
إليهم من الكلام إذا صادف الحادثة تناقلها الناس بأن الكاهن أخبر بالغيب، فيعكفون عليه ويأخذ الشهرة بسببها، فإذا زاد عليها تسع كذبات يسمع منه ويصدق به أيضا من أجل صدقه في تلك، فيكونون قد ضلوا وأضلوا (وقد ذكرنا آنفا أن رمي النجوم بالشهب قديما وإنما زاد بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم) فقال لهم إبليس ما هذا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده يتحرون الخبر، فوجدوا رسول الله ﷺ قائما يصلي بين جبلين (أراه قال بمكة) فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وتقدم ما بمعناه بأوضح منه «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ» حتى حرست السماء ورميت بالشهب ومنعنا من استراق السمع وحرمنا من أخبارها التي تلقيها الكهنة ليفيضوها على العامة «أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» ١٠ من خير ورحمة وهدى
«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ» في معاملتهم بعضهم مع بعض وسائر الخلق لا يريدون إلا الخير «وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ» يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا مع أنفسهم وغيرهم لانا «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» ١١ جماعات متفرقين وأصنافا متقطعين مسلمين كاملين ومسلمين فاسقين وآخرين كافرين مثل الإنس الآن، إذ منهم المؤمن والكافر والفاسق وبين ذلك، كالنصيرية والدروز والإسماعيلية والعلوية والرافضة والقدرية والمرجئة والكرامية والدهرية وغيرهم، فرقا متباينة بالأخلاق والعادات والتدين «وَأَنَّا ظَنَنَّا» تحققنا وأيقنا، وهكذا كلّ ظن في القرآن يكون معناه اليقين «أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ» إذا فررنا في أقطارها فإنا نكون في قبضة متى أراد «وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» ١٢ إلى آفاق السماء ولانا تحققنا أنه قادر علينا أينما كنا لانفلت من قبضته ولا مقر لنا منه أبدا كيف وهو جل جلاله يقول (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الآية ٦٦ من سورة الزمر في ج ٢ هذا «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى» من حضرة الرسول «آمَنَّا بِهِ» أي القرآن الذي قرأه علينا المعبر عنه بالهدى جزمنا بأنه من الله وآمنا به وبمن أنزله عليه المرسل لهداية الخلق إنسهم وجنهم

«فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ» بعد أن رأى أن الإيمان به واجب حق ايمانا كاملا «فَلا يَخافُ بَخْساً» نقصا في عمله وفي ثوابه «وَلا رَهَقاً» ١٣ يغشاه من إثم ومذلة أو مكروه مطلقا، أنظروا أيها الناس جنّا آمنت بمحمد ﷺ لأول وهلة رأته وسمعت منه دون حاجة أتردد، فكر، وإنسا تتلى عليهم آيات الله منه ليل نهار، وهو معروف عندهم في صدقه وأمانته ونسبه ولم يؤمنوا، صدق الله (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الآية ١٧ من سورة الكهف في ج ٢ «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ» الجائرون من أسماء الأضداد، إذ يأتي بمعنى العادلين المستقيمين على الحق والعادلين عنه والعادل من الأضداد أيضا لأنه بمعنى المائلين عنه، والمائلون من الأضداد أيضا لأنه يقال مال إلى الحق ومال عنه، واعلم بأن قسط بمعنى جار فحسب، وأقسط بمعنى جار وعدل، ولا يقال اعدل في الحكم بل عدل به، ويحتمل المعنيين «فَمَنْ أَسْلَمَ» نفسه إلى ربه وآمن بما جاء به رسوله وسلم الناس من لسانه ويده «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» ١٤ طلبوا لأنفسهم الهدى والصواب، لأن من يجتهد طلبا للحق يوفق إليه، وكلمة من في صدر هذه الجملة تحتمل الجمع والإفراد ولذلك قال أولئك باعتبار معنى الجمعَ أَمَّا الْقاسِطُونَ»
الكافرون الذين بقوا على كفرهم فلم يسلموا وماتوا على ذلكَ كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً»
١٥ في الآخرة وقودا لها.
مطلب فتح أن وكسرها في هذه السورة:
هذا، وقد اختلف القراء في فتح أن وكسرها من أول السورة إلى هنا عدا التي بعد القول إذ لا قول فيها، فقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة، ووافقهم أبو جعفر في ثلاث منها وهي: ١- وأنه تعالى، ٢- وأنه كان يقول، ٣- وأنه كان رجال. واتفقوا على الفتح في أنه استمع، وأن المساجد لله، لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحي للنبيّ خاصة، وقالوا يصح بالبواقي الفتح والكسر، فوجه الكسر بالعطف على إنا التي هي بعد قالوا من عطف الجمل، ووجه الفتح على المفعولية. ومن المعلوم أن

ان تفتح في عشرة مواضع وتكسر في عشرة أيضا، فراجعها في كتب النحو وأوضحها مغني اللبيب. واعلم أنه لا دليل في هذه الآية لمن لا يرى ثوابا للجن، وذلك لأن الله تعالى ذكر هنا عقابهم على عدم الإيمان وسكت عن ثوابهم إذا آمنوا، لأن الله تعالى قال: (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) وهذا كاف لثبوت الثواب لذكر سببه وهو تحري الرشد، وإذا وجد السبب يوجد المسبب والله أكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد، بل من مقتضى عدله إثابته، لأن الرشد لا يأتي إلا بخير والخير ثوابه الجنة. أما قوله فإنهم خلقوا من النار، والنار لا تكون عذابا لمن خلق منها كالسمندل مثلا فإنه يرى نفسه منعما فيها لأنه يبيض ويفرّخ فيها كالبخ في الثلج والسمك في الماء والطير في الهواء، سبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى كلا لما خلق له وحبّبه فيه، فبغير محله لأنهم بعد ما آمنوا واستحقوا الجنة، فقد تغيروا من تلك الهيئة وصاروا خلقا آخر، فتكون النار عذابا لكافرهم الذي لم يتبدل خلقه ليذوق ألمها، والجنة ثوابا لمؤمنهم الذي تبدل خلقه ليذوق نعيمها، على أن الله قادر على أن يعذب النار بنار أشد منها إذا فرض بقاؤهم على هيئتهم الأولى، وبعد أن بين الله من أول السورة إلى هنا ثلاث عشرة حقيقة على لسان الجن شرع جل شرعه بيان الحقائق التي يجب أن يحاط بها علما وهي سبع من هذه الآية لآخر السورة، وقد قسم فيها العباد على ثلاثة: مسلم ومؤمن وقاسط، تدبر. قال تعالى «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ» المستقيمة ملّة الإسلام وأن هنا مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وضمير استقاموا يعود إلى الإنس والجن معا، وقرأ الأعمش بضم واو لو، أي والحال والشان لو استقاموا «لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» ١٦ كثيرا فوسعنا عليهم أرزاقهم التي أصلها من الماء قال تعالى:
(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية ٣٠ من سورة الأنبياء في ج ٢، وقال بعض المفسرين إن هذه الآية خوطب بها أهل مكة على طريق الالتفات بعد أن أتم الخبر عن الجن أي لو استقام أهل مكة على الطريقة السمحة المعروفة طريق الحق والإيمان والهدى والرشد لأكثرنا عليهم الماء الذي هو أصل معاشهم وفي كثرته تكثير

الخيرات التي هي أصل سعة الرزق، والأول أولى نظرا للسّياق والسّباق «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» أي الماء المسبب عنه كثرة الرّزق فنختبرهم به أيشكرون أم يبقون على كفرهم.
والذي خصّ هذه الآية بأهل مكة أراد أنها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الآية ٩٦ من آل عمران المارة وهو وجيه لو لم يكن فيه الالتفات وتغيير نسق العطف دون حاجة فضلا عن استقامة المعنى بالنسبة لما قبل الآية وبعدها واتباع الظاهر أظهر، قال تعالى «وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ» الذي ذكر به عباده من آيات وعبر ولم يوحده حسبما أمر وعكف على إشراك غيره معه وأصر ومات على ذلك وانقبر «يَسْلُكْهُ» يدخله «عَذاباً صَعَداً» ١٧ شاقا يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، راجع تفسير الآية ١٧ من سورة المزمل المارة، وهنا يتبادر لي أن التفسير من قوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) إلى هنا على طريق الالتفات الذي ذكر آنفا أولى، لأن إعادة الضمير من هناك إلى هنا إلى الجن مطلقا أو إلى القاسطين منهم على رأي البعض أو لمن ثبت منهم ومن الإنس على الكفر على قول الآخر أولى لأن الجن لا ينتفعون بالماء انتفاع الإنس، ولأن استعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وجعل النعمة استدراجا من غير قرينة على الاستدراج مخالف لظاهر القرآن، فضلا عن أن الطريقة جاءت معرفة فانصرافها إلى الطريقة المثلى وهي ملة الإسلام طريقة الهدى والرشد أولى من صرفها إلى طريقة الضلال والكفر على غير ظاهرها من غير دليل، لهذا لم أره موفقا لمخالفة نسق التنزيل. وبما أن هذه الآية معطوفة على قوله تعالى (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) أي أوحي إلي أنه استمع وأوحي إلي (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس لذلك فإن إعادة الضمير إلى الجن فقط بغير محله، كما أن حصره بالإنس فقط غير موافق، فيكون الأحسن والأجمع للقولين عوده للجن والإنس معا تبعا لبعض المفسرين العظام، فيكون إسقاء الماء للإنس بطريق التغليب على الجن والاستقامة للإنس والجن معا ومثله كثير ووجيه اتباعه والأخذ به والله أعلم.

قال تعالى «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» عطف أيضا على أنه استمع، أي وأوحي إليه ﷺ أن البيوت المبنية للعبادة هي خاصة له تعالى لا علاقة باختصاص أحد فيها غيره، ولا يختص بها لأجل التعبّد واحد دون آخر، فيستوي فيها الكبير والصغير والعظيم والحقير والمالك والمملوك والغني والصعلوك، وهذا لا يمنع تسمية الجامع باسم بانيه لما فيه من هضم حقه وتقليل الرغبة لغيره لأن معنى لله هو ما ذكرناه من تساوي الناس فيه ليس إلا، ويدخل في هذا المعنى كنائس النصارى وكنيس اليهود والبيع والخلوات العامة، أما المحلات التي يتخذها غير أهل الكتب السماوية لعبادتهم المزعومة فلا تدخل فيها لأنها لم تنشأ لعبادة الله وإذا علمتم أيها الناس أن هذه المساجد خاصة لله «فَلا تَدْعُوا» فيها ولا خارجها بأن تنادوا أو تعبدوا «مَعَ اللَّهِ أَحَداً» ١٨ في الدعاء وغيره فتشركون وتدخلون في معنى الآية ١٧ المارة، قال سعيد بن جبير:
المراد بالمساجد أعضاء الإنسان السبعة، أي الجبهة واليدين والرجلين والركبتين التي يسجد عليها، لأنها مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره. وهذا قول صحيح لكنه لا يصح أن يكون تفسيرا للآية لمخالفة الظاهر دون دليل أو حاجة، وإنا عهدنا على أنفسنا أن لا نحول في تفسيرنا هذا عن ظاهر القرآن ما وجدنا مخرجا البتة، وهذه الأعضاء وإن ورد فيها أحاديث صحيحة لكن لا على أنها تفسير لهذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: أمرنا النبي ﷺ أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكفّ شعرا (كف الشعر عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة) ولا ثوبا (بأن نؤخره عن المسجد إذا وقع عليه) والمراد بالأعضاء السبعة ما ذكرناه آنفا «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معطوف أيضا على أنه استمع «يَدْعُوهُ» بقراءة القرآن في الموقع الذي مر ذكره قبلا. هذا، وما جاء بالخبر من أنه كان يصلي بأصحابه صلاة الصبح عند تفسير الآية ٩ المارة يحمل على صلاة كان يصليها تعبدا وهي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشيّة فرضت عليه خاصة، لأن الصلاة لم تفرض بعد ولأن حادثة الجنّ وقعت قبل الإسراء كما أشرنا آنفا إلا أن يقال إن الإسراء في السنة الخامسة عند نزول سورة والنجم، أو أن الإسراء