ابن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له: قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال: وما هي؟ قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا صلّى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة قال: وما هي؟
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته»
فقال: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طلبا انتهى. وما نسبه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم،
وفي الإحياء مرفوعا «البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعود وأكل جسد ما اعتاد».
وتعقبه العراقي قائلا: لم أجد له أصلا.
وفي شعب الإيمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالقسم».
وتعقبه الدارقطني قائلا: لا نعرف هذا من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبجر.
وفي الدر المنثور أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها: «يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد»
ولم أر من تعقبه، نعم رأيت في النهاية لابن الأثير سأل عمرو الحارث بن كلدة ما الدواء؟ قال: الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض، نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة.
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم. والجملة في موضع التعليل للنهي، وقد جمعت هذه الآية- كما قيل- أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وكل ما يتجمل به الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن، والكتان، والحيوان كالحرير، والصوف، والمعادن كالخواتم والدروع وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات، وقيل: المحللات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في «من» لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. ونقل عن ابن الفرس أنه قال: استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال.
وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأسا و «يقول» قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده.
وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز.
وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج إليهم فوافقهم فقالوا: يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فأنكر عليه ذلك، والحق أن كل ما لم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله ما لم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير إليه فيما تقدم.
وقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم،
وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك، وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول: إن لي نساء وجوار فأزين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري. وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل
لقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه،
وقيل لبعضهم: أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصا عليه كذا رقعة فقال: فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين.
نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضا أشياء أخر تطلب من محالها.
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا إشكال في الاختصاص المستفاد من اللام خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم. وعن الجبائي أن المعنى: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب خالِصَةً على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقه. وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر ولِلَّذِينَ متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر احكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة.
وجوز أن يكون هذا التشبيه على حد قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] ونظائره مما تقدم تحقيقه.
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي ما تزايد قبحه من المعاصي وقيل: ما يتعلق بالفروج ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل من الْفَواحِشَ أي جهرها وسرها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقا.
وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا وقيل: الأول طواف الرجال بالنساء. والثاني طواف النساء بالليل عاريات وَالْإِثْمَ أي ما يوجب الإثم. وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب. وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش. وقيل: إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس، والحسن البصري.
وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر:
نهانا رسول الله أن نقرب الزنا | وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا |
شربت الإثم حتى ضل عقلي | كذاك الإثم يذهب بالعقول |
من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم. وقال أبو حيان وغيره: إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وأيضا يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر.
وَالْبَغْيَ الظلم والاستطالة على الناس. وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك.
وجوز أن يكون حالا مؤكدة وقيل: جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغيا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي حجة وبرهانا. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على أبلغ وجه كقوله:
لا ترى الضب بها ينجحر وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: ٢٨] ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة أَجَلٌ أي وقت معين مضروب لاستئصالهم- كما قال الحسن-: وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل، وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله تعالى كما نزل بالأمم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض.
وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضا. وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب، وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا: التقدير ولكل أحد من أمة، وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الضمير- كما قال بعض المحققين- إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة، وعلى الأول فإظهار الأجل مضافا إلى ذلك الضمير لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها. وعلى الثاني وهو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير. والإضافة لإفادة أكمل التمييز. وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بصيغة الجمع، واستظهرها ابن جني وجعل الأفراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحسنه الإضافة إلى الجماعة والفاء قيل: فصيحة وسقطت في آية يونس لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك.
والمراد من مجيء الأجل قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً قطعة من الزمن في غاية القلة. وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبدا ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا. ويستعمل الأول أهل الحساب غالبا. والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم. وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا. سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلا من الليل والنهار لا يزيد على اثنتي عشرة ساعة معوجة أبدا.
ولهذا تطول وتقصر وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار. والمراد لا يتأخرون أصلا. وصيغة الاستغفار للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي ولا يتقدمون عليه.
والظاهر أنه عطف على «لا يستأخرون» كما أعربه الحوفي وغيره. واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الأخبار بالضروري كقولك: إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فما مضى،
وقيل: إنه معطوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط. فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه. وتعقبه مولانا العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى: «لا يستأخرون» فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر إلى الفهم السليم ما تقدم. وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكنا عقلا فإن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [النساء: ١٨] الآية. ولعل هذا مراد من قال: إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله تعالى: لا يَسْتَأْخِرُونَ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لا يستطيعون تغييره على نمط قوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ [الأنعام: ٥٩] وقولهم: كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل، أنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر وَلا يَسْتَقْدِمُونَ والحق العطف على الجملة الشرطية، وفي شرح المفتاح القيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية، وعليه لا محذور في العطف على لا يَسْتَأْخِرُونَ لعدم المشاركة في القيد وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة، وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران: الأول أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا فيه. والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا، فعلى الأول لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه، وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك وبعضهم بني العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك، وتقديم بيان انتفاء الاستئخار- كما قيل- لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب، وأما في قوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر: ٥، المؤمنون: ٤٣] من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قوله سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: ٣] فالأهم هناك بيان انتفاء السبق يا بَنِي آدَمَ خطاب لكافة الناس. ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه. وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال: إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ- حتى بلغ. فاتقون ثم بثهم. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم. وقيل: المراد ببني آدم أمة نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو خلاف الظاهر. ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل. و «أما» هي إن الشرطية ضمت إليها- ما- لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط، وقيل: إنها تفيد العموم أيضا فمعنى إما تفعلن مثلا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه.
ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة.
ومن ذلك قوله:
فأما تريني ولي لمة... فإن الحوادث أودى بها
ورد بأن كثرة سماع الحذف تبعد القول بالضرورة. ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه، وقيل: إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد. وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم. وفي الإتيان
بأن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح.
وقوله سبحانه: يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي صفة أخرى لرسل. وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم وقوله تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جواب الشرط. ومن إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط. والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف إلخ. وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه وَالَّذِينَ كَذَّبُوا منكم بِآياتِنا التي تقص وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يقبلوها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لتكذيبهم واستكبارهم.
وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة. وإيراد الاتقاء فيها للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه. وإدخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أو كذب ما قاله جل شأنه. والاستفهام للإنكار وقد مر تحقيق ذلك أُولئِكَ إشارة إلى الموصول. والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ. وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب يَنالُهُمْ أي يصيبهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب. وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين. وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر ومثله عن مجاهد.
وعن أبي صالح ما قدر من العذاب، وعن الحسن مثله. وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ ومن لابتداء الغاية. وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من «نصيبهم» أي كائنا من الكتاب حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي حال كونهم متوفين لأزواجهم وحتى غاية نيلهم. وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله:
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وقيل: إنها جارة. وقيل: لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء. وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر. وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى: قالُوا أي الرسل لهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات قالُوا ضَلُّوا أي غابوا عَنَّا لا ندري أين مكانهم. فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقيق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي وما وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلاة لاتصلت.
وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي اعترفوا على أنفسهم. وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كافِرِينَ عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا
حيث اتضح لهم حاله، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر ويحتمل أن تكون عطفا على قالُوا وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه والاستفهام- على ما ذهب إليه غير واحد- غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب. وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في الآية وقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى قالَ أي الله عز وجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك:
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي مع أمم، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لأمم قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني كفار الأمم من النوعين، وقدم الجن لمزيد شرّهم فِي النَّارِ متعلق بادخلوا، وجوز أن يتعلق فِي أُمَمٍ به ويحمل فِي النَّارِ على البدلية أو على أنه صفة أُمَمٍ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخبارا عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقا أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ من الأمم تابعة أو متبوعة في النار لَعَنَتْ أُخْتَها أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها، وعن أبي مسلم يلعن الاتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى.
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار. وأصل ادَّارَكُوا تداركوا فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل.
وعن أبي عمرو أنه قرأ «اداركوا» بقطع ألف الوصل وهو- كما قيل: مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل، وقرأ «إذا أدركوا» بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغما ولا فرق بين المتصل والمنفصل قالَتْ أُخْراهُمْ منزلة وهم الاتباع والسفلة لِأُولاهُمْ منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل، واللام في لِأُولاهُمْ للتعليل لا للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا كما روي عن مجاهد مِنَ النَّارِ والضعف- على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا- مثل الشيء مرة واحدة، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد.
وقال الراغب: الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالثني والثني وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف وعلى ذلك قول الشاعر:
جزيتك ضعف الود لما اشتكيته | وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي |
ونصب ضِعْفاً على أنه صفة لعذاب، وجوز أن يكون بدلا منه ومِنَ النَّارِ صفة العذاب أو الضعف قالَ سبحانه وتعالى: لِكُلٍّ منكم ومنهم عذاب ضِعْفٌ من النار، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق، وأما الاتباع فلذلك أيضا عند بعض، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلأن اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: ٦]، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الاتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال: إنه مخصوص ببعضهم وقيل: الأحسن أن يقال: إن ضعف الاتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعا للهوى، ويدل عليه قوله تعالى: وقالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: ٣٢] وفيه ما فيه. والأولى أن يقال: إن ذلك في الاتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعفت ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن، واختار أن المعنى لكن منهم ضعف ما لكم من العذاب والظاهر ما عولنا عليه.
وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للاتباع كما هو الظاهر.
وقيل: إنه على الأول للاتباع، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة وقرأ عاصم «لا يعلمون» بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به إدراجه في الجواب، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال: إن هذه القراءة على انفصال القادة من الاتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ حين سمعوا جواب الله تعالى لهم، واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه، وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن إخباره سبحانه بقوله جل وعلا: لِكُلٍّ ضِعْفٌ سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وقيل: إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم «فما كان» إلخ وليس بشيء.
وأيا ما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب، وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى. وقيل: المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب اتباعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه، وعليه فليس مرتبا على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولى فَذُوقُوا الْعَذابَ والمضاعف بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي بسبب كسبكم أو الذي تكسبونه. والظاهر أن هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي.
وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور. وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على فَضْلٍ: وقيل: هو من مقول الفريقين أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوا إلخ وهو خلاف الظاهر جدا.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها
وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أي لأرواحهم إذا ماتوا أَبْوابُ السَّماءِ كما تفتح لأرواح المؤمنين.
أخرج أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوأ قالت اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان. فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر»
والأخبار في ذلك كثيرة وقيل: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء.
وروي ذلك عن الحسن، ومجاهد، وقيل: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم. وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل:
المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة. وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله. وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا. وظاهر كلام أهل الهيئة الجديد جواز الخرق والالتئام على الأفلاك. وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى. والتاء في تُفَتَّحُ لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف، وحمزة، والكسائي به وبالياء التحتية، وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل.
وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازا لأنها سبب لذلك. وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يوم القيامة حَتَّى يَلِجَ أي يدخل الْجَمَلُ هو البعير إذا بزل. وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: هو زوج الناقة.
وعن الحسن أنه قال: ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم. وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل: حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم فِي سَمِّ الْخِياطِ أي ثقبة الإبرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه. وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق. وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا. وقرأ ابن عباس وابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي الْجَمَلُ بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل.
وقرأ عبد الكريم، وحنظلة، وابن عباس، وابن جبير في رواية أخرى الْجَمَلُ بالضم والفتح مع التخفيف كنغر.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الْجَمَلُ بضم الجيم وسكون الميم كالقفل والْجَمَلُ بضمتين كالنصب، وقرأ أبو السمال «الجمل» بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب. وقيل: هو حبل السفينة. وقرىء «في سم» بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر، ومعناه الثقب الصغير مطلقا. وقيل: أصله ما كان في عضو كأنف وأذن، وقرأ عبد الله «في سم الخياط» بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة، ويقال:
أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه، ولا يكاد يقال للكسب المحمود.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش من تحتهم، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ، والجملة إما مستأنفة أو حالية، ومن تجريدية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من مِهادٌ لتقدمه وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي أغطية جمع غاشية، وعن ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف. والآية- على ما قيل- مثل قوله تعالى لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: ١٦] والمراد أن النار محيطة به من جميع الجوانب
وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية ثم قال: «هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح»
وتنوين غَواشٍ عوض عن الحرف المحذوف أو حركته، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا، ولذا قرىء «غواش» بالرفع كما في قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: ٢٤] في قراءة عبد الله.
وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الجزاء الشديد نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام. ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل وَالَّذِينَ آمَنُوا أي بآياتنا ولم يكذبوا بها وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ ولم يستكبروا عنها لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي ما تقدر عليه بسهولة دون ما تضيق به ذرعا، والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله.
وقيل: المعنى لا نكلف نفسا إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السماوات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لا تخلو عن ترغيب أيضا. وجوز أن يكون اسم الإشارة بدلا من الموصول وما بعده خبر المبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف.
وجوز أيضا أن تكون جملة لا نُكَلِّفُ إلخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم وقوله سبحانه: هُمْ فِيها خالِدُونَ حال من أَصْحابُ الْجَنَّةِ، وجوز كونه حالا من الْجَنَّةِ لاشتماله على ضميرها أيضا. والعامل فيها معنى الإضافة أو اللام المقدرة، وقيل. خبر لأولئك على رأي من جوزه. وفِيها متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل»
وقيل: المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه.
وقيل: إن هذا النزع إنما كان في الدنيا، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية.
ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما
أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا،
وعثمان، وطلحة، والزبير منهم، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبىء بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعدة ظاهر الصيغة ومِنْ غِلٍّ على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ حال أيضا إما من الضمير في صُدُورِهِمْ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف، وإما من ضمير نَزَعْنا على ما قيل والعامل الفعل. واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم. والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا الفوز العظيم والنعيم المقيم. والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها.
وقيل: المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه. ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وفقنا له، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول لِنَهْتَدِيَ وهَدانا الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه، والجملة حالية أو استئنافية، وفي مصاحف أهل الشام ما كُنَّا بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقرابة، وقوله سبحانه: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء، وقيل: تعليل لهدايتهم.
والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك، ودونك
فأعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه. ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية وَنُودُوا أي نادتهم الملائكة، وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله، والآثار تؤيد الأول.
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي أي تلكم على أن أَنْ مفسرة لما في النداء من معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم، وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثا، والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك، ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج.
والظاهر أن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر وقوله سبحانه: أُورِثْتُمُوها حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون الْجَنَّةُ نعتا لتلكم أو بدلا وأُورِثْتُمُوها الخبر، ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من- كم- كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر والتزم بعضهم في توجيه البعد أن تِلْكُمُ خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه.
والمنادى له أولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له، والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال الصالحة، والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا سببا له، والباء
في قوله صلّى الله عليه وسلّم على ما في بعض الكتب: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»
وكذا
في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر «لن ينجو أحد منكم بعمله»
للسبب التام فلا تعارض، وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم، وقيل: تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثا للمؤمنين،
فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال: يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم،
وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز.
وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل، وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلولا فضله لم يكن ذلك، وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانه هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح.
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ بعد الاستقرار فيها كما هو الظاهر، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع، والمعنى ينادي ولا بد كل فريق من أهل الجنة أَصْحابَ النَّارِ أي من كان يعرفه في الدنيا من أهلها تبجحا بحالهم وشماتة بأعدائهم وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار والاستخبار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا على ألسنة رسله عليهم السلام من النعيم والكرامة حَقًّا حيث نلنا ذلك فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ أي ما وعدكم من الخزي والهوان والعذاب حَقًّا وحذف المفعول تخفيفا وإيجازا واستغناء بالأول، وقيل: لأن ما ساءهم من الوعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعده كالبعث، والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم.
وتعقب بأنه لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضا، فالوجه الحمل على ما تقدم، ونصب حَقًّا في الموضعين على الحالية، وجوز أن يكون على أنه مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم، والتعبير بالوعد قيل: للمشاكلة، وقيل: للتهكم. ومن الناس من جوز أن يكون مفعول وعد المحذوف- نا- وحينئذ فلا مشاكلة ولا تهكم. وأيا ما كان لا يستبعد هذا النداء هناك وأن بعد ما بين الجنة والنار من المسافة كما لا يخفى.
قالُوا في جواب أصحاب الجنة نَعَمْ قد وجدنا ذلك حقا. قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه نسبت إلى كنانة وهذيل، ولا عبرة بمن أنكره مع القراءة به وإثبات أهل اللغة له بالنقل الصحيح.
نعم ما روي من أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم فقال عمر: أما النعم فالإبل قولوا:
نعم لا أراه صحيحا لما فيه من المخالفة لأصح الفصيح فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه صاحب الصور عليه السلام، وقيل: مالك خازن النار. وقيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك.
ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله تعالى وجهه
مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس بَيْنَهُمْ أي الفريقين لا بين القائلين نعم كما قيل، ولا يراد أن الظاهر أن يقال: بينهما لأنه غير متعين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بأن المخففة أو المفسرة، والمراد الإعلام بلعنة الله تعالى لهم زيادة لسرور أصحاب الجنة وحزن أصحاب النار أو ابتداء لعن.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنّ لعنة الله» بالتشديد والنصب: وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على إرادة القول بالتضمين أو التقدير أو على الحكاية بإذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصدون بأنفسهم عن دينه سبحانه ويعرضون عنه، فالموصول صفة مقررة للظالمين لأن هذا الإعراض لازم لكل ظالم، وجوز القطع بالرفع أو النصب وكلاهما على الذم وأمر الوقف ظاهر، وفسر الإمام النسفي الصد هنا بمنع الغير وعليه فلا تقرير، والمعنى يمنعون الناس عن دين الله تعالى بالنهي عنه وإدخال الشبه في دلائله وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها أو يطلبون لها تأويلا وإمالة إلى الباطل، فالعوج إما على أصله وهو الميل وإما بمعنى التعويج والإمالة ونصبه قيل: على الحالية. وقيل: على المفعولية.
وجوز الطبرسي أن يكون نصبا على المصدر كرجع القهقرى واشتمل الصماء، وذكر أن العوج بالكسر يكون في الدين والطريق وبالفتح في الخلقة فيقال في ساقه عوج بالفتح وفي دينه عوج بالكسر، وقال الراغب: العوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه. والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة كما يكون في أرض بسيط وكالدين والمعاش، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي غير معترفين بالقيامة وما فيها، والجار متعلق بما بعده، والتقديم لرعاية الفواصل، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم.
وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الفريقين كقوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ [الحديد: ١٣] أو بين الجنة والنار حجاب عظيم ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى وإن لم يمنع وصول النداء وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا.
وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعراف الحجاب أي أعاليه، وهو السور المضروب بينهما أجمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك. وقيل: العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه.
وقيل: ذاك جبل أحد.
فقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم «أحد يحبنا ونحبه- وأنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة».
وقيل: هو الصراط. وروي ذلك عن الحسن بن المفضل، وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال: المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رِجالٌ والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربهم فقال لهم: قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم.
أخرجه أبو الشيخ، والبيهقي، وغيرهما عن حذيفة، وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك فيقال: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي».
وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس، وحمزة، وعلي، وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها. وقيل: إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهو من كل أمة حكاه الزهري،
وأخرج البيهقي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو الشيخ، والطبراني، وغيرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أصحاب الأعراف فقال: «هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله».
وقيل: هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر.
وقال الحسن البصري: إنهم قوم كان فيهم عجب. وقال مسلم بن يسار: هم قوم كان عليهم دين، وقيل: هم أهل الفترة، وقيل: أولاد المشركين، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا، وعنه أيضا أنهم مساكين أهل الجنة.
وعن أبي مسلم أنهم ملائكة ويرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. وقيل وقيل وأرجح الأقوال- كما قال القرطبي- الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما لا يخفى تداخله.
ومن الناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرغ هي عليه لا تليق بغيرهم يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض
الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار. ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عفلى، ويقال: سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء. وقال الشاعر:
له سيمياء ما تشق على البصر ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالإلهام أو بتعليم الملائكة. وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة. ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ حين رأوهم وعرفوهم أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره لَمْ يَدْخُلُوها حال من فاعل نادَوْا أو من مفعوله.
وقوله سبحانه: وَهُمْ يَطْمَعُونَ حال من فاعل يَدْخُلُوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قاله بعضهم.
وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء: ٨٢]. وفي الكشاف أن جملة لَمْ يَدْخُلُوها إلخ لا محل لها لأنها استئناف كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف بالفصل.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي إلى جهتهم وهو في الأصل مصدر وليس في المصادر وما هو على وزن تفعال بكسر التاء غيره وغير تبيان وزلزال ثم استعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة ويجوز عند السبعة إثبات همزته وهمزة «أصحاب» وحذف الأولى وإثبات الثانية. وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار- كما قال غير واحد- بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه. فمن زعم أن في الكلام الأول شرطا محذوفا لم يأت بشيء قالُوا متعوذين بالله سبحانه من سوء ما رأوا من حالهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجمعنا وإياهم في النار. وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط بل ما يؤدي إليه من الظلم. وفي الآية- على ما قيل- إشارة إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء. وزعم بعضهم أنه ليس المقصود فيها الدعاء بل مجرد استعظام حال الظالمين. وقرأ الأعمش «وإذا قلبت أبصارهم». وعن ابن مسعود وسالم مثل ذلك.
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير. وقيل: لم يكتف بالإضمار للفرق بين المراد منهم هنا. والمراد منهم فيما تقدم فإن المنادى هناك الكل وهنا البعض. وفي إطلاق أصحاب الأعراف على أولئك الرجال بناء على أن مآلهم إلى الجنة دليل على أن عنوان الصحبة للشيء لا يستدعي الملازمة له كما زعمه البعض رِجالًا من رؤساء الكفرة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل حتى رأوهم فيما بين أصحاب النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها من سواد الوجه وتشويه الخلق وزرقة العين كما قال الجبائي أو بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا كما قال أبو مسلم أو بعلامتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا كما قيل ولعله الأولى. وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده- ويفهم من كلام
بعضهم، وفيه بعد، أنه متعلق بنادى. والمعنى نادوا رجالا يعرفونهم في الدنيا بأسمائهم وكناهم وما يدعون به من الصفات.
قالُوا بيان لنادى أو بدل منه ما أَغْنى عَنْكُمْ استفهام للتقريع والتوبيخ ويجوز أن يراد النفي أي ما كفاكم ما أنتم فيه جَمْعُكُمْ أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم المال فهو مصدر مفعوله مقدر وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب مما بعده.
وقرىء «تستكثرون» من الكثرة. وما على هذه القراءة تحتمل أن تكون اسم موصول على معنى ما أغنى عنكم أتباعكم والذي كنتم تستكثرونه من الأموال.
ويحتمل عندي أن تكون في القراءة السبعية كذلك. والمراد بها حينئذ الأصنام. ومعنى استكبارهم إياها اعتقادهم عظمها وكبرها أي ما أغنى عنكم جمعكم وأصنامكم التي كنتم تعتقدون كبرها وعظمها.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ من تتمة قولهم للرجال فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا: ما أغنى وقالوا: أهؤلاء، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يصيبهم الله تعالى برحمة وخير ولا يدخلهم الجنة كسلمان، وصهيب، وبلال رضي الله تعالى عنهم أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما قيل ذلك في قوله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: ٤٤].
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من كلام أصحاب الأعراف أيضا أي فالتفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم: دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة.
وقيل: هو أمر بأصل الدخول بناء على أن يكون كونهم على الأعراف وقولهم هذا قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة.
وقال غير واحد: إن قوله سبحانه: أَهؤُلاءِ إلخ استئناف وليس من تتمة قول أصحاب الأعراف، والمشار إليهم أهل الجنة والقائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة والمقول له أهل النار في قول، وقيل: المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم أهل النار، وادْخُلُوا الْجَنَّةَ من قول أهل الأعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ويقول: ادخلوا الجنة، ولا يخفى بعده، وقيل: لما عير أصحاب الأعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار: أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة اليوم مشيرا إلى أصحاب الأعراف ثم وجه الخطاب إليهم فقيل: ادخلوا الجنة إلخ وقرىء «ادخلوا». و «دخلوا» بالمزيد المجهول وبالمجرد المعلوم، وعليها فلا بد أن يكون لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ إلخ مقولا لقول محذوف وقع حالا ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام أي ادخلوا أو دخلوا الجنة مقولا لهم لا خوف إلخ.
وقرىء أيضا «ادخلوا» بأمر المزيد للملائكة. والظاهر أنها تحتاج إلى زيادة تقدير.
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار: أَنْ أَفِيضُوا أي صبوا عَلَيْنا شيئا مِنَ الْماءِ نستعين به على ما نحن فيه، وظاهر الآية يدل على أن الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي أو من الذي رزقكموه الله تعالى من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة أو من الأطعمة كما روي عن السدي، وابن زيد، ويقدر في المعطوف عامل يناسبه أو يؤول العامل الأول بما يلائم المتعاطفين أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل ذلك من المشاكلة ويكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدة جوعهم وأن ما هم فيه
من العذاب لا يمنعهم عن طلب أكل وشرب. وبهذا رد موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه- فيما يروي- على هارون الرشيد إنكاره أكل أهل المحشر محتجا بأن ما هم فيه أقوى مانع لهم عن ذلك.
واختلف العلماء في أن هذا السؤال هل كان مع رجاء الحصول أو مع اليأس منه حيث عرفوا دوام ما هم فيه وإلى كل ذهب بعض قالُوا استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل قالوا: في جوابهم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي منع كلا منهما أو منعهما منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعا، ولا يحمل التحريم على معناه الشائع لأن الدار ليست بدار تكليف الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي أمرهم الله تعالى به أو الذي يلزمهم التدين به لَهْواً وَلَعِباً فلم يتدينوا به أو فحرموا ما شاؤوا واستحلوا ما شاؤوا، واللهو- كما قيل- صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب، وقد تقدم تفصيل الكلام فيهما فتذكر وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا شغلتهم بزخارفها العاجلة ومواعيدها الباطلة وهذا شأنها مع أهلها قاتلها الله تعالى تغر وتضر وتمر فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا فالكلام خارج مخرج التمثيل، وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيرا ويصح أن يفسر به هنا فيكون استعارة أو مجازا مرسلا، وعن مجاهد أنه قال: المعنى نؤخرهم في النار، وعليه، فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان. والفاء في قوله تعالى فَالْيَوْمَ فصيحة، وقوله عز وعلا.
كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا قيل: في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي أن ينسى. وليس الكلام على حقيقته أيضا لأنهم لم يكونوا ذاكري ذلك حتى ينسوه بل شبه عدم إخطارهم يوم القيامة ببالهم وعدم استعدادهم له بحال من عرف شيئا ثم نسيه.
وعن ابن عباس، ومجاهد، والحسن أن المعنى كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا وليس هذا التقدير ضروريا كما لا يخفى، وذهب غير واحد إلى أن الكاف للتعليل متعلق بما عنده لا للتشبيه إذ يمنع منه قوله تعالى: وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ لأنه عطف على ما نسوا وهو يستدعي أن يكون مشبها به النسيان مثله.
وتشبيه النسيان بالجحود غير ظاهر، ومن ادعاه قال: المراد نتركهم في النار تركا مستمرا كما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله تعالى إنكارا مستمرا. وقال القطب: الجحود في معنى النسيان، وظاهر كلام كثير من المفسرين أن كلام أهل الجنة إلى وغرتهم الحياة الدنيا لا أن الله حرمهما على الكافرين فقط. وقال بعضهم: إنه ذلك لا غير، وعليه فيجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وجملة اليوم ننساهم خبره، والفاء فيه مثلها في قولك: الذي يأتيني فله درهم كما قيل.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بينا معانيه من العقائد، والأحكام، والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة، وقيل: لهم وللمؤمنين، والمراد بالكتاب الجنس، وقيل: للمعاصرين من الكفرة أو منهم ومن المؤمنين. والكتاب هو القرآن وتنوينه للتفخيم. وقد نظم بعضهم ما اشتمل عليه من الأنواع بقوله:
حلال حرام محكم متشابه | بشير نذير قصة عظة مثل |
يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم وليس علمه سبحانه عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم وللمناقشة فيه مجال، ويجوز أن يكون موضع الحال من المفعول أي مشتملا على علم كثير. وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بالضاد المعجمة، وظاهر كلام البعض أن الجار والمجرور على هذه القراءة في موضع الحال من الفاعل ولا يجعل حالا من المفعول أي فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك، وجوز بعضهم أن يجعل حالا من المفعول على نحو ما مر وقيل: إن عَلى للتعليل كما في قوله سبحانه: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: ١٨٥] وهي متعلقة بفضلناه أي فضلناه على سائر الكتب لأجل علم فيه أي لاشتماله على علم يشتمل عليه غيره منها، وقيل: إن عَلى في القراءتين متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول جِئْناهُمْ أي جئناهم بذلك حال كونهم من ذوي العلم القابلين لفهم ما جئناهم به فتأمل.
هُدىً وَرَحْمَةً حال من مفعول فَصَّلْناهُ وجوز أن يكون مفعولا لأجله وأن يكون حالا من الكتاب لتخصيصه بالوصف، والكلام في وقوع مثل ذلك حالا مشهور. وقرىء بالجر على البدلية من عِلْمٍ وبالرفع على إضمار المبتدأ أي هو هدى عظيم ورحمة كذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بنواره هَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به شيئا إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي عاقبته وما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث إن ما ذكر يأتيهم لا محالة، وحينئذ فلا يقال: كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير متوقعين له؟.
وقيل: إن فيهم أقواما يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل- بنو فلان قتلوا زيدا يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وهو يوم القيامة، وقيل: هو ويوم بدر يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوه ترك المنسي فأعرضوا عنه ولم يعملوا به مِنْ قَبْلُ أي من قبل إتيان تأويله قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين أنهم قد جاؤوا بالحق، وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه أَوْ نُرَدُّ عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام، ومِنْ مزيدة في المبتدأ.
وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل: هل لنا من شفعاء أو هل نرد إلى الدنيا، ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كما تقول. ابتداء: هل يضرب زيد، ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري، وأراد- كما في الكشف- لفظا لأن الظرف مقدر بجملة، وهل مما له اختصاص بالفعل، والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمني الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الاسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغنى عنه لفظا. وقرأ ابن أبي إسحاق أَوْ نُرَدُّ بالنصب عطفا على فَيَشْفَعُوا لَنا المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن أَوْ بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري إظهارا لمعنى السببية، قال القاضي: فعلى الرفع المسئول أحد الأمرين الشفاعة. والرد إلى الدنيا، وعلى النصب المسئول أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد إن كانت أَوْ عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذ يشفعون إلى الرد، وكذا إذا كانت بمعنى حتى إن أي يشفعون حتى يحصل الرد فَنَعْمَلَ بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على نُرَدُّ مسبب عنه على قراءة ابن أبي إسحاق.
وقرأ الحسن بنصب «نرّد» ورفع «نعمل» أي فنحن نعمل غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي في الدنيا من الشرك والمعصية قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب وفقد ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة، والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئا.
ومن باب الإشارة في الآيات: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الآدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرف آدم عليه السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى الجنة هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحبة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال: إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه السلام كما خمر طينته بيده لها:
فلم تك تصلح إلا له... ولم يك يصلح إلا لها
وأن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على ما منع، واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أو همهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذات ملكية وخلودا فيها أو ملكا ورياسة على القوى بغير زوال إن قرىء «ملكين» بكسر اللام.
فَدَلَّاهُما فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها بِغُرُورٍ بما غرهما من كأس القسم الترعة من حميا ذكر الحبيب فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما والقليل منهما بالنسبة إليهما كثير وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يكتمان هاتيك السوءات والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ
وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها عليها وَتَرْحَمْنا بإفاضة المعارف الحقيقية لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي قالَ اهْبِطُوا إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية.
وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وهو لباس الشريعة يُوارِي سَوْآتِكُمْ يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره وَرِيشاً زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات وَلِباسُ التَّقْوى أي صفة الورع والحذر من صفات النفس ذلِكَ خَيْرٌ من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء. ويقال: لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوءة الطمع في الدنيا وما فيها. ولباس الثاني محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوءة التعلق بالسوي. ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سورة رؤية غيره في الأولى والأخرى. ولباس الرابع بالبقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوءة هوية ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل: وهذا إشارة إلى الحقيقة، وربما يقال: اللباس المواري للسوءات إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها على حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوي وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى لعلكم تذكرون (١) عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما الفطري النوري إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل وهو الصراط المستقيم وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي مقام سجود أو وقته، والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوء ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور، وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا. وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخط على المخالف والتعبير له والاستخفاف به. وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الآنية فلا يطغى بحجاب الآنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة.
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه كَما بَدَأَكُمْ أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم تَعُودُونَ إليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ كما ثبت ذلك في علمه إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ للمناسبة التامة بين الفريقين وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ لقوة سلطان الوهم يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة الاستقامة ولكل مقام مقال وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ولا تسرفوا بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم.
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي منع عنها وقال: لا يمكن التزين بها وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ كعلوم الإخلاص. ومقام التوكل، والرضا، والتمكين قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ رذائل القوة البهيمة ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ رذائل القوة السبعية وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ينتهون عنده إلى مبدئهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لأن وقوع ما يخالف العلم محال يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم، وقيل: هي العقول، وقال النيسابوري: التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم، وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته فَمَنِ اتَّقى في الفناء وَأَصْلَحَ بالاستقامة عند البقاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوصولهم إلى مقام الولاية وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها بالاتصاف بالرذائل أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ نار الحرمان وهُمْ فِيها خالِدُونَ لسوء ما طبعوا عليه فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن قال: أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر.
وقيل: الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة علينا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ أي جمل أنفسهم المستكبرة فِي سَمِّ الْخِياطِ أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدا، وقد يقال: الخياط إشارة إلى خياط الشريعة، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ الحرمان مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي إن الحرمان أحاط بهم، وقيل: لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم. وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ المرحومون أَصْحابَ النَّارِ المحرمون أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد حَقًّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وهو مؤذن العزة والعظمة بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه سبحانه، وقيل: يصدون القلب والروح عن ذلك وَيَبْغُونَها عِوَجاً بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق، وقيل: يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى كافِرُونَ لمزيد احتجابهم بما هم فيه وَبَيْنَهُما أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب رِجالٌ وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته. قيل: وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عز وجل تصرف الرجل بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ لما أعطوا من نور الفراسة وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي جنة ثواب الأعمال أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار، وقيل: إن سلامهم على أهل الجنة