وقالوا في: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نَادَى مُنَادٍ أَسْمَعَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الصُّورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بَيْنَهُمْ يَحْتَمِلُ أَنْ يكون ظرفا لقوله: فَأَذَّنَ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُؤَذِّنَ أَوْقَعَ ذَلِكَ الْأَذَانَ بَيْنَهُمْ وَفِي وَسَطِهِمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: مُؤَذِّنٌ وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ مُؤَذِّنًا مِنْ بَيْنِهِمْ أَذَّنَ بِذَلِكَ الْأَذَانِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ أَنْ مُخَفَّفَةً لَعْنَةُ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةً لَعْنَةَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ شَدَّدَ فَهُوَ الْأَصْلُ وَمَنْ خَفَّفَ (أَنْ) فَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الشَّدِيدَةِ عَلَى إِرَادَةِ إِضْمَارِ الْقِصَّةِ وَالْحَدِيثُ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ لَعَنَةُ اللَّهِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠] التَّقْدِيرُ: أَنَّهُ وَلَا تُخَفَّفُ أَنْ إِلَّا وَيَكُونُ مَعَهَا إِضْمَارُ الْحَدِيثِ وَالشَّأْنِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةُ هِيَ الَّتِي لِلتَّفْسِيرِ كَأَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِمَا أُذِّنُوا بِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنا وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ الْأَعْمَشَ قَرَأَ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بِكَسْرِ إِنَّ عَلَى إِرَادَةِ الْقَوْلِ أَوْ على اجراء فَأَذَّنَ مَجْرَى «قَالَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَذِّنَ أَوْقَعَ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ أَرْبَعَةٍ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ ظَالِمِينَ. لِأَنَّهُ قَالَ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ مِنْهُ/ الْمُشْرِكُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ بدليل ان قول اهل الجنة فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ إِلَّا مَعَ الْكُفَّارِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَهُ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْصَرِفًا إِلَيْهِمْ فَثَبَتَ ان المراد بالظالمين هاهنا الْمُشْرِكُونَ وَأَيْضًا أَنَّهُ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ بِصِفَاتٍ ثَلَاثَةٍ. هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْكُفَّارِ وَذَلِكَ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَنْ كَانَ ظَالِمًا سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ كَانَ فَاسِقًا تَمَسُّكًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ تَارَةً بِالزَّجْرِ وَالْقَهْرِ وَأُخْرَى بِسَائِرِ الْحِيَلِ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَالْمُرَادُ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ فِي دَلَائِلِ الدِّينِ الْحَقِّ.
وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْ تِلْكَ اللَّعْنَةَ إِنَّمَا أَوْقَعَهَا ذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الظَّالِمِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِأَنَّ تِلْكَ اللَّعْنَةَ مَا وَقَعَتْ إِلَّا عَلَى الْكَافِرِينَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ ذَلِكَ اللَّعْنَ يَعُمُّ الْفَاسِقَ وَالْكَافِرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
[في قوله تعالى وَبَيْنَهُما حِجابٌ] اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبَيْنَهُما حِجابٌ يَعْنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا الْحِجَابُ هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الْحَدِيدِ: ١٣].
فَإِنْ قِيلَ: وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى ضَرْبِ هَذَا السُّورِ بَيْنَ الْجَنَّةِ والنار؟ وقد ثبت ان الجنة فوق السموات/ وَأَنَّ الْجَحِيمَ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ.
قُلْنَا: بُعْدُ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى لَا يَمْنَعُ أَنْ يَحْصُلَ بَيْنَهُمَا سُورٌ وَحِجَابٌ وَأَمَّا الْأَعْرَافُ فَهُوَ جَمْعُ عُرْفٍ وَهُوَ كُلُّ مَكَانٍ عَالٍ مُرْتَفِعٍ وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ الدِّيكِ وَكُلُّ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ عُرْفٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ ارْتِفَاعِهِ يَصِيرُ اعرف مما انخفض منه.
[في قوله تعالى وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْأَعْرَافِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَعْرَافِ أَعَالِي ذَلِكَ السُّورِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ شَرَفُ الصِّرَاطِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَوْلُ الزَّجَّاجِ: فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَعَلَى الْأَعْرافِ أَيْ وَعَلَى مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِسِيمَاهُمْ. فَقِيلَ لِلْحَسَنِ: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَضَرَبَ عَلَى فَخْذَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَعَرُّفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ يُمَيِّزُونَ الْبَعْضَ مِنَ الْبَعْضِ وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلَّ بَعْضَهُمُ الْآنَ مَعَنَا! أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الَّذِينَ هُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ مَنْ هُمْ؟ وَلَقَدْ كَثُرَتِ الْأَقْوَالُ فِيهِمْ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ الْأَشْرَافُ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الثَّوَابِ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ أَقْوَامٌ يَكُونُونَ فِي الدَّرَجَةِ السَّافِلَةِ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ هُمْ مَلَائِكَةٌ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَقِيلَ لَهُ:
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ وَتَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ؟ فَقَالَ الْمَلَائِكَةُ ذُكُورٌ لَا إِنَاثٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَصْفُ بِالرُّجُولِيَّةِ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي مُقَابَلَةِ الرَّجُلِ مَنْ يَكُونُ أُنْثَى وَلَمَّا امْتَنَعَ كَوْنُ الْمَلَكِ أُنْثَى امْتَنَعَ وَصْفُهُمْ بِالرُّجُولِيَّةِ. وَثَانِيَهَا: قَالُوا إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْلَسَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَعَالِي ذَلِكَ السُّورِ تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ سَائِرِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِمْ وَأَجْلَسَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الْعَالِي لِيَكُونُوا مُشْرِفِينَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ مُطَّلِعِينَ عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَمَقَادِيرِ ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ.
وَثَالِثُهَا: قَالُوا: إِنَّهُمْ هُمُ الشُّهَدَاءُ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ثُمَّ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِكَوْنِ وُجُوهِهِمْ ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً وَأَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ وَزُرْقَةِ عُيُونِهِمْ وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا بَقِيَ لِأَهْلِ الْأَعْرَافِ/ اخْتِصَاصٌ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْ أَهْلِ النَّارِ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ فِي الدُّنْيَا أَهْلَ الْخَيْرِ وَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ وَأَهْلَ الشَّرِّ وَالْكُفْرِ وَالْفَسَادِ وَهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا شُهَدَاءَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَعَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فَهُوَ تَعَالَى يُجْلِسُهُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ وَهِيَ الْأَمْكِنَةُ الْعَالِيَةُ الرَّفِيعَةُ لِيَكُونُوا مُطَّلِعِينَ عَلَى الْكُلِّ يَشْهَدُونَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ
بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَيَعْرِفُونَ أَنَّ أَهْلَ الثَّوَابِ وَصَلُوا إِلَى الدَّرَجَاتِ وَأَهْلَ الْعِقَابِ إِلَى الدِّرْكَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي صِفَةِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أَيْ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشُّهَدَاءِ.
أَجَابَ الذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ قَالُوا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَنَّ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ يَتَأَخَّرُ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَهُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَجْلَسَهُمْ عَلَى تِلْكَ الشُّرُفَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ لِيُشَاهِدُوا أَحْوَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالَ أَهْلِ النَّارِ فَيَلْحَقُهُمُ السُّرُورُ الْعَظِيمُ بِمُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ ثُمَّ إِذَا اسْتَقَرَّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ فَحِينَئِذٍ يَنْقُلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَمْكِنَتِهِمُ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُمْ غَيْرَ دَاخِلِينَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَمَالِ شَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَهُمْ يَطْمَعُونَ فَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الطَّمَعِ الْيَقِينُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: ٨٢] وذلك الطمع كان طمع يقين فكذا هاهنا. فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هُمْ أَشْرَافُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَقْوَامٌ يَكُونُونَ فِي الدَّرَجَةِ النَّازِلَةِ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَلَا جَرَمَ مَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَوْقَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأَعْرَافِ لِكَوْنِهَا دَرَجَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ النَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحِمَتِهِ وَهُمْ آخِرُ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَهَذَا قَوْلُ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَطَعَنَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي فِي هَذَا الْقَوْلِ وَاحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِهِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ قَالُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: ٤٣] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِهَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِوُجُودِ أَقْوَامٍ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْجَنَّةَ/ وَلَا النَّارَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِمَحْضِ التَّفَضُّلِ لَا بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ كَوْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَهُمْ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ بان أجلسهم على الإمكان الْعَالِيَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ وَمِثْلُ هَذَا التَّشْرِيفِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْأَشْرَافِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَدَرَجَتُهُمْ قَاصِرَةٌ، فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ التَّشْرِيفُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها خطاب مَعَ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى أَجْلَسَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ بِمَزِيدِ التَّشْرِيفِ وَالْإِكْرَامِ وَإِنَّمَا أَجْلَسَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا كَالْمَرْتَبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهَلِ النِّزَاعُ إِلَّا فِي ذَلِكَ؟
فَثَبَتَ أَنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَيْهَا فِي إِبْطَالِ هَذَا الْوَجْهِ ضَعِيفَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَفْسِيرِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ قَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ أَقْوَامٌ خَرَجُوا الى الغز وبغير إِذَنِ آبَائِهِمْ فَاسْتُشْهِدُوا فَحُبِسُوا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ دَاخِلٌ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا صَارُوا مِنْ أَصْحَابِ الأعراف لان معصيتهم
ساوت طاعتهم باجهاد فَهَذَا أَحَدُ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ الْوَجْهُ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَقَصْرِ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَرْثِ: إِنَّهُمْ مَسَاكِينُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ قَوْمٌ إِنَّهُمُ الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُمْ وَيُسْكِنُهُمْ فِي الْأَعْرَافِ فَهَذَا كُلُّهُ شَرْحُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْأَعْرَافُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْكِنَةِ الْعَالِيَةِ عَلَى السُّورِ الْمَضْرُوبِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ النَّارِ. وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ الْأَعْرَافُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا غَيْرُ بَعِيدٍ إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ يُشْرِفُونَ مِنْهُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: بِسِيماهُمْ عَلَى وُجُوهٍ.
فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سِيمَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَيَاضُ وَجْهِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٦] وَكَوْنُ وُجُوهِهِمْ مُسْفِرَةً ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَغَرَّ مُحَجَّلًا مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ وَعَلَامَةُ الْكُفَّارِ سَوَادُ وُجُوهِهِمْ وَكَوْنُ وُجُوهِهِمْ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ وَكَوْنُ عُيُونِهِمْ زُرْقًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ؟ لِأَنَّ هَذَا يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا عُلِمَ وَجُودُهُ بِالْحِسِّ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ مُخْتَصُّونَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أُمُورٌ مَحْسُوسَةٌ فَلَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهَا شَخْصٌ دُونَ شَخْصٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُونَ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا شَاهَدُوا أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ مَيَّزُوا الْبَعْضَ عَنِ الْبَعْضِ بِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي شَاهَدُوهَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فَالْمَعْنَى إِنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ سَلَّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَعِنْدَ هَذَا تَمَّ كَلَامُ أَهْلِ الْأَعْرَافِ.
ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْأَعْرَافِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا ثُمَّ إِنْ قُلْنَا إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هُمُ الْأَشْرَافُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَجْلَسَهُمْ عَلَى الْأَعْرَافِ وَأَخَّرَ إِدْخَالَهُمُ الْجَنَّةَ لِيَطَّلِعُوا عَلَى أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُهُمْ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ»
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ هُمْ أَشْرَافُ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فَعِنْدَ وُقُوفِ أَهْلِ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوْقِفِ يُجْلِسُ اللَّهُ أَهْلَ الْأَعْرَافِ فِي الْأَعْرَافِ وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الْعَالِيَةُ الشَّرِيفَةُ فَإِذَا أَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ نَقْلَهُمْ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ فِي الْجَنَّةِ فَهُمْ أَبَدًا لَا يَجْلِسُونَ