تعليق على مدى كلمة الكفر في القرآن
وبمناسبة ورود أحد اشتقاقات كلمة الكفر في القرآن لأول مرة في الآيات وهو (كفرتم) نقول: إن هذه الكلمة اشتقاقاتها قد وردت كثيرا في القرآن.
وجاءت في معظم آياته التي وردت فيها بمعنى جحود رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الأنبياء من قبله وإنكار الله وآياته ونعمه. ولا تدل على عقيدة دينية خاصة. وهي في أصلها وصف أسلوبي يصح أن يوجه إلى كل إنسان جاحد بشيء ما. غير أنها صارت في القرآن ومنذ عهد النبي وما بعده وصف تشنيع أيضا. وقد استعملت من أجل معناها المذكور في معرض الإشارة إلى إنكار المشركين والوثنيين والكتابيين وجحودهم جميعا على أنها استعملت في بعض الآيات في وصف الذين أنكروا وحدة الله مطلقا أو اعتقدوا بألوهية السيد المسيح لما جاء في آيات المائدة هذه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)، ولَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ [٧٣].
[سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
. (١) يقدّر: يحسب.
(٢) لن تحصوه: هنا بمعنى لن تصلوا إلى الغاية من عبادته أو لن تطيقوه.
(٣) فتاب عليكم: هنا بمعنى خفف عنكم وتسامح معكم.
(٤) الضرب في الأرض: كناية عن السعي في سبيل الرزق.
تعليق على الآية: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ إلخ
وما روي في سياقها من روايات وما انطوى فيها من صور وتلقين معنى الآية واضح، والجمهور على أنها مدنية «١». والمصحف الذي اعتمدناه ذكرها كذلك. وطابع المدنية عليها واضح مثل ذكر القتال في سبيل الله الذي إنما كان بعد الهجرة ومثل تعبير إقراض الله الذي لم يرد إلّا في الآيات المدنية حثا على الإنفاق في سبيل الله. ويلحظ أن هناك مناسبة بين موضوع الآية وموضوع الآيات الأولى من السورة، فقيام الليل موضوع مشترك بينهما. وفي الآيات الأولى معنى الإلزام به وفي هذه الآية تخفيف. وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني وخاصة في وضع الآيات المدنية في السور المكية. ونعتقد أن ذلك كان يتم بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم وفي حياته. ومن البراهين القرآنية على ذلك الآية الأخيرة من سورة النساء. فقد نزلت بعد أن تم تأليف السورة وفيها تتمة لتشريع الإرث الذي احتوته آيات السورة الأولى فأمر النبي بإلحاقها بالسورة ولو في آخرها للتناسب الموضوعي.
ولقد روى الطبري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أجعل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيرا يصلي عليه من الليل فتسامع به الناس فاجتمعوا فخرج كالمغضب وكان بهم رحيما، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال يا أيها الناس أكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما دمتم عليه. ورأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم وأنزل الآية».
ومهما يكن من أمر ففي الآية تنطوي صورة من صور حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه
الأولين التعبدية، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم ظل ملازما لما أمره الله به من قيام الليل والتهجد فيه وتلاوة القرآن. وأصحابه الأولون حذوا حذوه في ذلك كما هو صريح في الآية وكما ذكرته آيات سورة الذاريات التي أوردناها قبل قليل. واستمر ذلك ردحا في العهد المدني على ما تدل عليه الآية. فلما نما عدد المسلمين وكثرت مشاغلهم وواجباتهم اقتضت الحكمة التخفيف تمشيا مع الظروف والمصلحة وطبائع الأمور.
فنزلت الآية وألحقت بالسورة التي أمرت آياتها الأولى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام قسم كبير من الليل وحفزت أصحابه الأولين على الاقتداء به.
وواضح أنه ليس في الآية نسخ وإنما تخفيف وتعديل في أمر ليس أساسيا في العقيدة والتكليف. فالصلاة والزكاة فرضان أساسيان في التكليف فأمرت بالتزامهما. والتهجد الليلي الطويل هو أمر إضافي مستحب، فلم تر حكمة الله بأسا في تخفيفه وتعديله مراعاة لطاقة المسلمين وظروفهم. وفي هذا مشهد من مشاهد التطور في التكليف والتشريع والتنزيل. وفيه تلقين جليل يصح أن يقاس عليه. وفيه إيذان بأن الله لا يكلف في عبادته إلّا المستطاع الذي لا يكون فيه مشقة وضنى، ولا يسبب إهمالا وانصرافا وعجزا عن الواجبات المشروعة الأخرى شخصية كانت أم عمومية. فالله يعلم أن الناس مهما حرصوا واشتدوا في العبادة فلن يوفوا الله حقه ولن يبلغوا الغاية. وإن منهم المريض ومنهم الساعي في سبيل الرزق والمرابط والمقاتل في سبيل الله. وكل هذه واجبات وأعذار مشروعة للتخفيف، ومثل هذه التلقينات قد تكرر في القرآن بأساليب متنوعة على ما سوف نشير إليه في مناسباته.
وننبه على أن هذا التلقين وأمثاله يجب أن يبقى في نطاق ما لم يرد فيه نصّ قرآني أو نبوي ثابت قاطع وصريح، وفي نطاق الرخص الصريحة ومدى التسهيلات القرآنية والنبوية الثابتة.
تعليق على الزكاة
وبمناسبة ورود كلمة «الزكاة» لأول مرة هنا ولو في آية مدنية نقول إن أصل
الكلمة زكا بمعنى نما وطلب. وقد وردت الكلمة في القرآن بمعنى التطهير أو مرادفة له مثل ما جاء في آية سورة البقرة هذه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)، وفي آية سورة التوبة هذه: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [١٠٣]، وإطلاقها على الصدقات مجازي يراد به أنها مطهرة أو منمية للمال.
ونرجح أنها كانت تستعمل في هذا المعنى قبل البعثة بدليل ورودها به في آيات مبكرة جدا مثل آيات سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)، وآيات سورة الليل هذه: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) على اعتبار أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكل ما فيه بهذا اللسان الذي كان هو لسان العرب وأهل بيئة النبي قبل نزوله «١». غير أنها صارت علما على الفريضة التي فرضت على أموال الأغنياء للفقراء والمحتاجين وسبل الخير ومصلحة المسلمين العامة.
وقد ذكرت بلفظها في سورة مبكرة نوعا ما مثل آية سورة الأعراف هذه:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)، وآية سورة مريم هذه: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١). وفي سورتي النمل ولقمان المبكرتين نوعا ما في النزول أيضا وردت بلفظها في سياق وصف المسلمين الأولين كما ترى في هذه الآيات:
١- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) [النمل/ ٣].
٢- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) [لقمان/ ٤- ٥].
حيث ينطوي في هذه الآيات دليل على أن الزكاة كانت ممارسة من قبل المسلمين الأولين قبل نزولها بمدة ما.
وهذه الآيات وإن جاءت بأسلوب التنويه والحثّ فإن ذلك هو صفة جميع المأمورات والمنهيات القرآنية في السور المكية لأنه هو المتسق مع طبيعة العهد المكي على ما سوف ننبه عليه في مناسباته ولا يمنع القول إن النبي صلّى الله عليه وسلّم استلهاما من آيات سورتي الأعلى والليل اللتين يرجح أنهما نزلتا في السنة الأولى من البعثة قد يكون اعتبرها ركنا من أركان الإسلام منذ عهد مبكر وأمر المسلمين الأولين الميسورين بأدائها لأن الحاجة كانت ماسة إلى ذلك سواء أكانت من أجل أغراض الدعوة أم من أجل مساعدة الذين آمنوا من الفقراء والمساكين والأرقاء وكانوا يتعرضون للأذى والحرمان.
ويلحظ أن أسلوب الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة جاء في آية سورة البقرة هذه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)، التي نرجح أنها من أبكر الآيات المدنية في بابها حيث يسوغ القول إن هذا الركن قد ثبت بأسلوب الأمر والتشريع حالما سنح الظرف المناسب وهو الهجرة التي قوي بها الإسلام وصار له بها سلطان ودولة يتمثلان في النبي صلّى الله عليه وسلّم والمجتمع الإسلامي الجديد في المدينة.
وليس في القرآن المكي ولا المدني مقدار محدد للزكاة، وقد حدد ذلك في الأحاديث النبوية. وهذه الأحاديث على ما يلمح من أسماء رواتها هي أحاديث مدنية «١» غير أن آيات في سور المعارج والذاريات والأنعام يمكن أن تفيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد حدد لها مقادير معينة في العهد المكي كما ترى فيما يلي:
١- كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام/ ١٤١].
٢- وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) [المعارج/ ٢٤- ٢٥].
ومن المحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم في العهد المدني أدخل تعديلات على
المقادير التي حددها في العهد المكي. ومع أن مصارف الزكاة قد ذكرت في آية من آيات سورة التوبة هذه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠). التي نزلت في وقت متأخر من العهد المدني فإن أسلوبها والسياق الذي جاءت فيه يلهمان أن هذه المصارف كانت مما جرى عليه قبل نزولها، وبالتالي أنها تشريع نبوي ثبت في هذه الآية. وقد ذكرت بعض هذه المصارف بألفاظها في إحدى آيات سورة البقرة المبكرة في النزول في العهد المدني وهي: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ [١٧٧].
والزكاة في الآية التي نحن في صددها قرنت إلى الصلاة. وهذا تكرر في معظم الآيات التي ذكرت فيها الصلاة. وفي هذا القرآن من جهة وفي جعلها من صفات المؤمن الرئيسية كما جاء في آية النمل التي أوردناها قبل، وكما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وغيرهما. وبعبارة أخرى في جعلها عنوانا من عناوين الإيمان وركنا من أركان الإسلام من جهة ثانية توطيد لمبدأ المعونة المالية للمحتاجين إليها وللمصالح العامة بصورة إلزام وفرض، وعدم ترك ذلك للتطوع والاختيار. ولقد روي أن ابن عباس سئل عن حكمة قرن الصلاة إلى الزكاة في القرآن فقال لأن الصلاة والزكاة توأمان في الإسلام لا تقبل إحداهما بدون الأخرى. تلك حق الله وهذه حق الناس.
ولعل فريضة الزكاة بهذه الصفة والمعنى من أعظم التشريعات الإسلامية سعة مدى وأثرا في صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه، وتخفيف أزمات بنيه ومحتاجيه، وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد بين المحتاجين، وغير المحتاجين، وتيسير تغذية المشاريع العامة التي لا تقوم إلّا بالمال. وهي من أعظم
مميزات الشريعة الإسلامية على غيرها، على هذا الاعتبار والمعنى ومن أعظم مرشحاتها للخلود.
ولقد ذكرت الزكاة حضا عليها وإيجابا لها وتنويها بفاعليها وتنديدا بمانعيها ووعدا بمضاعفة ثوابها وبإخلاف الله على فاعليها في آيات كثيرة جدا مكية ومدنية تغني كثرتها عن التمثيل حيث ينطوي في ذلك مقدار العناية التي أعارتها حكمة التنزيل للزكاة ومدى ما كان وقدر لها من أثر وخطورة في حياة المجتمع الإسلامي. ولقد ورد مثل ذلك في أحاديث نبوية عديدة أيضا.
من ذلك ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهمّ أعط ممسكا تلفا» «١». وما رواه كذلك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ولا يقبل الله إلّا الطيّب إلّا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله» «٢». وروى الترمذي زيادة على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» «٣».
وما رواه النسائي عن أبي سعيد قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فقال: والذي نفسي بيده ثلاث مرات ثم أكبّ فأكبّ كلّ رجل منّا يبكي لا ندري على ماذا حلف ثمّ رفع رأسه في وجهه البشرى فكانت أحبّ إلينا من حمر النّعم ثم قال ما من عبد يصلّي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر إلّا فتحت له أبواب الجنة فقيل له (ادخل بسلام) » «٤». وما رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثمّ يأخذ
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه، ص ٥- ٧.
بلهزميه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران/ ١٨٠] «١». مما ينطوي فيه كذلك تساوق مع العناية والخطورة اللتين أعارتهما حكمة التنزيل للزكاة.
وفي القرآن آيات عديدة تنبه المسلمين بل والناس جميعا إلى أمر هام وهو أن ما في أيديهم من مال هو مال الله الذي رزقهم إياه وجعلهم مستخلفين فيه ليكون في ذلك تلقين جليل هو أنهم وكلاء على هذا المال وأن صاحبه الأصلي هو الله وهو الذي يأمرهم بالإنفاق منه فليس لهم من جهة منة على أحد فيما ينفقون وليس لهم من جهة أخرى حق في الامتناع عن الإنفاق. من ذلك آية سورة الحديد هذه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)، وآية سورة النور هذه: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [٣٣]، وآية سورة البقرة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ [٢٥٤].
والزكاة ضريبة سنوية على رأس المال وليست على الربح بالنسبة للنقود والعروض والمواشي والأنعام وعلى جميع الغلات الزراعية غير الصافية. وبكلمة أخرى إن المعوزين المفتقرين إلى المعونة حقا يستحقون في كل سنة جزءا معينا من كل ذلك واجب الأداء في كل سنة جزءا معينا من رؤوس الأموال التي في أيدي الناس يبلغ مقداره اثنين ونصفا من المائة بالنسبة للنقود والعروض وعشرة من المائة بالنسبة للغلات الزراعية ونحوا من ذلك بالنسبة للمواشي. وهو مقدار لم تصل الأمم الحديثة التي تقرر حصة من مواردها للإنفاق على المعوزين إلى مثله.
وننبه على أنه ليس هناك ما يمنع أن ينفق هذا المورد الكبير أو قسم منه على
إنشاء المياتم ودور العجزة والصنائع ودور الضيافة والمشافي والعيادات والملاجئ والمعاهد المتنوعة لمصلحة الفئات المعوزة فيكون الانتفاع به أشمل وأدوم وأجدى.
وإذا لوحظ أن التشريع الإسلامي لم يقتصر على هذه الضربية لمصلحة المعوزين بل أوجب لهم جزءا آخر من كل مورد مالي رسمي ذكر في القرآن وهو الفيء والغنائم على ما سوف نشرحه في مناسباته ومما يمكن أن يقاس عليه الموارد الرسمية المالية الأخرى. ثم إذا لوحظ أن القرآن احتوى إلى جانب ذلك آيات كثيرة تغني كثرتها عن التمثيل فيها حثّ على التصدق على الفقراء والمساكين والمحتاجين والإنفاق في سبيل الله بأسلوب يلهم أن المقصود منها صدقات تطوعية زيادة على الفريضة على ما سوف ننبه عليه في مناسباته بدت قوة وروعة حكمة الله بهذه الفئات وقصد ضمان صلاح المجتمع الإسلامي وأمنه وتضامنه وتخفيف أزمة بنيه والمحتاجين وتقليل أسباب الأحقاد والضغائن والحسد على ما ألمحنا إليه آنفا.
وبدت قوة جريمة الذين لا يراعون قصد الله عز وجل فلا يؤدون الحق المفروض لهذه الفئات وشدة مسؤوليتهم عن ما يتعرض له المجتمع من هزات وأزمات بسبب ذلك.
وآية التوبة التي أوردناها صريحة الدلالة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كان يجبي الزكاة بواسطة عمال يعينهم وينفقها على مصارفها في حدود ما يراه من مصلحة وحاجة وظرف. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يمثل بذلك سلطان الدولة في الإسلام، وهذا يسوغ القول أن سلطان الدولة في الإسلام هو صاحب الحق في جباية الزكاة وإنفاقها في حدود ما رسمه القرآن والسنة النبوية الثابتة «١».
ونكتفي هنا بما تقدم، وهناك أحاديث نبوية وصحابية واجتهادات فقهية حول مقادير الزكاة والفئات والجهات التي تستحقها سنوردها ونتوسع في شرحها في سياق آية سورة التوبة التي هي أكثر ملاءمة.
الجزء الأول من التفسير الحديث ٢٨
تعليق على تعبير وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
وبمناسبة ورود هذا التعبير لأول مرة نقول إنه كما هو المتبادر تعبير استحثاثي على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على المحتاجين وقد تكرر في آيات مدنية عديدة.
وفيه معنى لطيف يزيد في قوة الحث وهو أن الذي ينفق أمواله في سبيل الله ويتصدق بها على المحتاجين كأنما يقرض الله وأن الذي يقرض الله يستحق الوفاء أضعافا مضاعفة. وهذا ما ورد في آيات عديدة مثل آية سورة البقرة هذه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) وورود هذا التعبير بعد الأمر بإيتاء الزكاة في الآية التي نحن في صددها ذو مغزى عظيم حيث يفيد أن المطلوب من الميسورين ليس الزكاة فقط بل أكثر منها وأن الزكاة هي الحد الأدنى الواجب الذي يكون تركه معصية كبيرة. ويتبادر لنا أن هذا المعنى هو المقصود في كل موضع جاء فيه التعبير والله أعلم.
تعليق على تعليم الاستغفار
ولقد انتهت الآية بطلب استغفار الله، والغفران في الأصل بمعنى الستر والوقاية، ثم صار بمعنى التسامح والإغضاء عن الذنوب. والمرجح أنه كان بهذا المعنى قبل البعثة أيضا.
وفي الأمر تلقين رباني بأن الله يعلم أن أكثر الناس لا يمكنهم أن يكونوا في نجوة من الهفوات والأخطاء، وأنه هو الغفور الرحيم الذي من شيمته التسامح والإغضاء وشمول عباده بالرحمة الواسعة إذا آمنوا به واعترفوا بذنوبهم وندموا عليها ولجأوا إليه يطلبون غفرانه ورحمته. وفي هذا ما فيه من حث المذنب على الندم والتوبة وتأميله بالغفران والرحمة وبعبارة أخرى فيه وسيلة من وسائل التربية الروحية وقصد إصلاح المسلم وصلاحه وهو مما تتوخاه الآيات القرآنية بصورة عامة.
ولقد تعددت الآيات التي تأمر المؤمنين بالاستغفار في السور المكية والمدنية
مما فيه تدعيم لهذا التلقين. وفي إحدى آيات سورة النساء حض للمسيئين بالاستغفار وتأميل بغفران الله لمن يستغفره وهي: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
(١١٠). وفي إحدى آيات سورة آل عمران تنويه بالمستغفرين وهي: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥).
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في حض المؤمنين على الاستغفار وتعليم بعض صيغه وبيان فوائده. منها حديث رواه البخاري والترمذي وأبو داود عن شداد بن أوس قال: «قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيد الاستغفار أن تقول اللهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت. خلقتني وأنا عبدك. وأنا على عهدك ما استطعت. أعوذ بك من شرّ ما صنعت. أبوء لك بنعمتك عليّ. وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت. قال ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» «١». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن زيد مولى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فرّ من الزحف» «٢». وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي بكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة» «٣» وحديث رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا ومن كلّ همّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب» «٤». وحديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه ص ١٣٥- ١٣٧.
(٤) المصدر نفسه.
«أنزل الله عليّ أمانين لأمتي، وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال/ ٣٣] فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» «١». وحديث أورده ابن كثير في سياق آية النساء المار ذكرها أخرجه ابن مردويه عن علي قال: «سمعت أبا بكر هو الصديق يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ما من عبد أذنب فقام فتوضّأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلّى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له لأنّ الله يقول: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء/ ١١٠] الآية»، حيث ينطوي في كلّ هذا تلقين نبوي متسق مع التلقين القرآني.
ويحسن بنا أن ننبه في هذا المقام على نقطة هامة، وهي أن الاستغفار يعني التوبة أو هو صيغة من صيغها. وللتوبة شروط وهي الندم على الذنب والعزم على الإصلاح وعدم الرجوع إليه في فسحة من العمر والعافية على ما تفيده الآيات الكثيرة التي سوف نوردها ونعلق عليها في سياق سورة البروج التي ذكرت فيها التوبة لأول مرة والتي يأتي تفسيرها في هذا الجزء. وفائدة الاستغفار إنما تتحقق بذلك ولا تكون بحركة اللسان والشفتين وحسب. ومن الأولى أن تحمل الأحاديث النبوية الخاصة على الاستغفار والمبشرة بفوائده على ذلك.
تعليق على تعبير سبيل الله
وتعبير «سبيل الله» يأتي لأول مرة في الآية التي نحن في صددها وإن كانت مدنية. ولقد التبس مفهومه بحيث صار كثير من الناس يظنون أنه الجهاد ووسائله لأنه جاء كثيرا في آيات الجهاد، غير أن إمعان النظر في هذه الآيات يكشف أنه غير الجهاد وأنه أعم منه وأن الجهاد بالمال والنفس إنما شرع لأجله، وأنه في الحقيقة مرادف لمعنى طريق الله ودعوته ودينه وتعاليمه الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية والسياسية والتهذيبية التي احتواها القرآن
وهدى إليها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبعبارة ثانية إنه الدعوة الإسلامية نفسها.
وهذا ما يبدو واضحا بقوة في آية سورة النحل هذه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(١٢٥) [١٢٥]. وإذا كان تعبير سبيل الله اقترن في القرآن كثيرا بالجهاد فلا يعني هذا أن الجهاد قد شرع لنشر الدعوة الإسلامية. فالقرآن قد قرر خطة حكيمة مثلى لنشر الدعوة منطوية في آية النحل وفي آيات كثيرة أخرى مكية ومدنية. وقد ظلت هذه الخطة خطة النبي صلّى الله عليه وسلّم في عهديه المكي والمدني ثم خطة خلفائه من بعده. أما الجهاد فقد شرع لمقابلة العدوان ودفع الأذى وحماية الدعوة من الصد والتعطيل والطعن مما احتوى القرآن كثيرا من الآيات في صدده سوف نشرحها في مناسباتها.
ويروي الخمسة حديثا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقّه وحسابه على الله» «١». ولما كانت جميع الغزوات التي قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم وجميع السرايا التي سيرها كانت ضد أعداء بادئين بالعدوان ومقابلة لعدوان وتنكيلا بمعتدين ومتآمرين على العدوان وناقضين للعهد وصادين عن دين الله ولم يرو أية رواية أن النبي قاتل أناسا لأنهم كفار ودون أن يبدو منهم عمل عدواني ما. فنحن نحمل هذا الحديث على قصد أنه أمر بمقاتلة الأعداء حتى يقولوا لا إله إلّا الله كما جاء في آية سورة التوبة هذه: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [٥]، وعبارة فَإِنْ تابُوا صريحة الدلالة على أن المقصودين هم أعداء معتدون. وبعد هذه الآية آيات أكثر صراحة في هذا الباب وهي: فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)، وهذه الآيات من أواخر ما نزل من القرآن لأن سورة التوبة هي آخر ما نزل وقد نزلت بعد فتح مكة. وبالإضافة إلى هذا فإن هذا الحديث روي في مناسبتين أخريين، أولاهما رواها الترمذي في سياق آيتي سورة الغاشية: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)، فقال: «إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال نفس الحديث ثم تلا هاتين الآيتين» «١» حيث يفيد هذا أنه إنما قال الحديث ليكون مفسرا لخطته بالنسبة لمن يعصمون بقولهم لا إله إلّا الله دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وليقول إنه يترك حساب ما لا يعرف من أعمال الناس الذين يقولون لا إله إلّا الله إلى الله وليس هو محاسبا على خفاياهم وأسرارهم. فإذا كان الحديث في أصله قد صدر من النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الموقف وحسب فيكون لذلك دلالته الخطيرة في صدد ما نحن بسبيل تقريره. أما المناسبة الثانية فهي عزيمة أبي بكر رضي الله عنه على حرب الممتنعين عن الزكاة بعد وفاة النبي حيث جاءه عمر رضي الله عنه فقال له: كيف تقاتلهم وهم يقولون لا إله إلّا الله وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإن قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله؟ فقال له أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حقّ المال، والله لو منعوني عناقا لقاتلتهم على منعها فلم يلبث أن شرح الله صدر عمر وجعله يرى موقف أبي بكر هو الحقّ «٢». وهذه الرواية يرويها أصحاب الكتب الخمسة. وخطورة دلالتها لا تقل عن خطورة دلالة رواية المناسبة الأولى إن لم تفقها. ويتبادر لنا أن رواية الترمذي هي أصل ظرف صدور الحديث وأن رواية
(٢) المصدر نفسه، ج ٢ ص ٧- ٨.
أصحاب الكتب الخمسة هي المتأخرة وهي في مثابة تطبيق للحديث في مقام مماثل للمقام الذي صدر فيه الأصل.
وكان رد أبي بكر رضي الله عنه واضعا للأمر في نصابه من حيث إنه أصرّ على قتال الممتنعين عن الزكاة لأنهم امتنعوا عن أداء حق المال. ومع ذلك حتى لو أردنا أن نأخذ الحديث مجردا من زيادة الترمذي وملابسة حرب الممتنعين عن الزكاة فإن حمله على قصد مقاتلة الأعداء هو الأولى بل الأوجب كما قلنا ما دام أنه لم يرو قط أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاتل حياديين ومسالمين وموادين أو أمر بقتال غير المقاتلين من ذوي الأعداء من شيوخ ونساء وأطفال.
وفي سورة الممتحنة آية فيها فيما نعتقد القول المحكم الفيصل في هذا الباب وهي: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)، ولقد قال المفسر الطبري في صدد هذه الآية إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال إنها عنت جميع من لم يقاتل المسلمين في الدين من جميع أصناف الملل والأديان وأنه لا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ لأن برّ المؤمن لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا. إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. والله سبحانه وتعالى أعلم.