها من القسورة وفرت يناسب الكسر فعن محمد بن سلام قال سألت أبا سرار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ماذا فقال مسنفرة طردها قسورة ففتح الفاء فقلت إنما هو فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال أفرت؟ قلت: نعم، قال فمستنفرة إذن فكسر الفاء وقوله تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها وجوز أن يراد كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد وفيه بعد وذلك على الوجهين أنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأت كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك فنزلت ونحوه قوله تعالى لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: ٩٣] وقال وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام: ٧] الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيه براءة وأمنة من النار وقيل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلّا أن يراد بالصحف
المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة ونحوه ما روي عن أبي صالح فمآلهما إلى واحد لاشتراكهما في أن المنشر لم يبق على أصله وأن لكل صحيفة مخصوصة به إما لخلاصه من الذنب وإما لوجه خلاصة فالمعمول عليه ما تقدم وهو مروي عن الحسن وقتادة وابن زيد. وقرأ سعيد بن جبير «صحفا» بإسكان الحاء «منشرة» بالتخفيف على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزل ونزله وفي البحر المحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففا ثلاثيا ويقال في الميت أنشره الله تعالى
ونشره ويقال: أنشره الله تعالى فنشر هو أي أحياه فحيي كَلَّا ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون وقرأ أبو حيوة «تخافون» بتاء الخطاب التفاتا كَلَّا ردع لهم عن إعراضهم إِنَّهُ أي القرآن أو التذكرة السابقة في قوله تعالى فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وكذا الضمير الآتي وذكر لأنه بمعنى القرآن أو الذكر تَذْكِرَةٌ وأي تذكرة فَمَنْ شاءَ أن يذكره ذَكَرَهُ وحاز بسببه سعادة الدارين والوقف على كَلَّا على ما سمعت في الموضعين وعلى مُنَشَّرَةً والْآخِرَةَ إن جعلت كما في الحواشي بمعنى إلّا وَما يَذْكُرُونَ أي بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله وهو قوله سبحانه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلّا بأن يشاء الله تعالى أو حال إن يشاء الله ذلك وهذا تصريح بأن أفعال العباد بمشيئة الله عز وجل بالذات أو بالواسطة فيه رد على المعتزلة وحملهم المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء خروج عن الظاهر من غير قسر وإلجاء. وقرأ نافع وسلام ويعقوب «تذكرون» بتاء الخطاب التفاتا مع إسكان الذال وروي عن أبي حيوة «يذّكرون» بياء الغيبة وشد الذال وعن أبي جعفر «تذكرون» بالتاء الفوقية وإدغامها في الذال هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتقى عذابه ويؤمن به ويطاع فالتقوى مصدر المبني للمفعول وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر جل وعلا لمن آمن به وأطاعه فالمغفرة مصدر المبني للفاعل وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجة وخلق آخرون
عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فقال: «قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له». وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك.
وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع يديه إليّ ثم يردهما من غير مغفرة، قالت الملائكة: إلهنا ليس لذلك بأهل قال الله تعالى لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له»
وكأن الجملة لتحقيق الترهيب والترغيب اللذين أشعر بهما الكلام السابق كما لا يخفى على المتذكر
وعن بعضهم أنه لما سمع قوله تعالى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: «اللهم اجعلني من أهل التقوى وأهل المغفرة
على أن أول الثاني كثاني الأول مبنيا للفاعل وثاني الثاني كأول الأول مبنيا للمفعول وإلّا فلا يحسن الدعاء وإن تكلف لتصحيحه فافهم والله تعالى أعلم.