
أي: أدبر وخرج عنهم، وقال: ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبِّي﴾، فلم تؤمنوا بها، ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾، فلم تقبلوا، ﴿فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين﴾، أي: كيف أَحْزَنُ عليهم وقد كفروا بآيات الله.
وقرأ طلحة بن مُصَرِّف، ويحيى بن وَثَّاب، والأعمش: (إِيسى "، بكسر الهمزة، (وهي لغة تميم).
قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ﴾ إلى: ﴿يَشْعُرُونَ﴾.
هذه الآية تحذير لقريش، ومن كفر بالنبي ( ﷺ)، وإعلام من الله

لنبيه ( ﷺ)، سُنَّتَهُ فيمن خَلاَ من الأمم الكافرة.
و ﴿بالبأسآء﴾. البؤس وضيق العيش.
﴿الضرآء﴾، النصر.
﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾، أي: فعل ذلك بهم، ليتضرعوا إلى الله ( تعالى) ويخشعوا، وينيبوا عن الكفر.
قال السدي، ﴿بالبأسآء والضرآء﴾: الفقر والجوع.
وقال ابن مسعود: ﴿بالبأسآء﴾، الفقر، و ﴿والضرآء﴾، المرض.
وقيل: ﴿بالبأسآء﴾، المصائب في المال، و ﴿والضرآء﴾، المصائب في البدن.

وقوله: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة [حتى عَفَوْاْ]﴾.
سمي [الضرر والفقر سيئة، لأنه يسوء صاحبه.
و ﴿الحسنة﴾: الرخاء والصحة. سمي] ذلك حسنة، لأنها تحسن عند من حلت به، فبدل الله ( تعالى) لهم مكان الضرر والفقر، الرخاء والصحة، ﴿حتى عَفَوْاْ﴾ أي: تضاعف أعدادهم بالتناسل، وهو من الأضداد، يقال: " عفا ": كثر، و " عفا ": درس.
ومن الكثرة قوله عليه السلام: " أَخْفُوا الشَّوَارِبَ واعْفُوا اللِّحَى "، أي: وفروا [اللحى] حتى يكثر شعرها.

فمعنى ﴿عَفَوْاْ﴾ على هذا، أي: كثروا.
قال ابن زيد: معناه، بدلنا مكان ما كَرِهُوا ما أحَبُّوا.
وعن مجاهد: ﴿عَفَوْاْ﴾، كثرت أموالهم وأولادهم.
وقال قتادة: ﴿عَفَوْاْ﴾، سُرُّوا.
أي: سُرُّوا بكثرتهم، وذلك استدراج منه لهم؛ لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا فلم يفعلوا. ثم أخذهم بالرخاء لعلهم يشكرون، استدراجاً لهم، ف: ﴿وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء﴾، وهو الضيق في المعاش، ﴿والسرآء﴾: السرور والسعة، فنحن

مثلهم، يصيبنا مثل ما أصابهم، ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾، أي: أخذناهم بالهلاك فجأة على غرة، ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، أي: لا يدرون بذلك.
وقد كرر الله، تعالى، قصص الأنبياء وأممها، في سور كثيرة بألفاظ مختلفة، ومعان متقاربة. ونحن نذكر علة تكرار ذلك في القرآن، بما حضرنا من أقوال العلماء، إن شاء الله.

ذكر العلة
في تكرار الأنبياء والقصص
في القرآن
علة ذلك أن القرآن نزل شيئاً بعد شيء نُجُوماً، في ثلاث وعشرين سنة، فكانت العرب ترد على النبي ﷺ، / من كل أُفُق فيقرئهم المسلمون السورة من القرآن، فيذهبون بها إلى قومهم.
وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة، بالسور المختلفة، فيبلغ إلى هؤلاء من القصص ما لم يبلغ إلى هؤلاء، فثنى الله القصص وكررها ليكون يبلغ إلى هؤلاء ما يبلغ إلى

هؤلاء إشهاراً منه لهذه القصص ليتعظ بها من بلغته، ويعلم أنها دلالة على نبوة من أتى بها، ويعيها كل قلب، ويزداد الحاضرون السامعون لتكرارها تَفَهُّماً.
ولو نزل القرآن جملة واحدة لسبق حدوث الأسباب التي أنزله الله ( تعالى) بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول في الدين ولفسد معنى النَّسْخ، فإنما نزل فَرْضاً بَعْدَ فَرْضٍ، تدريجياً للعباد وتيسيراً عليهم إلى أن يكمل دين الله ( تعالى).
كل ذلك تثبيتاً لهم على الإسلام، قال الله: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢]، وهذا جوابهم إذا قالوا: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢]، فإنما نزل متفرقاً ليثبتهم على الإسلام، إذ لو نزلت الفرائض مرة واحدة، لكان ذلك داعية إلى النقار

والصعوبة عليهم.
فإن قيل: هلا كررت الفرائض كما كررت القصص؟
قيل: إن الفرائض كان رسول الله ( ﷺ) يبعث بها إلى كل قوم ليعلمهم بها فرض الله عليهم، من الصلاة والزكاة، فكل المؤمنين يصل إليه ذلك ببعث رسول الله (عليه السلام) إذ ذلك وجب عليه، وهو من تمام التبليغ.
والقصص ليست كذلك، إنما نزلت على طريق الاعتبار، فليس يقتص بها كل من آمن، فكررت لتشتهر عند المؤمنين.
فإن قيل: فلم كرر ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣، ٧٧]، و: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي

وَنُذُرِ} [القمر: ١٦، ١٨، ٢١، ٣٠]، و ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾ [الكافرون: ١] وشبهه؟
فالجواب أن مذهب العرب: التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذابهم: الاختصار للتخفيف، فيقولون: " عجل عجل "، و " الزم الزم "، فكررون للتأكيد، ويقولون: " الهلال والله ". [أي: هذا الهلال]، فيختصرون للتخفيف.
وربما استوحشوا من الإعادة فغيروا اللفظة الثانية فيقولون: (هو) " عَطْشان نَطْشان " "، و " حَسَنٌ بَسَنٌ "، و " شَيْطَان [لَيْطان] "، أبدلوا الثاني وغيروه لئلا يعيدوه بلفظه إذ لم يكن (لهم) بد من التأكيد.

وأما التكرير في ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾، فإن المشركين قالوا للنبي ( ﷺ) : اعبد بعض آلهتنا، ونؤمن بإلهك، فأنزل الله ( تعالى) :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٢ - ٣] ثم أقاما مرة وقولوا (له): اعبد آلهتنا وقتاً من الزمان، ونعبد إلهك مثله، فأنزل الله ( تعالى) :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٤ - ٥].
ومن العلة في التكرار ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾، أن الله تبارك وتعالى، عَدَّدَ في " الرحمن " ألاءه ونعمه، ونبههم على ما أعد للمؤمنين من نعمة، فأتبع كل نعمة ذكرها الاستفهام بمعنى: التوبيخ، والسؤال لهم بأي نعمة يكذبون، لتكون فاصلة بين [كل نعمة] ذكرها وبين ما بعدها من نعمة أخرى، ليفهموا كل نعمة على

انفصالها. وهذا كقول العرب للرجل: ألم أطعمك وأنت جائع؟ أفتنكر هذا؟ [ألم أكسك وأنت عريان؟ أفتنكر هذا؟، ألم أغنك وأنت فقير؟ أفتنكر هذا؟] وشبهه.
ومثل: هذا تكراره: ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: ١٥، ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠، ٥١] في سورة: " اقترتب "؛ لأنه يذكر/ لهم آياته، وَعِبَر ما يعتبرون به، ثم نبههم على الاعتبار والادكار بذلك، فإذا ذكر آية وعِبَراً نبههم على الاعتبار بها، وكرر ذلك عليهم، ليكون أَفْهَم لهم.
وقد يأتي تكرار المعنى بلفظين مختلفين، وذلك للاتساع في المعنى واللفظ، نحو قولك: " آمرك بالوفاء، وأنهاك عن الغدر "، والأمر بالوفاء هو النهي عن الغدر.
ومثله: " آمرك بالتواصل، وأنهاك عن التقاطع ".
وكقوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨]، والنخل والرمان من الفاكهة، فَأُفْرِدَا عن

الجملة، لفضلهما.
ومثله قوله: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾ [البقرة: ٢٣٨]، وهي منها، فأفردها بالذكر ترغيباً فيها، كما تقول العرب: " إيتني كل يوم (ويوم) الجمعة.
ومنه قوله: ﴿لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم﴾ [الزخرف: ٨٠]، والنجوى هو السر.
وقد يكون " السر ": ما أسروا في أنفسهم، و " النجوى ": ما تَسَارَوُا به سِرّاً، وهذا كما قال ذو الرُّمة:
لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لعَسُ | وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَب |