
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٥ الى ٩٣]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
وقوله سبحانه: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها... الآية: قيل في مَدْيَنَ إِنه اسم بلد وقُطْرٍ، وقيل: اسم قبيلةٍ، وقيل: هم مِنْ ولد مَدْيَنَ بْنِ إِبراهيمَ الخليلِ، وهذا بعيدٌ، ورُوِي أَنَّ لوطاً هو جَدُّ شعيبٍ لأُمِّه.
وقال مكِّيّ: كان زوج بنت لوط، وأَخاهُمْ: منصوبٌ ب «أرسلنا» في أول القصص، و «البيِّنة» : إشارة إِلى معجزته، وَلا تَبْخَسُوا معناه ولا تظلموا ومنْه قولهم:
تَحْسَبُهَا حَمْقَاءَ، وَهِيَ بَاخِسٌ، أي: ظالمة خادعة، وقال في «سورة هود» : البَخْس:
النَّقْصَ.
ت: ويحتمل واللَّه أعلم أنَّ البَخْسَ هو ما اعتاده النَّاسُ من ذَمِّ السِّلَع ليتوصَّلوا بذلك إلى رُخَصها، فتأمَّله، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه.
قال أبو حَيانَ: ولا تَبْخَسُوا: متعدٍّ إلى مفعولين، تقول: بَخَسْتُ زَيْداً حَقَّهُ، أي:
نقصته إياه. انتهى.
وأَشْياءَهُمْ: يريد أمتعتهم وأموالهم، وَلا تُفْسِدُوا: لفظٌ عامٌّ في دقيق الفساد وجليله وكذلك الإصلاح عامٌّ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، أيْ: عند اللَّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، صفحة رقم 54

أي: بشرط الإِيمان والتوحيد، وإِلا فلا ينفع عَمَلٌ دون إِيمانٍ، وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ... الآية: قال السديُّ: هذا نهيٌ عن العَشَّارين والمتغلِّبين ونحوه مِنْ أخْذ أموال الناس بالباطِل «١»، و «الصِّرَاطُ» : الطريقُ، وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل بَخْسهم ونَقْصهم الكيلَ والوزْنَ، وقال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: هو نهْيٌ عن السَّلْبِ وقطْع الطرقِ «٢»، وكان ذلك مِنْ فعلهم، وروي في ذلك حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما تقدَّم من الآية يؤيِّد هذين القولَيْنِ، وقال ابنْ عَبَّاس وغيره: قوله: وَلا تَقْعُدُوا نهيٌّ لهم عمَّا كانوا يفعلونه مِنْ رَدِّ الناس عَنْ شُعَيْب «٣» وذلك أنهم كانوا يَقْعُدونَ على الطُّرُقات المفضية إلى شُعَيبٍ، فيتوعَّدون مَنْ أَراد المجيءَ إِلْيه، ويصُدُّونه، وما بعد هذا مِنَ الألفاظ يشبه هذا مِنَ القول، والضميرُ في «به» يحتمل أن يعود على اسم اللَّه، وأنْ يعود على شُعَيْب في قول مَنْ رأى القعودَ على الطُّرُق للرَّدِّ عن شعيب، قال الداوديّ: وعن مجاهد تَبْغُونَها عِوَجاً:
يلتمسون «٤» لها الزيْغَ. انتهى.
ثم عدَّد عليهم نِعَمَ اللَّه تعالَى، وأنه كَثَّرهم بعد قلَّةِ عددٍ.
وقيل: أغناهم بعد فَقْر، ثم حذرهم ومثَّل لهم بمن امتحن من الأممِ، وقوله: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا... الاية: قوله:
فَاصْبِرُوا تهديدٌ للطائفة الكافرة، وقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا معناه: أو لتَصِيرُنّ، و «عَادَ» في كلام العرب على/ وجهين:
أحدُهُمَا: عَادَ الشَّيْءُ إِلى حالٍ قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذا الوجه لا تتعدى، فإِن عُدِّيَتْ، فبحرف ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أَلاَ لَيْتَ أَيَّامَ الشَّبَابَ جَدِيدُ | وعمرا تولّى يا بثين يعود «٥» |
(٢) أخرجه الطبري (٥/ ٥٤٤) برقم: (١٤٨٦١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٢٦).
(٣) أخرجه الطبري (٥/ ٥٤٤) برقم: (١٤٨٥٦) بنحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٤٢٧)، وابن كثير (٢/ ٢٣١) والسيوطي (٣/ ١٩٠)، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. [.....]
(٤) أخرجه الطبري (٥/ ٥٤٥) برقم: (١٤٨٦٢).
(٥) روي البيت هكذا:
ألا ليت أيّام الصّفاء جديد | وعهدا تولّى يا بثين يعود |

ومنْه قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: ٢٨].
والوجه الثاني: أنْ تكون بمعنى «صَارَ»، وعاملةً عملَهَا، ولا تتضمَّن أن الحال قد كانَتْ متقدِّمة ومنه قول الشاعر: [البسيط]
تِلْكَ المَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ... شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالاَ «١»
ومنه قول الآخر:
وَعَادَ رَأْسِي كالثَّغامَةِ... «٢»
ومنه قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: ٣٩]، عَلى أن هذه محتملةٌ بقوله في الآية: أَوْ لَتَعُودُنَّ، وشعيبٌ عليه السلام لَمْ يَكُ قطُّ كافراً، فيقتضي أنها بمعنى «صار»، وأما في جهة المؤمنين به بَعْدَ كُفْرهم، فيترتَّب المعنى الآخر، ويخُرُج عنه شعيبٌ، وقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ توقيفٌ منه لهم على شِنْعَة المعصيةِ، وطَلَبٌ أن يقروا بألسنتهم بإِكراهِ المُؤْمنين على الإِخراج ظُلْماً وغشماً.
قال ص: قَدِ افْتَرَيْنا: هو بمعنى المستقبل لأنه سَدَّ مسد جواب الشرط، وهو: إِنْ عُدْنا أو هو جوابه، على قول. انتهى.
وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يحتملُ أن يريد إلاَّ أنْ يسبق علينا في ذلك مِنَ اللَّه سابقُ سُوء، وينفذ منه قضاءٌ لا يُرَدُّ.
قال ع «٣» : والمُؤمنون هم المجوزون لذلك، وأما شُعَيْبٌ، فقد عصمته النبوَّة، وهذا أظهر ممَّا يحتملُ القول، ويحتمل أنْ يريد استثناء ما يمكن أن يتعبَّد اللَّهُ به المؤمنين ممَّا يفعله الكُفَّارُ من القربات.
(٥٠٥)، و «مجالس ثعلب» ص: (٥٩٧، ٥٩٨).
(١) روي البيت هكذا:
هذي المفاخر لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بعد أبوالا هو لأبي الصلت الثقفي والد أميّة في «الشعر والشعراء» ص: (٤٦٩)، و «العقد الفريد» (٢/ ٢٣) ولأميّة بن أبي الصلت في «ديوانه» ص: (٥٢)، وللنابغة الجعدي في «ديوانه» ص: (١١٢)، وللثقفي في «شرح المفصّل» (٨/ ١٠٤).
(٢) وهو من شواهد «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٢٩). ويروى في «اللسان» :[ثغم] برواية: وصار رأس الشيخ كثغامة وعليه يكون من بحر الرجز، وفي «القاموس» : والرأس صار كالثغامة بياضا.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٢٨).

وقيل: إِنَّ هذا الاستثناء إِنما هو تَسَنُّنٌ وَتَأَدُّبٌ، وقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً:
معناه: وَسِعَ عِلْمُ رَبنا كلَّ شيء كما تقول: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً أَيْ: تصبَّب عَرَقُ زيدٍ، وَوَسِعَ بمعنى «أحاط»، وقوله: افْتَحْ معناه: احكم، وقوله: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا:
استسلام للَّه سبحانه، وتمسُّكٌ بلطفه وذلك يؤيِّد التأويل الأول في قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا. وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً...
الآية: أي: قال الملأ لتباعهم ومقلّديهم، والرَّجْفَةُ: الزلزلةُ الشديدةُ التي يَنَالُ الإِنسانَ معها اهتزاز وارتعاد واضطراب، فيحتملُ أنَّ فرقةً من قومٍ شُعَيْب هلكَتْ بالرجفة، وفرقةً بالظُّلَّة، ويحتمل أن الظُّلَّة والرَّجْفَة كانتا في حِينٍ واحدٍ.
ت: والرجفةُ هي الصَّيْحة يَرْجُفُ بسببها الفؤاد وكذلك هو مصرَّح بها في قصَّة قوم شُعَيْب في قوله سبحانه: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ... الآية [هود: ٩٤]، وقوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الضميرْ في قوله «فيها» عائدٌ على دارِهِمْ، وَيَغْنُوا:
معناه: يقيمونَ بنَعْمَة وخَفْضِ عيش، وهذا اللفظ فيه قوَّةُ الإِخبار عن هلاكهم، ونزولِ النقمةِ بهم، والتنبيه عَلَى العبرة والاتعاظ بهم، ونحوُ هذا قولُ الشاعر: [الطويل]
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا | أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ «١» |
واستشهد بقوله: «كأن لم يكن» حيث خفّف «كأن» فحذف اسمها، وأتى بخبرها جملة فعليّة. وذكر ياقوت في «معجم البلدان» (٢/ ٢٦٠) (الحجون)، ونسبه إلى مضّاض بن عمرو الجرهمي يتشوّق مكة لما أجلتهم عنها خزاعة:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا | أنيس، ولم يسمر بمكة سامر |
بلى! نحن كنا أهلها، فأبادنا | صروف الليالي والجدود العواثر |
فأخرجنا منها المليك بقدرة، | كذلك، يا للناس، تجري المقادر |
فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة، | كذلك عضّتنا السنون الغوابر |
وبدّلنا كعب بها دار غربة، | بها الذئب يعوي والعدوّ المكاشر |
فسحّت دموع العين تجري لبلدة، | بها حرم أمن وفيها المشاعر |
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٣٠).