آيات من القرآن الكريم

وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
ﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰ ﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝ ﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸ

والعذاب واقع بهم: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ..
[الآيات: ١- ٧].
ثم وصف يوم القيامة وأهواله، والنار وعذابها، وأحوال المجرمين في ذلك اليوم الرهيب: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ.. [الآيات: ٨- ١٨].
وناسب ذلك الحديث الاستطرادي عن طبيعة الإنسان وصفاته التي أوجبت له النار، ومدارها الجزع عند الشدة، والبطر عند النعمة، والبخل والشح عند الحاجة والأزمة وعلاج الفقر: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً.. [الآيات: ١٩- ٢١].
واستثنت من ذلك المؤمنين المصلين الذين يتحلّون بمكارم الأخلاق، فيؤدون حقوق الله وحقوق العباد معا فيستحقون الخلود في الجنان: إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.. [الآيات: ٢٢- ٣٥].
ثم نددت السورة بالكفار، وهددتهم بالفناء والتبديل، وأوعدتهم بما يلاقونه يوم القيامة، ووصفت أحوالهم السيئة في الآخرة وقت البعث والنشور: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ.. [الآيات: ٣٦- ٧٠].
تهديد المشركين بعذاب القيامة وتأكيد وقوعه
[سورة المعارج (٧٠) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨)

صفحة رقم 110

الإعراب:
سَأَلَ سائِلٌ قرئ بالهمز على الأصل، وقرئ بترك الهمزة بإبدال الهمزة ألفا على غير قياس.
كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ خَمْسِينَ: خبر كان، وأَلْفَ: منصوب على التمييز، وجملة كان مع اسمها وخبرها في موضع جر صفة يَوْمَ.
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ.. يَسْئَلُ وحَمِيمٌ: فعل وفاعل، وحَمِيماً: مفعول به، وقرئ يَسْئَلُ بالضم: فعل مبني للمجهول، تقديره: ولا يسأل حميم عن حميمه. ويُبَصَّرُونَهُمْ: أي يبصر الحميم حميمه، وأراد بالحميم الجمع، والضمير المرفوع في يُبَصَّرُونَهُمْ يعود على المؤمنين، والهاء والميم تعود على الكافرين. والمعنى: يبصّر المؤمنون الكافرين يوم القيامة، أي ينظرون إليهم في النار.
إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى لَظى بالرفع: خبر «إن»، ونَزَّاعَةً: خبر ثان، أو لَظى: خبر «إن»، ونَزَّاعَةً: بدل من لَظى، أو أن هاء إِنَّها ضمير القصة، ولَظى: مبتدأ، ونَزَّاعَةً: خبره، والجملة: خبر «إن». ويصح كون لَظى بالنصب بدلا من هاء إِنَّها، ونَزَّاعَةً بالرفع خبر «إن». ونصب نَزَّاعَةً على الحال المؤكدة، والعامل فيها معنى الجملة، مثل وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة ٢/ ٩١]، وتَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ: خبر ثالث، أو مستأنف.
البلاغة:
بَعِيداً وقَرِيباً بينهما طباق.
سَأَلَ سائِلٌ جناس اشتقاق، وكذا بين الْمَعارِجِ وتَعْرُجُ.
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ أي جبريل: عطف خاص على عام تنبيها على شرفه وفضله.
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ تشبيه مرسل مجمل، لحذف وجه الشبه.

صفحة رقم 111

لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ.. عموم بعد خصوص لبيان هول الموقف.
إِنَّها لَظى، نَزَّاعَةً لِلشَّوى، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى إلخ سجع مرصع.
المفردات اللغوية:
سَأَلَ سائِلٌ دعا داع به، بمعنى استدعاه، ولذلك عدي بالباء، أي يكون السؤال أحيانا بمعنى طلب الشيء واستدعائه، ويعدّى حينئذ بالباء، تقول: سألت بكذا، أي طلبته. والأصل في السؤال أن يكون بمعنى الاستخبار عن الشيء، ويعدّى حينئذ بعن أو بالباء، تقول: سألت عنه وسألت به وبحاله. والسائل استهزاء وتعنتا: النضر بن الحارث، فإنه قال: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣١] أو أبو جهل، فإنه قال: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء ٢٦/ ١٨٧] أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، استعجل بعذابهم.
لِلْكافِرينَ صفة أخرى لعذاب، أو صلة متعلقة ب واقِعٍ. لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مانع وواق، أي إنه واقع لا محالة. مِنَ اللَّهِ متصل بواقع. ذِي الْمَعارِجِ ذي المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلام الطيب والعمل الصالح، أو مراتب الملائكة أو السموات، والظاهر:
ذي السموات، وقيل: ذي النعم والفضائل التي تكون درجات متفاضلة. تَعْرُجُ تصعد.
وَالرُّوحُ جبريل عليه السلام. إِلَيْهِ إلى مهبط أمره من السماء. فِي يَوْمٍ متعلق بقوله: تَعْرُجُ. كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ هذا لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها، بطريق التمثيل والتخييل، والمعنى: إنها بحيث لو قدر قطعها في زمان، لكان في زمان يقدر بخمسين ألف سنة من سني الدنيا. وهذا في الآخرة بالنسبة للكافر، لما يرى فيه من الشدائد، وأما المؤمن فيكون عليه أخف من صلاة مكتوبة، كما جاء في الحديث النبوي الآتي بيانه.
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي لا استعجال ولا جزع فيه، ولا اضطراب قلب، والكلام متعلق ب سَأَلَ لأن السؤال كان استهزاء أو تعنتا، وذلك مما يضجره، والمعنى: قرب وقوع العذاب، فاصبر، فقد اقترب موعد الانتقام. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يرون العذاب أو يوم القيامة. بَعِيداً من الإمكان، غير واقع. وَنَراهُ قَرِيباً قريبا من الوقوع. يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ ظرف لكلمة قَرِيباً أو متعلق بمحذوف تقديره: يقع. كَالْمُهْلِ هو مائع الزيت، أو دردي الزيت (ما يكون في قعر الإناء) أو هو مائع الفلزات (المعادن) المذابة، كذائب الفضة. كَالْعِهْنِ كالصوف المنفوش أو المندوف، أو كالصوف المصبوغ ألوانا. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قريب قريبه، لاشتغال كل واحد بحاله، فالحميم: القريب. يُبَصَّرُونَهُمْ أي ينظر المؤمنون إلى الكافرين في النار. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يتمنى الكافر أو المذنب. لَوْ يَفْتَدِي اى يفتدي. وَصاحِبَتِهِ

صفحة رقم 112

زوجته. وَفَصِيلَتِهِ عشيرته، لفصله منها. تُؤْوِيهِ تضمه ويأوي إليها. وهو دليل على اشتغال كل مجرم بنفسه، بحيث يتمنى أو يفتدي بأقرب الناس وأعلمهم بقلبه، فضلا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين أو الخلائق. ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يَفْتَدِي أي ثم لو ينجيه الافتداء، وثم للاستبعاد.
كَلَّا ردع للمجرم، ورد لما يودّه، فهي كلمة تفيد الزجر عما يطلب. إِنَّها لَظى أي إن النار هي النار الملتهبة أو جهنم لأنها تتلظى، أي تتلهب على الكفار. «الشوى» أعضاء الإنسان، أو جلدة الرأس، تنتزعها، ثم تعود إلى ما كانت عليه. تَدْعُوا تجذب وتحضر. مَنْ أَدْبَرَ عن الإيمان والحق. وَتَوَلَّى عن الطاعة. وَجَمَعَ المال. فَأَوْعى جعله في وعاء، وكنزه حرصا وتأميلا، ولم يؤدّ حق الله فيه.
سبب النزول: نزول الآيتين (١، ٢) :
أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ قال: هو النضر بن الحارث، قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدي في قوله: سَأَلَ سائِلٌ قال: نزلت بمكة في النضر بن الحارث، وقد قال:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ.. الآية. وكان عذابه يوم بدر.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: نزلت سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ فقال الناس: على من يقع العذاب؟ فأنزل الله: لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ.
التفسير والبيان:
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ، لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ أي دعا داع وطالب بعذاب واقع بلا شك، يقع في الآخرة كائن للكافرين نازل بهم لا يمنع ذلك العذاب الواقع أحد إذا أراده الله. والسؤال للاستهزاء والتعنت. والسائل: هو

صفحة رقم 113

النضر بن الحارث بن كلدة أو غيره حين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ أي واقع من جهة الله سبحانه ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة قال ابن عباس: ذِي الْمَعارِجِ: أي ذي السموات وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها. وقال قتادة: ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.
والمراد: أن العذاب الذي طالب به الكفار واستعجلوه واقع بلا شك.
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي تصعد إلى الله عزّ وجلّ في تلك المعارج الملائكة وجبريل عليهم السلام في مدة يوم يقدّر بخمسين ألف سنة من سنوات الدنيا لو أراد البشر الصعود إليها ولكن الملائكة الروحانيين تصعد إليها في زمن قليل. وليس المراد من الخمسين التحديد بعدد معين بل المقصود الكثرة المطلقة وأن صعود الملائكة في مكان بعيد المدى.
وقوله: إِلَيْهِ إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العزّ والكرامة وقوله: فِي يَوْمٍ في رأي الأكثرين متعلق بقوله:
تَعْرُجُ أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم بقصد وصف اليوم بالطول مطلقا.
والمراد باليوم في رأي آخر وهو قول ابن عباس والحسن البصري: هو يوم القيامة تهويلا وتخويفا للكفار والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. وسبب الربط بين سؤال العذاب وبين عروج الملائكة: المقارنة بين اليوم

صفحة رقم 114

في نظرهم وبين اليوم عند الله فهم يرون الدنيا طويلة الأمد وأما عند الله فالدنيا قصيرة إذا قيست باليوم عند الله.
والجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [٥] أن القيامة مواقف ومواطن فيها خمسون موطنا كل موطن ألف سنة.
وهذا إنما يكون في حق الكافر أما في حق المؤمن فلا لقوله تعالى:
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٢٤] واتفقوا على أن ذلك المقيل والمستقر هو الجنة ولما
أخرجه الإمام أحمد وابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم:
«والذي نفسي بيده إنه ليخفّف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أي لا تأبه يا محمد بسؤالهم العذاب استهزاء وتعنّتا وتكذيبا بالوحي ولا تضجر واحلم على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به واستعجالهم العذاب استبعادا لوقوعه واصبر صبرا جميلا: لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله وهذا معنى الصبر الجميل.
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً أي إنهم يرون وقوع العذاب بعيدا وقيام الساعة في اعتقاد الكفرة مستحيل الوقوع ويرون أيضا يوم القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنة مستبعدا محالا ونحن نعلمه كائنا قريبا ممكنا غير متعذر لأن كل ما هو آت قريب.
ثم ذكر الله تعالى بعض أوصاف ومظاهر ذلك اليوم فقال:
يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي إن يوم القيامة ذلك اليوم الذي تصير السماء فيه كعكر (درديّ)

صفحة رقم 115

الزيت أو المذاب من النحاس والرصاص والفضة أي تكون السماء واهية غير متماسكة الأجزاء مبددة وتكون الجبال كالصوف المنفوش إذا طيّرته الريح ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله في ذلك اليوم وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره لما يرى من شدة الأهوال.
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ أي يبصر كل حميم حميمه ويراه ويعرّف عليه لا يخفى منهم أحد عن أحد دون أن يكلم بعضهم بعضا ويتمنى الكافر وكل مذنب ذنبا يستحق به النار أن يفتدي نفسه من عذاب يوم القيامة الذي نزل به بأعز ما يجده من المال أو بأعز الناس وأكرمهم لديه من أولاده وإخوته وزوجته وقبيلته وعشيرته الأقربين الذين ينتمي إليهم في النسب أو يضمونه عند الشدائد ويأوي إليهم وينصرونه بل يود المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعا من الثقلين وغيرهما من الخلائق ولا يقبل منه الفداء ولا ينجيه الافتداء من عذاب جهنم ولو جاء بأهل الأرض.
ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لقمان ٣١/ ٣٣] وقوله تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر ٣٥/ ١٨] وقوله سبحانه: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠١] وقوله عزّ وجلّ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس ٨٠/ ٣٤- ٣٧]. والخلاصة: أنه تعالى ذكر أربع صفات ليوم القيامة: تكون السماء فيه كالمهل وتكون الجبال فيه كالعهن ولا يسأل حميم حميما ويود المجرم الكافر الافتداء من عذاب ذلك اليوم بأعز الناس لديه وجميع من في الأرض.

صفحة رقم 116

ثم أكّد تعالى رفض قبول الفداء منه واستبعاده قائلا:
كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى أي لا يقبل الفداء من المجرم ولو افتدى بأهل الأرض وبمال الدنيا جميعا إنها جهنم الشديدة الحر مأواه كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل ٩٢/ ١٤] والتي تنزع اللحم عن العظم حتى لا تترك فيه شيئا وتنزع جلدة الرأس وجلد أطراف اليدين والرجلين ولحم الساقين ثم يعود كما كان وتنادي جهنم كل من أدبر عن الحق والإيمان في الدنيا وتولى عنه وجمع المال فجعله في وعاء فلم ينفق منه شيئا في سبيل الخير ومنع حق الله فيه من الواجب عليه من النفقات وإخراج الزكاة. قال الحسن البصري: يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا.
وكلمة كَلَّا ردع للمجرم عن تلك الأمنية وبيان امتناع قبول الفداء منه وضمير إِنَّها للنار ولم يجر لها ذكر لأن العذاب دلّ عليها ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة أي إن القصة. والدعاء على حقيقته كما روي عن ابن عباس أو هو مجاز حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين بالدعاء والطلب لهم فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- طلب كفار مكة تعجيل العذاب الموعود به استهزاء وتعنّتا والعذاب من الله صاحب معارج السماء أو معارج الملائكة واقع حتما بالكفار في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد.
٢- تصعد الملائكة وجبريل في المعارج التي جعلها الله لهم إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل برّه وكرامته فليس المراد من قوله إِلَيْهِ المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده وهو موضع العزّ والكرامة. وعروج

صفحة رقم 117

الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وهذا هو الرأي الأصح في تقديري وهو قول الأكثرين كما تقدم وقيل: المراد باليوم هو يوم القيامة الموصوف بأنه بمقدار خمسين ألف سنة تهويلا وتخويفا للكفار. قال ابن عباس: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار.
قال القرطبي عن قول ابن عباس: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله بدليل
حديث أبي سعيد الخدري المتقدم وحديث أبي هريرة فيما رواه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والنسائي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل لم يؤدّ زكاة ماله إلا جعل شجاعا «١» من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس»
فهذا يدل على أنه يوم القيامة «٢».
وهذا كما تقدم بالنسبة للكافر وأما بالنسبة للمؤمن فيكون يوم الحساب في القيامة بمقدار ما بين الصلاتين كما ثبت في الحديث الصحيح.
٣- أمر الله نبيّه بالصبر الجميل على أذى قومه الذين يرون العذاب بالنار بعيدا أي غير كائن وهو في تقدير الله قريب الحصول لأن ما هو آت فهو قريب. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله.
٤- ذكرت الآيات أوصافا أربعة: هي صيرورة السماء كدرديّ الزيت وعكره أو كالمذاب من المعادن من الرصاص والنّحاس والفضة وجعل الجبال كالصوف المنفوش أو المصبوغ ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه مع أن الرجل يرى أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم ويتمنى الكافر أن يفتدي من عذاب جهنم بأعزّ من كان عليه

(١) الشجاع: الحية الذكر.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٨٢ وما بعدها.

صفحة رقم 118
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية