واشتمل القسم الثاني من السورة على توجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأمره بتبليغ دعوته إلى الناس وإخلاص العمل لله وكونه لا يشرك بربه أحدا، وإعلامه بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأنه لا ينجيه أحد من الله إن عصاه، وأنه لا يدري بوقت العذاب: قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.. [الآيات: ٢٠- ٢٥].
وختمت السورة ببيان استئثار الله واختصاصه بمعرفة علم الغيب، وإحاطته بجميع ما لدى الخلائق وإحصاء أعدادهم: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً.. [٢٦- ٢٨].
إيمان الجن بالقرآن وبالله تعالى
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧)
الإعراب:
أَنَّهُ اسْتَمَعَ في موضع رفع، نائب فاعل ل أُوحِيَ وعطف عليها جميع ما ذكر بعدها وهو اثنا عشر موضعا من لفظ «أنّ» فهو عطف على الموحى به، ويصح الكسر في الجميع عطفا على المقول.
كَذِباً منصوب على المصدر لأنه نوع من القول، أو صفة لمحذوف أي قولا مكذوبا فيه. صفحة رقم 157
أَنْ لَنْ تَقُولَ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي أنه. وكذا أَنْ لَنْ يَبْعَثَ مخففة من الثقيلة. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً سدّ مسدّ مفعولي ظَنُّوا.
البلاغة:
قُرْآناً عَجَباً وصف بالمصدر للمبالغة، أي عجيبا في إيجازه وإعجازه.
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً بينهما طباق السلب لأن الإيمان ضدّ الشرك ونفي له.
الْإِنْسُ والْجِنُّ بينهما طباق.
أَحَداً، وَلَداً، رَصَداً، رَشَداً، قِدَداً، صَعَداً، عَدَداً إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو ما يسمى في علم البديع بالسجع المرصع.
المفردات اللغوية:
قُلْ أيها النبي للناس. أُوحِيَ إِلَيَّ أخبرني الله تعالى بالوحي. أَنَّهُ الهاء ضمير الشأن. اسْتَمَعَ لقراءتي القرآن. نَفَرٌ النفر: ما بين الثلاثة إلى العشرة. الْجِنِّ أجسام عاقلة خفية مخلوقة من النار، والمقصود بهم هنا جن نصيبين، وذلك في صلاة الصبح ببطن نخل:
موضع بين مكة والطائف، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية [الأحقاف ٤٦/ ٢٩]. فَقالُوا لقومهم لما رجعوا إليهم. قُرْآناً كتابا.
عَجَباً بديعا في حسن نظمه ودقة معناه، يتعجب منه من فصاحته وغزارة معانيه، مباين لكلام الناس. وعَجَباً: مصدر وصف به القرآن للمبالغة.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ الإيمان والحق والصواب. فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً لما نطق به من الأدلة القاطعة الدالة على التوحيد. وَأَنَّهُ الهاء ضمير الشأن. تَعالى جَدُّ رَبِّنا تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه من الصاحبة والولد، والمعنى: وصف بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. والجدّ: العظمة. وقرئ: جدّا بالتمييز، وجدّ بالكسر، أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.
صاحِبَةً زوجة. ويحتمل أن يكون المراد من الجدّ: الملك والسلطان أو الغنى، جاء في الحديث: «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيدة: لا ينفع ذا الغنى منك غناه. سَفِيهُنا السفيه: الجاهل ومن عنده خفة وطيش تنشأ عن حمق وجهل. شَطَطاً غلوّا في الكذب وتجاوزا حدّ العدل والحق بنسبة الصاحبة والولد إليه. كَذِباً بوصفه بذلك، حتى تبينا كذبهم فيما قالوا. يَعُوذُونَ يستعيذون أو يطلبون النجاة والعون. بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل
إذا أمسى بأرض قفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. فَزادُوهُمْ زادوا الجنّ باستعاذتهم بهم. رَهَقاً طغيانا وكبرا وعتوا، وأصل الرهق: الإثم وارتكاب المعاصي. وَأَنَّهُمْ أي الإنس. ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً بعد موته.
سبب النزول:
نزول الآية (١) :
قُلْ: أُوحِيَ... : أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.
فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآنا عجبا، فأنزل الله على نبيّه: قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ وإنما أوحي إليه قول الجن.
نزول الآية (٦) :
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ..: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل، جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي، جارك، فنادى مناد، لا نراه يا سرحان، فأتى الحمل
يشتد حتى دخل في الغنم، وأنزل الله على رسوله بمكة: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الآية.
وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد رعيت على أهلي، وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خرجنا هرابا، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا:
إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذاك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، من أقرّ بها، أمن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً.
التفسير والبيان:
حكى الله عن الجن ستة أشياء وهي:
١- قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي قل يا محمد مخبرا أمتك وقومك بأن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدّقوه وانقادوا له، فقد أوحى الله إلي على لسان جبريل عليه السلام أنه استمع عدد من الجن إلى قراءتي للقرآن، وهي سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقالوا لقومهم لما رجعوا إليهم: سمعنا كلاما مقروءا مثيرا للعجب في فصاحته وبلاغته، ومواعظه وبركاته. والإيحاء: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، كالإلهام وإنزال الملك، ويكون ذلك في سرعة.
والجنّ عالم مستتر عنا، لا نعرف عنه إلا ما أخبر به الوحي، فهم مخلوقون من النار: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الحجر ١٥/ ٢٧]، ولم
يرسل الله إليهم رسلا منهم، بل الرسل جميعا من البشر، وهم كالبشر منهم المؤمن المثاب، ومنهم الكافر المعاقب.
ونظير الآية قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ.. الآية [الأحقاف ٤٦/ ٢٩].
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي إن هذا القرآن يرشد إلى الحق والصواب ومعرفة الله تعالى، فصدقنا به أنه من عند الله، ولن نشرك مع الله إلها آخر من خلقه، ولا نتخذ إلها آخر، وهذا إعلان منهم للإيمان أمام قومهم حين رجعوا إليهم، كما جاء في تتمة آية الأحقاف السابقة: قالُوا: أَنْصِتُوا، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ.
وفي الآية دلالة أن أعظم ما في دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم: توحيد الله تعالى، وخلع الشرك وأهله. وقد آمنت الجن أن القرآن كلام الله، بسماعه مرة واحدة، ولم ينتفع كفار قريش، لا سيما رؤساؤهم، بسماعه مرات، مع كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم منهم يتلوه عليهم بلسانهم.
٢- وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وأنه ارتفع عظمة ربّنا وجلاله، أو فعله وأمره وقدرته، وأنه تعاظم عن اتّخاذ الصاحبة والولد، كما يقول الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد. والمعنى أنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله، نزهوا الرّب جلّ جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتّخاذ الصاحبة والولد. وبذلك أثبتوا وحدانية الله وامتناع وجود شريك له ثم أثبتوا له القوة والعظمة، ونزهوه عن الحاجة والضعف باتخاذ الصاحبة والولد، شأن العباد الذين يتعاونون على أمور الحياة بالزوجة للسّكن والألفة، وبالولد للمؤازرة والتكاثر والأنس.
٣- وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي وإن مشركي الجن
وجهالهم كانوا قبل إسلامهم يقولون قولا متجاوزا الحدّ، بعيدا عن الصواب، غاليا في الكفر، فهم يكذبون على الله بدعوى الصاحبة والولد وغير ذلك.
والشطط: مجاوزة الحد في الظلم والكفر وغيره من الباطل والزور.
٤- وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي وأنا حسبنا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله، حينما قالوا بأن له شريكا وصاحبة وولدا، فصدقناهم في ذلك، فلما سمعنا القرآن علمنا بطلان قولهم وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق، وعرفنا أنهم كانوا كاذبين.
وهذا- كما ذكر الرازي- إقرار منهم بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها بالاستدلال والاحتجاج.
٥- وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي كنا نرى أن لهم فضلا علينا، فكان بعض الإنس يستعيذ في القفار ببعض الجن، فزادوا رجال الجن طغيانا وسفها وغيّا وضلالا وإثما. وذلك أنه كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح. وقد أدى هذا إلى اجتراء الجن على الإنس وظلمهم.
ونظير الآية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا.. [الأنعام ٦/ ١٢٨].
٦- وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن أنه لا بعث ولا جزاء، أو أنه لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا يدعو إلى التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- الإخبار عن قصص الجن له فوائد كثيرة أهمها بيان أنهم مكلفون بالتكاليف الشرعية كالإنس، وأن المؤمن منهم يدعو الكافر إلى الإيمان، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوث إلى العالمين: الإنس والجن وإلى الملائكة تشريفا، وأن يكون إيمانهم بالقرآن باعثا كفار قريش وغيرهم إلى الإيمان به، وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
لكن ظاهر القرآن يدل على أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما رآهم لقوله تعالى:
اسْتَمَعَ. وفي صحيح البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنّ وما رآهم، انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ.. إلخ ما ذكر في سبب النزول المتقدم. ففي هذا الحديث دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم ير الجن، ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجنّ كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر، بسبب الشياطين لما رموا بالشهب، وكان المرميون بالشهب من الجنّ أيضا،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: «وأرسلت عليهم الشّهب».
ومذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم، ويدعوهم إلى الإسلام، وأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم رأى الجن قال القرطبي: وهو أثبت روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشّعاب، فقلت استطير «١» أو اغتيل، قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجيء
من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم،
فقال: «أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن»
فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جنّ الجزيرة
فقال: «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكلّ بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلا تستنجوا بهما، فإنها طعام إخوانكم الجن».
قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده، وابن عباس سمعه، وليس الخبر كالمعاينة «١».
وأصل الجن كما قال الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا، فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
٢- حكى الله عن الجن أشياء:
أولا- أنهم لما سمعوا القرآن العجيب في فصاحة كلامه وبليغ مواعظه الهادي إلى مراشد الأمور، قالوا: اهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله، ولن نشرك بربّنا أحدا، أي ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به.
ثانيا- أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك، نزّهوا ربهم عن الصاحبة والولد، لذا قالوا: عظم الله سبحانه عن أن يكون له صاحبة أو ولد.
ثالثا- استنكروا ما كان يقول إبليس والجن قبل إسلامهم من الكذب والغلو في الكفر ومجاوزة الحدّ في الظلم.
رابعا- حسبوا أن لن يكذب الإنس والجن على الله، فلذلك صدقناهم فيما سلف في أن لله صاحبة وولدا، فلما سمعنا القرآن تبيّنا به الحقّ.
خامسا- كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال:
أعوذ بسيد هذا الوادي، أو بعزيز هذا المكان من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح، فزاد الإنس الجنّ طغيانا وعتوا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. وقيل: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن، وقيل: زاد الجنّ الإنس رهقا أي خطيئة وإثما.
ويقال بدلا من هذه الاستعاذة: ما
جاء في حديث أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس، وقال: غريب جدا: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أصاب أحد منكم وحشة أو نزل بأرض مجنّة «١»، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها برّ ولا فاجر من شرّ ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن فتن النهار، ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير.
سادسا- ظن الإنس كما ظن الجن أن لن يبعث الله الخلق، أو ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة، وكل هذا توكيد للحجة على قريش، فإذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك. وعلى هذا يكون الكلام كلام الجن، وهو الظاهر.
ويحتمل أن يكون الكلام من قول الله تعالى للإنس، والمعنى: وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش.
وعلى كلا التقديرين: دلت الآية على أن الجن كما كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني، فيهم من ينكر البعث.