آيات من القرآن الكريم

۞ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ

فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إِلَيْهِ قَوْمًا لَحِقْنَا بِالنُّجُومِ مَعَ السَّحَابِ
وَثَالِثُهَا: أَنَّ تَأْنِيثَ السَّمَاءِ لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ تَذْكِيرُهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالْعَيْنُ بِالْإِثْمِدِ الْخَيْرِيِّ مَكْحُولُ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ السَّمَاءُ ذَاتَ انْفِطَارٍ فَيَكُونَ مِنْ بَابِ الْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ «١»، وَالشَّجَرِ الْأَخْضَرِ «٢»، وَأَعْجَازِ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «٣»، وَكَقَوْلِهِمُ امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ، أَيْ ذَاتُ رَضَاعٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى: مُنْفَطِرٌ بِهِ؟ الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى مُنْفَطِرٌ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبَاءَ فِي (بِهِ) مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ فَطَرْتُ الْعُودَ بِالْقَدُومِ فَانْفَطَرَ بِهِ، يَعْنِي أَنَّهَا تَنْفَطِرُ لِشِدَّةِ ذَلِكَ اليوم وهو له، كَمَا يَنْفَطِرُ الشَّيْءُ بِمَا يَنْفَطِرُ بِهِ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ السَّمَاءُ مُثْقَلَةٌ بِهِ إِثْقَالًا يُؤَدِّي إِلَى انْفِطَارِهَا لِعِظَمِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَيْهَا وَخَشْيَتِهَا مِنْهَا كَقَوْلِهِ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧].
أَمَّا قَوْلُهُ: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَعْدُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَفْعُولِ وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْفَاعِلِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعْدُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَفْعُولٌ أَيِ الْوَعْدُ الْمُضَافُ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاجِبُ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمَهُ يَقْتَضِيَانِ إِيقَاعَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَعْدُ اللَّهِ وَاقِعٌ لَا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وهاهنا وَإِنْ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ حَسُنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِشَرْحِ أَحْوَالِ السُّعَدَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحْوَالَهُمْ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالطَّاعَةِ لِلْمَوْلَى فَقَدَّمَ ذَلِكَ وَالثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَلْقِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا [المزمل: ١٠] وَأَمَّا الْأَشْقِيَاءُ فَقَدْ بَدَأَ بِتَهْدِيدِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الإجمال، وهو قوله تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١] ثم ذكره بَعْدَهُ أَنْوَاعَ عَذَابِ الْآخِرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ الْأَخْذُ الْوَبِيلُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ وَصَفَ بَعْدَهُ شِدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعِنْدَ هَذَا تَمَّ الْبَيَانُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا جَرَمَ خَتَمَ ذلك الكلام بقوله:
[سورة المزمل (٧٣) : آية ١٩]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ تَذْكِرَاتٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ عِبَارَةٌ عَنْ الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية.
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
(١) يشير إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ [القمر: ٧].
(٢) يشير إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ [يس: ٨٠].
(٣) يشير إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: ٢٠].

صفحة رقم 693

قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أَقَلُّ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا اسْتُعِيرَ الْأَدْنَى وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِلْأَقَلِّ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا دَنَتْ قَلَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْيَازِ وَإِذَا بَعُدَتْ كَثُرَ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالنَّصْبِ وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ وتقوم النصف [والثلث] «١» وَقُرِئَ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِالْجَرِّ أَيْ تَقُومُ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثَيْنِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، لَكِنَّا بَيَّنَّا فِي تفسير قوله:
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: ٢] أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَهُمْ أَصْحَابُكَ يَقُومُونَ مِنَ اللَّيْلِ هَذَا الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يَعْنِي أَنَّ الْعَالِمَ بِمَقَادِيرِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ عَائِدٌ إِلَى مَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ أَيْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُكُمْ إِحْصَاءُ مِقْدَارِ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُمْكِنُكُمْ أَيْضًا تَحْصِيلُ تِلْكَ الْمَقَادِيرِ عَلَى سَبِيلِ الطَّعْنِ وَالِاحْتِيَاطِ إِلَّا مَعَ الْمَشَقَّةِ التَّامَّةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الرَّجُلُ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُصِيبَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ قِيَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَنْ تُحْصُوهُ أَيْ لَنْ تُطِيقُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ قَدْ كَلَّفَهُمْ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ صُعُوبَتُهُ لَا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا أُطِيقُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى فُلَانٍ إِذَا اسْتَثْقَلَ النَّظَرَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْخِيصِ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ الْمُقَدَّرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [الْبَقَرَةِ: ١٨٧] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ رَفَعَ التَّبِعَةَ عَنْكُمْ فِي تَرْكِ هَذَا الْعَمَلِ كَمَا رَفَعَ التَّبِعَةَ عَنِ التَّائِبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ/ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ أَحَدُ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، أَيْ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ، ثم هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ:
قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَسَخَ وُجُوبَ ذَلِكَ التَّهَجُّدِ وَاكْتَفَى بِمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْقَوْلُ الثَّانِي: أن المراد من قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِعَيْنِهَا وَالْغَرَضُ مِنْهُ دِرَاسَةُ الْقُرْآنِ لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنَ النِّسْيَانِ قِيلَ: يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ، وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَقِيلَ: خَمْسِينَ آيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلِ السُّورَةُ الْقَصِيرَةُ كَافِيَةٌ، لِأَنَّ إِسْقَاطَ التَّهَجُّدِ إِنَّمَا كَانَ

(١) زيادة من الكشاف ٤/ ١٧٨ ط. دار الفكر.

صفحة رقم 694

دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفِي الْقِرَاءَةِ الْكَثِيرَةِ حَرَجٌ فَلَا يمكن اعتبارها. وهاهنا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: سَقَطَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ وَصَارَتْ تَطَوُّعًا وَبَقِيَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إلى قوله وَآتُوا الزَّكاةَ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا النَّسْخِ فَقَالَ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِمَ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّهُ عَلِمَ كَذَا وَكَذَا وَالْمَعْنَى لِتَعَذُّرِ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرْضَى وَالضَّارِبِينَ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَمَّا الْمَرْضَى فَإِنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ الِاشْتِغَالَ بِالتَّهَجُّدِ لِمَرَضِهِمْ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ وَالْمُجَاهِدُونَ فَهُمْ مُشْتَغِلُونَ فِي النَّهَارِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَنَامُوا فِي اللَّيْلِ لَتَوَالَتْ أَسْبَابُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا السَّبَبُ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ٧] فَلَا جَرَمَ مَا صَارَ وُجُوبُ التَّهَجُّدِ مَنْسُوخًا فِي حَقِّهِ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُسَافِرِينَ لِلْكَسْبِ الْحَلَالِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشهداء» ثم أعاد مرة أخرى قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ ثُمَّ قَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يَعْنِي الْمَفْرُوضَةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أَيِ الْوَاجِبَةَ وَقِيلَ: زَكَاةُ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ زَكَاةٌ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ فَسَّرَهَا بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ جَعَلَ آخِرَ السُّورَةِ مَدَنِيًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرِيدُ سَائِرَ الصَّدَقَاتِ وَثَانِيهَا: يُرِيدُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ، وَهُوَ إِخْرَاجُهَا مِنْ أَطْيَبِ الْأَمْوَالِ وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا لِلْفُقَرَاءِ وَمُرَاعَاةُ النِّيَّةِ وَابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ وَالصَّرْفُ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ وَثَالِثُهَا: يُرِيدُ كُلَّ شَيْءٍ يُفْعَلُ من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
[قوله تعالى وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ فَقَالَ: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا مِنَ الَّذِي تُؤَخِّرُهُ إِلَى وَصِيَّتِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا لَكُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكُمْ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: هُوَ خَيْرًا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ هُوَ خَيْرٌ وَأَعْظَمُ أَجْرًا بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، ثُمَّ قَالَ:
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لِذُنُوبِكُمْ وَالتَّقْصِيرَاتِ الصَّادِرَةِ مِنْكُمْ خَاصَّةً فِي قِيَامِ اللَّيْلِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ رَحِيمٌ بِهِمْ، وَفِي الْغَفُورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَفُورٌ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَفُورٌ لِمَنْ يُصِرُّ عَلَى الذَّنْبِ، احْتَجَّ مُقَاتِلٌ عَلَى قَوْلِهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: غَفُورٌ رَحِيمٌ يَتَنَاوَلُ التَّائِبَ وَالْمُصِرَّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ عَنْهُ وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ وَالثَّانِي: أَنَّ غُفْرَانَ التَّائِبِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْخَصْمِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَدْحُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَالْغَرَضُ مِنَ الْآيَةِ تَقْرِيرُ الْمَدْحِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ تَحْقِيقًا لِلْمَدْحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

صفحة رقم 695
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية