آيات من القرآن الكريم

فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ

قصة هود عليه السلام
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
الإعراب:
أَخاهُمْ عطف على: نُوحاً، وهُوداً عطف بيان له.
آلاءَ اللَّهِ نعماؤه، واحدها: إليّ، وألىّ، وإليّ. وهي بمنزلة آناء الليل وهي ساعاته.
وآلاءَ: مفعول به منصوب.

صفحة رقم 258

وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على: كَذَّبُوا. وعادٍ: من لم يصرفه جعله اسما للقبيلة، ومن صرفه جعله اسما للحي.
البلاغة:
قَطَعْنا دابِرَ كناية عن استئصالهم وإهلاكهم جميعا.
المفردات اللغوية:
وَإِلى عادٍ وأرسلنا إلى عاد الأولى أَخاهُمْ أي واحدا من جنسهم أو منهم، كقولك:
يا أخا العرب للواحد من إخوة الجنس، وإنما جعل واحدا منهم لأنهم أفهم عن رجل منهم، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهي أخوة في النسب لا في الدين.
قالَ لم يقل: فقال كما في قصة نوح لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال: يا قوم اعبدوا الله. وكذلك: قالَ الْمَلَأُ أي أشراف القوم. ووصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به سرا مثل مرثد بن سعد الذي أسلم وكان يكتم إسلامه، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، فأريدت التفرقة بالوصف.
سَفاهَةٍ خفة حلم وسخافة عقل ناصِحٌ أَمِينٌ أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أتهم، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم، لا أكذب فيه.
خُلَفاءَ أي خلفتموهم في الأرض، أو جعلكم ملوكا في الأرض، قد استخلفكم فيها بعدهم فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي زاد أجسامكم في الطول والقوة والبدانة قيل: كان طويلهم مائة ذراع وقصيرهم ستين. آلاءَ اللَّهِ نعمه في استخلافكم وبسطة أجسادكم، وما سواهما من عطاياه، وواحد الآلاء: أليّ تُفْلِحُونَ تفوزون. وَنَذَرَ نترك بِما تَعِدُنا به من العذاب قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ حق عليكم ووجب أو قد نزل عليكم. رِجْسٌ عذاب وَغَضَبٌ سخط وانتقام أَتُجادِلُونَنِي المجادلة: المماراة والمخاصمة فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أي سميتم بها أصناما تعبدونها. أي في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الألوهية فيها معدوم محال وجوده.
سُلْطانٍ حجة وبرهان فَانْتَظِرُوا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ذلكم بتكذيبكم لي، فأرسلت عليهم الريح العقيم.
فَأَنْجَيْناهُ أي هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين وَقَطَعْنا دابِرَ الدابر: الآخر، أي

صفحة رقم 259

أهلكناهم جميعا بعذاب الاستئصال، أو استأصلناهم. فمعنى قطع دابر القوم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم.
المناسبة وتاريخ القصة:
قبيلة عاد قوم هود من أقدم الأمم وجودا وآثارا في الأرض، وهم على ما يظهر أقدم من إبراهيم، لذا ناسب ذكرها بعد قصة نوح مع قومه، بدليل قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فأصبح الناس على علم بواقعة قوم نوح العظيمة وهي الطوفان العظيم، لذا كان قول هود لقومه عاد:
أَفَلا تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا.
أخرج ابن إسحاق عن الكلبي قال: إن عادا كانوا أصحاب أوثان يعبدونها، اتخذوها على مثال ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فاتخذوا صنما يقال له «صمود» وآخر يقال له: «الهتار»، فبعث الله إليهم هودا وكان من قبيلة يقال لها «الخلود»، وكان من أوسطهم نسبا وأصبحهم وجها، فدعاهم إلى عبادة الله وأمرهم أن يوحّدوه، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا ذلك وكذبوه وقالوا:
مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت ٤١/ ١٥] ؟ كما جاء في تفسير المنار.
وكانت منازلهم أي مساكنهم باليمن بالأحقاف: وهي جبال الرمل، فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله تعالى.
فعاد: قبيلة عربية، كانت باليمين بالأحقاف شمال حضرموت، وكانوا قد تبسطوا في الدنيا ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام يعبدونها: صداء وصمود والهتار. وهم عاد الأولى، وأما عاد الثانية فهم سكان اليمن من قحطان وسبأ. ولم تذكر عاد فيما سوى القرآن الكريم من الكتب المقدسة.
فبعث الله إليهم هودا نبيا، وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن

صفحة رقم 260

نوح. وكان من أوسطهم وأفضلهم حسبا، فكذبوه، وازدادوا عتوا وتجبرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاء، طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرم، مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر.
فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا، منهم: قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان (قينتان كانتا لمعاوية) فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له، أهمّه ذلك، وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحيي أن يكلمهم، خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، فقال معاوية:

ألا يا قيل، ويحك قم فهينم لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا قد امسوا ما يبينون الكلاما
فلما غنّتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون «١» من البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم، واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله سقيتم، وأظهر إسلامه.
فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا، لا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم.
(١) غوّث الرجل تغويثا: قال: وا غوثاه.

صفحة رقم 261

فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء، فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم، فأهلكتهم، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا «١».
وذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات، في سورة الأعراف في الآية ٦٥، وفي سورة هود في الآيات: ٥٠، ٥٣، ٥٨، ٦٠، ٨٩، وفي سورة الشعراء في الآية ١٢٤.
وظل هود عليه السلام ينذر قومه ويحذرهم بأس الله، ويذكرهم بقوم نوح وبنعم الله تعالى عليهم: طول القامة وقوة البدن، والإقامة في أرض كثيرة الخير من الزروع والماشية، ويدعوهم إلى نبذ عبادة الأصنام، ثم توحيد الله تعالى، والتوبة والاستغفار من الشرك في العبادة.
ولكن أغلب القوم كذبوه، ووصفوه بالسفاهة، لتركه ما ورثوه عن الآباء من عبادة الأصنام، وإفراد الله تعالى بالعبادة.
ثم اشتطوا فاتهموه بالجنون والخبال والعته، وأن آلهتهم مستة بسوء، فتبرأ من تلك الآلهة، وتحداهم وسخر من تأثيرها المزعوم، وأعلن أن الله وحده هو المؤثر الآخذ بنواصي كل ما على الأرض من دابة، وأنذرهم أنه إن لم يستمعوا لنصيحته، فإن الله تعالى سيبيدهم ويستخلف قوما غيرهم، وسيحل بهم عذاب قريب: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ.
وعتا قوم هود وتجبروا وعصوا هودا وكذبوه وجحدوا بآيات الله التي أيده الله بها لتصديقه في أنه رسول من ربه. ومع ذلك ظل هود عليه السلام يحذرهم

(١) الكشاف: ١/ ٥٥٤ وما بعدها.

صفحة رقم 262

ويذكرهم بأن نجاتهم بالإيمان بدعوته والعمل بنصائحه، فزادهم ذلك عتوا إلى أن دمرهم الله بالريح العقيم، سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما.
ونجىّ الله هودا والذين آمنوا معه برحمة منه، وظل هود بعد هلاك عاد ساكنا بلاد حضرموت، إلى أن مات، ودفن في شرقي بلادهم، على نحو مرحلتين من مدينة «تريم» قرب وادي برهوت. روى ابن جرير عن علي كرم الله وجهه أنه مدفون في كثيب أحمر وعند رأسه سمرة (سدر) في حضرموت.
التفسير والبيان:
وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هودا، ليس أخا في الدين، وإنما كان واحدا من تلك القبيلة أو من جنسهم جنس بني آدم، لا من جنس الملائكة، وذلك ليفهموا كلامه ويأنسوا بمنطقه وأفعاله، ولتكون أخلاقه دليلا معروفا على سلوكه، فيكونوا أقرب إلى تصديقه.
قال هود: يا قوم، اعبدوا الله وحده، ولا تجعلوا معه إلها آخر. أفلا تتقون ربكم، وتبتعدون عما أنتم عليه من الشرك والمعصية؟
فقال الملأ أي الجمهور والسادة والقادة منهم: إنا لنراك في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر. وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، للإشارة إلى تمكنه فيها. ووصف الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح لأن منهم من كان قد آمن وكتم إسلامه مثل مرثد بن سعد.
وإنا لنظنك في كلامك وادعائك أنك رسول من رب العالمين أنك أحد الكاذبين الذين يكذبون على الله في ادعائهم الرسالة من الله.
قال لهم غاضا عن اتهامهم بأدب حسن وخلق عظيم: ليس بي سفاهة أي ضلالة وحماقة، ولكني بحق رسول من رب العالمين، أرسلني إليكم لتبليغكم

صفحة رقم 263

ما أرسلت به من التكاليف الإلهية، وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين فيما أبلغكم إياه، فلا أكذب على الله. وهذه هي صفات الرسل: التبليغ والنصح والأمانة.
ولا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم. فقوله: أَوَعَجِبْتُمْ معطوف على محذوف تقديره:
أكذبتم وعجبتم من إنزال وحيه بتذكيركم وعظتكم على لسان رجل منكم، لينذركم عقابه ويحذركم من بأسه؟! واذكروا فضل الله عليكم ونعمته، إذ جعلكم ورثة نوح، ومنحكم طولا في القامة وقوة في الجسد تفوق أمثالكم من أبناء جنسكم.
واذكروا آلاء الله، أي نعمه ومننه عليكم، واشكروه عليها بإخلاص العبادة وترك الشرك به لتفوزوا بجنان الخلد والنعيم الأبدي.
فردوا عليه متمردين بقولهم: أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده، ونفرده بالتعظيم، ونترك ما كان عليه آباؤنا من اتخاذ الأصنام شركاء معه؟ أي أنهم أنكروا عليه دعوته، واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حبا لما نشؤوا عليه، وإلفا لما يتدين به آباؤهم.
وازدادوا طغيانا وعنادا وإنكارا على هود عليه السلام، بل اشتطوا في الحماقة والتحدي فطلبوا إنزال العذاب عليهم على ترك الإيمان به، قائلين: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي استعجل إنزال العذاب علينا إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك.
فأجابهم هود عليه السّلام: إنه قد وجب عليكم وحقّ بمقالتكم هذه من ربّكم عذاب وسخط وطرد من رحمته، أو قد نزل عليكم، جاعلا المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تلقي

صفحة رقم 264

الناس على الأرض كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر ٥٤/ ٢٠] أي أصول نخل قلع من جذره.
أتحاجونني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، وما أنزل الله من حجّة ولا برهان أو دليل على عبادتها؟! ثم هددهم وأوعدهم بقوله: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي انتظروا نزول العذاب الشديد من الله الذي طلبتموه بقولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إني معكم أحد المنتظرين لنزوله بكم.
وقد نزل بهم العذاب ونجّى الله هودا والذين آمنوا معه برحمة عظيمة من الله، واستأصل الكافرين، وقطع دابر الذين جحدوا بآيات الله لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالله تعالى، وكذبوا بآيات الله، فهاتان صفتان استوجبتا التّعذيب، وهما: التّكذيب بآيات الله، والكفر أو عدم الإيمان.
وكان العذاب كما في آيات أخرى بالأعاصير الهوجاء والرّيح العاتية: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذّاريات ٥١/ ٤١- ٤٢]، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة ٦٩/ ٦- ٨]، فلما تمرّدوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرّجل منهم، فترفعه في الهواء، ثمّ ترميه على رأسه، فتخلع رأسه ممن بين جثّته تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف ٤٦/ ٢٥].
ومظاهر عتوّهم: عبادة الأوثان، وظلم الناس، والاغترار بالقوّة: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ [فصلت ٤١/ ١٥]، وبناء الأبنية الضخمة في كلّ مكان عبثا بغير نفع، فعاتبهم هود

صفحة رقم 265

وكلمهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ... [الشعراء ٢٦/ ١٢٨- ١٣١]، قالُوا: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ: إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود ١١/ ٥٣- ٥٤] أي بجنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
في قصة هو مع قومه عبر وعظات أهمها ما يأتي:
١- ضرورة التّحلّي بالصبر بسبب معاناة الأنبياء الشديدة في دعوة أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ورفض الإشراك به معه إلها آخر. فقد دعا هود قومه إلى عبادة الله وحده، وذكّرهم بنعم الله وأفضاله عليهم من التّمكين في الأرض وزيادة القوة البدنية وطول القامة، قال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستين ذراعا.
٢- خيبة الآمال بالتّفوق حين استمر عناد القوم (قوم عاد) وتمرّدهم وإنكارهم دعوة نبيّهم، فقد حملهم غرورهم بقوتهم الجسدية والمادية في البناء والمصانع على الاستهانة بتهديد النّبي ووعيده، فاستعجلوا إنزال العذاب عليهم.
٣- النّبي يكون عادة من جنس قومه، فهو بشر مثلهم، وهو أيضا واحد من القبيلة، لكنه يكون من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا، وأكرمهم معشرا، وأرفعهم خلقا وأدبا. وهذا كلّه كان منطبقا على هود عليه السّلام، بدليل إجابته لقومه الذين اتّهموه بالسّفاهة إجابة صادرة عن الحكمة، والتّرفّع عمّا قالوا ووصفوه بالسّفاهة والضّلالة. وهذا منهج أصحاب السّمو والرّفعة، يقابلون السّفهاء بالحلم، ويغضون عن قول السّوء بالصّفح والعفو والمغفرة.

صفحة رقم 266
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية