آيات من القرآن الكريم

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ

الجنة مدة مضروبة في الأزل، وفيه وعد للأولياء واستمالة لقلوبهم ووعيد للأعداء وسياسة لنفوسهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٤٣]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
القراآت:
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا كان يعقوب: إذا وقف على «إذا» يبتدىء تداركوا بالتاء. سهل: مخير، وكذلك قوله تعالى: قُلْتُمْ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا وافق الكسائي في تثاقلتم أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ بالإمالة الشديدة: إبراهيم بن حماد وحمزة وعلي وخلف.
وقرأ أبو عمر وغير إبراهيم بن حماد لِأُولاهُمْ بالإمالة اللطيفة أُخْراهُمْ بالإمالة الشديدة، وافق ورش من طريق النجاري والخزاز عن هبيرة في أُخْراهُمْ بالإمالة الشديدة فَآتِهِمْ بضم الهاء: رويس وكذلك كل كلمة سقطت الياء لعلة. إلا قوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ [الأنفال: ٦] لا يعلمون بياء الغيبة: أبو بكر وحماد لا تُفَتَّحُ لَهُمْ بتاء التأنيث والتخفيف: أبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بفتح ياء تحتانية وبالتخفيف. الباقون بتاء التأنيث والتشديد. غواشي بالياء في الوقف: يعقوب وكذلك كل كلمة سقطت الياء لأجل التنوين أو لاجتماع الساكنين وهو مذهب سهل من طريق ابن دريد، ما كُنَّا بغير

صفحة رقم 230

واو العطف: ابن عامر. الآخرون بالواو. أُورِثْتُمُوها وبابه بإدغام الثاء: أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام.
الوقوف:
آياتِي لا لأن الفاء بعده لجواب الشرط وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ هـ النَّارِ ط خالِدُونَ هـ بِآياتِهِ ط مِنَ الْكِتابِ ط يَتَوَفَّوْنَهُمْ لا لأن ما بعده جواب «إذا».
مِنْ دُونِ اللَّهِ ط كافِرِينَ هـ فِي النَّارِ ط أُخْتَها ط جَمِيعاً لا لما قلنا. مِنَ النَّارِ ط لا يعلمون هـ يكسبون هـ الْخِياطِ ط الْمُجْرِمِينَ هـ غَواشٍ ج الظَّالِمِينَ هـ وُسْعَها ط وجعل أُولئِكَ خبرا للموصول أوجه بناء على أن قوله:
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها معترضة الْجَنَّةِ ط خالِدُونَ هـ الْأَنْهارُ ط للعطف مع العارض. هَدانَا اللَّهُ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى بِالْحَقِّ ط لابتداء النداء بأنها جزاء بعد انتهاء الحمد والثناء على أنها عطاء تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما بيّن أحوال التكليف وأن لكل أحد أجلا معينا لا يتقدم ولا يتأخر بيّن أنهم بعد الموت إن كانوا قد قبلوا الشرائع الحقة فلا خوف عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ وإعرابه مثل ما مر في سورة البقرة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [الآية: ٣٨] والراجع محذوف أي فمن اتقى وأصلح منكم والذين كذبوا منكم. وإنما قال: رُسُلٌ مِنْكُمْ لأن ذلك يكون أقطع لعذرهم وأقرب إلى الفهم والأنس. ومعنى آياتي أحكامي وشرائعي الدالة على صحة المبدأ والمعاد. ثم قطع شأن الجاحدين بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ والأول الحكم بوجود ما لم يوجد كأقوال أصناف المشركين وطوائف المبتدعة. والثاني إنكار حكم وجد من نبي أو كتاب. ثم أخبر عن عاقبة أمرهم فقال أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ قيل: أي العذاب المعين من سواد الوجه وزرقة العين. وقال الزجاج: أي أنواع البلايا المعدة لكل صنف منهم من السلاسل والأغلال وغيرها على مقدار ذنوبهم، وقيل: هم اليهود والنصارى يجب علينا إذا كانوا في ذمتنا أن ننصفهم ولا نتعدى عليهم وأن نذب عنهم فذلك معنى النصيب. وعن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن النصيب هو ما سبق لهم في حكم الله تعالى ومشيئته من الشقاوة والسعادة والختم على الكفر والشرك، أو على الإيمان والتوحيد.
وقال الربيع وابن زيد: يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار كأنه سبحانه بيّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما قدر لهم من رزق وعمر تفضلا من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ وذلك أن «حتى» هي التي يبتدأ بعدها الكلام وأنه

صفحة رقم 231

هاهنا جملة شرطية فدل على أن مجيء الرسل المتوفين كالغاية، فحصول ذلك النصيب يكون مقدما على حصول الوفاة وليس ذلك إلا العمر والرزق. ومحل يَتَوَفَّوْنَهُمْ نصب على الحال من الرسل. قال ابن عباس: هم ملك الموت وأعوانه وإنهم يطالبون الكفار بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ. وقال الحسن والزجاج: إن هذا يكون في الآخرة والرسل ملائكة العذاب يتوفون عدّتهم عند حشرهم إلى النار أي يستكملون عدّتهم حتى لا ينفلت منهم أحد. قال في الكشاف: «ما» وقعت موصولة بأين في خط المصحف قلت: وإني رأيت النقل على العكس كما ذكرته في المقدمة السابقة من مقدمات الكتاب، ومعنى الآية أين الآلهة التي تدعون أي تعبدونهم وتدعونهم في الشدائد قالُوا على سبيل الاعتراف والعود إلى الإنصاف ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا وذهبوا ولم ننتفع بهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بالاعتراف أو بشهادة الجوارح عند معاينة الموت أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ثم شرح بقية أحوال الكفار وذلك قوله: قالَ أي الله. وعن مقاتل هو من كلام خازن النار. وهذا مبني على أنه سبحانه لا يجوز أن يكلم الكفار وإن كان كلام سخط ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قيل:
أي ادخلوا في النار مع أمم والأولى أن لا يلتزم الإضمار والمجاز. والمعنى ادخلوا كائنين في جملة أمم تقدم زمانهم زمانكم في النار. وفيه دليل على أن أصحاب النار لا يدخلون النار دفعة واحدة ولكن فيهم سابق ومسبوق كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها في الدين والعقيدة. فالمشرك يلعن المشرك، واليهودي يلعن اليهودي، والنصراني يلعن النصراني، وكذا المجوس وسائر أديان الضلالة وإذا لعنت نظيرها فلأن تلعن غيرها أولى حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه قالَتْ أُخْراهُمْ أي آخرتهم دخولا في النار لِأُولاهُمْ دخولا فيها أو أتباعهم وسفلتهم لرؤسائهم وقادتهم والمعنيان متلازمان عندي لأن المضل لا بد وأن يكون مقدما على الضال في دخول النار. واللام بمعنى التعليل أي لأجل أولاهم وذلك لأن خطابهم مع الله لا معهم رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ الفاء للجزاء عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا وذلك عذاب الضلال وعذاب الإضلال بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل. قال أبو عبيدة: الضعف مثل الشيء مرة واحدة وهو قول الشافعي في رجل أوصى فقال: أعطوا فلانا ضعف نصيب ولدي يعطى مثل نصيبه مرتين. وقال الأزهري: العرب تريد بالضعف المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين بدليل قوله عز من قائل:
فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ: ٣٧] وأقل ذلك عشرة لقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] وإنما قال الشافعي ما قال لأن ذلك متقن وما فوقه مشكوك قالَ أي الله أو خازن النار لِكُلٍّ من القادة والأتباع ضِعْفٌ أما

صفحة رقم 232

للقادة فلما قلنا، وأما للأتباع فلأنهم عظموهم وقلدوهم وروّجوا أمرهم. سئل هاهنا إن تضعيف العذاب للشخص الذي يستحق العذاب ظلم وأجيب في التفسير الكبير بأن عذاب الكفار مؤبد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير النهاية. قلت: وهذا لا يختص بصنف من الكفار دون صنف ولا بشخص دون شخص فلا يصلح للجواب.
والصواب أن يقال: معنى تضعيف عذاب التابع والمتبوع أن ذلك العذاب زائد على مقدار ما تستحقه تلك العقيدة لو حصلت لا من حيثية التابعية والمتبوعية والله أعلم وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ من قرأه على الغيبة فمعناه لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر لأن الاسم الظاهر يعود الضمير إليه على الغيبة، ومن قرأ على الخطاب فالمعنى لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل منكم من العذاب أو لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ إذ قد حكم الله بأن لكل منا ضعفا فَما كانَ أي فما ثبت لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ لأنكم مؤاخذون بالاتباع كما نحن مؤاخذون بالاستتباع فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يحتمل أن يكون من قول القادة وأن يكون من قول الله تعالى فيهم. قال في التفسير الكبير: قول القادة ليس لكم علينا فضل كذب لأن الرؤساء لهم عذاب الضلال وعذاب الإضلال والاتباع لهم عذاب الضلال فقط لكنه حكاية قول الكفار يوم القيامة والكذب عليهم جائز عندنا كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] قلت: إن سلمنا أن الكذب يجوز أن يصدر عنهم يوم القيامة إلا أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون كاذبا لأنهم بنوا كلامهم على حكم الله سبحانه بأن لكل ضعفا.
ثم ذكر ما يدل على خلودهم في النار فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهي الدلائل الدالة على الذات والصفات والنبوات والمعاد وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي ترفعوا عن قبولها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قال ابن عباس: أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله تعالى من قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:
١٠] ومن قوله: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] وقال السدي وغيره: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء التي هي موضع بهجة الأرواح وأماكن سعاداتها كما
جاء في الحديث «إن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة. ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء» «١»
وقيل: بناء على أن الجنة في السماء معناه ولا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرّق لهم إليها حتى يدخلوا

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣١. أحمد في مسنده (٢/ ٣٦٤).

صفحة رقم 233

الجنة. وقيل: أي لا تنزل عليهم البركة والخير من قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر: ١١] وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الولوج الدخول. وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال: زوج الناقة استجهالا للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والسم بالحركات الثلاثة وقد قرىء بها ثقب الإبرة وكل ثقب في البدن لطيف ومنه السم القاتل لنفوذه بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب. والخياط ما يخاط به قال الفراء: خياط ومخيط كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع. ولما كان جسم الجمل من أعظم الأجسام المشهورة عند العرب كما قال:

لا عيب بالقوم من طول ومن عظم جسم الجمال وأحلام العصافير
وكان سم الإبرة مثلا في ضيق المسلك حتى قيل: أضيق من خرت الإبرة. وقالوا للدليل الماهر خريت لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط المحال ليلزم يأسهم من دخول الجنة قطعا فإن الموقوف على المحال محال ومثله قول العرب: «لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار»، وقرىء الجمل بوزن القمل وكذا الجمل بوزن الحبل وبمعناه لأنه حبل ضخم من ليف أو خوص من آلات السفن. واختار ابن عباس هذا التفسير قائلا: إن الله تعالى أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه. وأهل التناسخ أوّلوا الآية بأن الأرواح التي كانت في الأبدان البشرية لمّا عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الذرة فتنفذ في سم الخياط، وحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب فتدخل الجنة وتصل إلى السعادة وَكَذلِكَ ومثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ قيل: هم الكافرون المكذبون المستكبرون المار ذكرهم، وقيل: يدخل فيه الفساق بشرط عدم التوبة عند المعتزلة، وبشرط عدم العفو عند الأشاعرة. ثم لما بين أنهم لا يدخلون الجنة ذكر أنهم يدخلون النار فقال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ هي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك، والمراد الإخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف. والتنوين في غَواشٍ مثله في «جوار» أعني أنه للتمكن عند بعض لأنه بعد حذف يائه لم يبق على زنة مساجد، وللعوض عند بعض، إما عن الياء أو عن إسكان الياء وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ هم المشركون أو الفسقة الذين ظلموا أنفسهم. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية. وقوله

صفحة رقم 234

لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وقد مر تفسيره في آخر سورة البقرة اعتراض بين المبتدأ وخبره وليس بأجنبي وإلا لم يحسن. وفيه تنبيه للمقصرين على أن الجنة مع عظم قدرها تحصل بالعمل السهل من غير ما حرج وصعوبة فبعدا لمن فاتته وسحقا لمن فارقته. ومن جعله خبرا فالعائد محذوف أي لا نكلف نفسا منهم. ثم وصف أخلاق أهل الجنة فقال: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ نزع الشيء قلعه من مكانه، والغل الحقد والتركيب يدور على الإخفاء ومنه الغلول كما مر في تفسير قوله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: ١٦١] وللآية تفسيران: الأول أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا بتصفية الطباع وإسقاط الوسواس ومنعه من أن يرد على القلوب فإن الشيطان مشغول بالعذاب فلا يتفرغ لإلقاء الوسواس فلم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف.
عن علي كرم الله وجهه أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
الثاني: أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقص، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة الناقصة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة فيكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضا وليس هذا ببديع ولا بعيد من حال أهل الجنة، فإن أولياء الله تعالى في دار الدنيا أيضا بهذه المثابة بحسن توفيق الله تعالى ونور عنايته وهدايته كل منهم قد قنع بما حصل له من نعيم الدنيا وطيباتها لا يميل طبعه إلى زوجة لغيره أحسن من زوجته ولا إلى مشتهى ألذ مما رزقه الله، وكل هذا نتيجة ملكة الرضا بالقضاء والتسليم لأمر رب الأرض والسماء، فيموتون كذلك ويحشرون على ذلك وفقنا الله لنيل هذا المقام ببركة أولئك الكرام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهذه من جملة أسباب التنزه والترفه أن أجرى على ظاهره، ومن جملة السعادات الروحانية أن أريد بها أنواع المكاشفات وأصناف التجليات وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا النعيم المقيم والفوز العظيم بأن يسر الأسباب وخلق الدواعي ومنع الصوارف، أو بأن أعطى العقل ونصب الأدلة وأزاح العلة وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ من قرأ بواو العطف فظاهر، ومن خذف الواو فلأنها جملة يقرب معناها من معنى الأولى وكأنها تفسرها فلا حاجة إلى العطف المؤذن بالتغاير. ثم حكى عنهم سبب الاهتداء وذلك قوله: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فجعله واسطة لهدايتنا أو لطفا وتنبيها يقولون ذلك فيما بينهم سرورا واغتباطا بما نالوا وتلذذا بالتكلم به لا تقربا وتعبدا فإن الجنة ليست دار التكليف وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ بأنه تلكم الْجَنَّةُ والضمير للشأن والحديث ويجوز كونه بمعنى أي لأن النداء في معنى القول. وإنما قيل: تِلْكُمُ لأنهم وعدوا بها في الدنيا وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها، ويجوز أن يكون التبعيد للتعظيم. ومعنى أُورِثْتُمُوها صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله. قد يستعمل الإرث ولا يراد به زوال

صفحة رقم 235

الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا الفعل يورثك الشرف أو العار. وقيل: أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيها بالميراث. وقيل: إن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار لما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «ليس من مؤمن ولا كافر إلا له في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم»
قالت المعتزلة قوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يدل على أن الموجب للجزاء هو العمل لا التفضل. وقال غيرهم: لما كان الموفق للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة بفضله. وجعل العمل أمارة على ذلك والمنادي هو الله جل وعلا أو الملك الموكل بذلك والله تعالى أعلم.
التأويل:
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ الهامات من أنفسكم من طريق قلوبكم وأسراركم وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن يقول أكرمني الله بالكرامات والمقامات ولم يعط أَوْ كَذَّبَ بمقامات أعطاها بعض أوليائه أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ من الشقاء الذي كتب لهم حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رسل الإلهامات الإلهية والواردات الربانية بعد أن كان هائما في تيه البشرية يَتَوَفَّوْنَهُمْ بجذبات الألطاف الإلهية عن الأوصاف البشرية قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الدنيا وشهواتها وَشَهِدُوا هؤلاء المجرمون المحرومون أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ساترين الحق بالباطل فهداهم الله تعالى. ثم قال لأهل الخذلان ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ وقدم الجن لأن الله تعالى خلق أولا بني الجان منهم مؤمن ومنهم كافر، فلما استولى أهل الكفر منهم بعث إليهم جندا من الملائكة- وقيل رئيسهم إبليس- فاستأصلوهم ثم خلق آدم وذريته منهم مؤمن ومنهم كافر. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في أعمال أهل النار لَعَنَتْ أُخْتَها المتقدمة في تلك الأعمال لأنهم سنوها حَتَّى إِذَا تدارك الكل في الأعمال الموجبة للنار. عَذاباً ضِعْفاً لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لِكُلٍّ ضِعْفٌ لأن المتأخر أيضا متقدم الذي يتلوه ويستن بسنته وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أنكم متقدمون لمتأخريكم فما كان لكم علينا من فضل لأنكم سننتم لمتأخريكم كما سننا لكم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ سماء القلوب إلى الحضرة وَلا يَدْخُلُونَ جنة القربة والوصلة حتى يدخل جمل النفس المتكبرة في سم خياط أحكام الشريعة وآداب الطريقة، وحتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله أدق من الشعرة بألف مرة فيلج في سم خياط الفناء فيدخل جنة البقاء وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ الذين

صفحة رقم 236
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية