[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)أى وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه ومزاياه عليكم فاستمعوا له بتدبر وخشوع، واصغوا إليه بأسماعكم وكل جوارحكم لتفهموا معانيه، وتفقهوا توجيهاته، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي تعظيما له، وإكبارا لشأنه، لكي تفوزوا برحمة الله ورضاه.
وبعض العلماء يحمل القراءة في الآية على القراءة خلف الإمام في الصلاة، أى أن على المؤتم أن يستمع إلى قراءة الإمام بتدبر وخشوع، واستدلوا على ذلك بأحاديث في هذا المعنى.
وبعضهم يجعل الآية عامة في وجوب الاستماع إلى قراءة القرآن بتدبر وإنصات وخشوع في الصلاة وفي غير الصلاة وحملوا الأحاديث التي أوردها أصحاب الرأى الأول على العموم أيضا.
والذي نراه أن الآية تأمر بوجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وفي غير الصلاة، لأن تعاليم الإسلام وآدابه تقتضي منا أن نستمع إلى القرآن بتدبر وإنصات وخشوع، ليؤثر تأثيره الشافي في القلوب، وليقودها إلى الطاعة والتقوى، فتنال المغفرة والرحمة.
ثم اختتمت السورة الكريمة بالحديث عن ذكر الله الذي هو طب القلوب ودواؤها وعافية الأبدان وشفاؤها فقالت:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٥ الى ٢٠٦]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
أى: استحضر عظمة ربك- جل جلاله- في قلبك. واذكره بما يقربك إليه عن طريق قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتحميد والتهليل وغير ذلك.
وقوله تَضَرُّعاً وَخِيفَةً في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أى. اذكره متضرعا متذللا له وخائفا منه- سبحانه-:
وقوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ معطوف على قوله فِي نَفْسِكَ أى: اذكر ربك ذكرا في نفسك، وذكرا بلسانك دون الجهر. صفحة رقم 462
والمراد بالجهر: رفع الصوت بإفراط، وبما دونه مما هو أقل منه، وهو الوسط بين الجهر والمخافتة، قال ابن عباس: هو أن يسمع نفسه.
وقوله بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ متعلق باذكر، والغدو جمع غدوة وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
والآصال جمع أصيل وهو من العصر إلى الغروب.
أى: اذكر ربك مستحضرا عظمته، في كل وقت، وراقبه في كل حال، لا سيما في هذين الوقتين لأنهما طرفا النهار ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به كان جديرا برعاية ربه.
قيل: وخص هذان الوقتان بالذكر لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد. وما بينهما من أوقات الغالب فيها الانقطاع لأمر المعاش.
ثم نهى- سبحانه- عن الغفلة عن ذكره فقال: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ الذين شغلتهم الدنيا عن ذكر الله.
وفيه إشعار بطلب دوام ذكره- تعالى- واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية.
قال بعض العلماء: ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن للذكر آدابا من أهمها:
١- أن يكون في النفس لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة، وأبعد من الرياء.
٢- أن يكون على سبيل التضرع وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير.
٣- أن يكون على وجه الخيفة أى الخوف والخشية من سلطان الربوبية وعظمة الألوهية من المؤاخذة على التقصير في العمل لتخشع النفس ويخضع القلب.
٤- أن يكون دون الجهر لأنه أقرب إلى حسن التفكر، وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أيها الناس: اربعوا على أنفسكم- أى هونوا على أنفسكم- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».
٥- أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفاد من قوله وَدُونَ الْجَهْرِ لأن معناه ومتكلما كلاما دون الجهر، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة، معطوفا على تَضَرُّعاً أو هو معطوف على فِي نَفْسِكَ أى: اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر «١».
ثم ذكر- سبحانه- ما يقوى دواعي الذكر، وينهض بالهمم إليه، بمدحه للملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم ملائكة الملأ الأعلى.
والمراد بالعندية القرب من الله- تعالى- بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزهه- سبحانه- عن ذلك.
لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسبما أمروا به بخضوع وطاعة.
وَيُسَبِّحُونَهُ أى: ينزهونه عن كل ما لا يليق بجلاله على ابلغ وجه.
وَلَهُ يَسْجُدُونَ أى: يخصونه وحده بغاية العبودية والتذلل والخضوع، ولا يشركون معه أحدا في عبادة من عباداتهم.
أما بعد: فهذه هي سورة الأعراف التي سبحت بنا سبحا طويلا وهي تحدثنا عن أدلة وحدانية الله، وعن هداية القرآن الكريم، وعن مظاهر نعم الله على خلقه، وعن اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وعن بعض الأنبياء وما جرى لهم مع أقوامهم، وكيف كانت عاقبة هؤلاء الأقوام، وعن سنن الله- تعالى- في إسعاد الأمم وإشقائها، وغير ذلك من أصول التشريع وآداب الاجتماع، وشئون البشر.
وقد استعملت السورة في أوامرها ونواهيها وتوجيهاتها أساليب التذكير بالنعم، والتخويف من النقم، وإيراد الحجج المقنعة، ودفع الشبهات الفاسدة.
وهذا تفسير لها تناولنا فيه بالشرح والتحليل ما اشتملت عليه من توجيهات سامية، وآداب عالية، ومقاصد جليلة، وحجج باهرة، ومواعظ مؤثرة.
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ونافعا لنا يوم الدين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأنعام»
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة المقدمة ٤ تمهيد بين يدي السورة ٥ ١ الحمد لله الذي خلق ٢٧ ٢ هو الذي خلقكم من طين ٣٢ ٣ وهو الله في السموات وفي الأرض ٣٥ ٤ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم ٣٥ ٥ فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ٣٦ ٦ ألم يروا كم أهلكنا ٣٨ ٧ ولو نزلنا عليك كتابا ٤٠ ٨ وقالوا لولا أنزل عليه ملك ٤٢ ٩ ولو جعلناه ملكا ٤٣ ١٠ ولقد استهزئ برسل ٤٣ ١١ قل سيروا في الأرض ٤٤ ١٢ قل لمن ما في السموات والأرض ٤٥ ١٣ وله ما سكن في الليل ٤٧ ١٤ قل أغير الله أتخذ وليا ٤٨ ١٥ قل إنى أخاف إن عصيت ٤٩ ١٦ من يصرف عنه ٤٩ ١٧ وإن يمسسك الله بضر ٥٠ ١٨ وهو القاهر فوق عباده ٥١ ١٩ قل أى شيء أكبر شهادة ٥٢ ٢٠ الذين آتيناهم الكتاب ٥٤ ٢١ ومن أظلم ممن افترى ٥٥ ٢٢ ويوم نحشرهم جميعا ٥٥ ٢٣ ثم لم تكن فتنتهم إلا ٥٧ ٢٤ انظر كيف كذبوا ٥٧ ٢٥ ومنهم من يستمع إليك ٥٧ ٢٦ وهم ينهون عنه ٥٩ ٢٧ ولو ترى إذ وقفوا على النار ٦٠ ٢٨ بل بدا لهم ما كانوا ٦١ ٢٩ وقالوا إن هي ٦٢ ٣٠ ولو ترى إذ وقفوا ٦٢ ٣١ قد خسر الذين ٦٣ ٣٢ وما الحياة الدنيا إلا لعب ٦٤ ٣٣ قد نعلم إنه ليحزنك ٦٥ ٣٤ ولقد كذبت رسل ٦٧ ٣٥ وإن كان كبر عليك ٦٨ ٣٦ إنما يستجيب الذين ٦٨ ٣٧ وقالوا لولا نزل ٦٩ ٣٨ وما من دابة في الأرض ٧٠ ٣٩ والذين كذبوا بآياتنا ٧١ ٤٠ قل أرأيتكم إن أتاكم ٧٢ ٤١ بل إياه تدعون ٧٣ ٤٢ ولقد أرسلنا إلى أمم ٧٣
٣ فلولا إذ جاءهم ٧٤ ٤٤ فلما نسوا ما ذكروا به ٧٤ ٤٥ فقطع دابر القوم ٧٥ ٤٦ قل أرأيتم إن أخذ الله ٧٥ ٤٧ قل أرأيتكم إن أتاكم ٧٦ ٤٨ وما نرسل المرسلين ٧٧ ٤٩ والذين كذبوا بآياتنا ٧٧ ٥٠ قل لا أقول لكم ٧٧ ٥١ وأنذر به الذين ٧٩ ٥٢ ولا تطرد الذين ٧٩ ٥٣ وكذلك فتنا ٨١ ٥٤ وإذ جاءك الذين ٨١ ٥٥ وكذلك نفصل الآيات ٨٢ ٥٦ قل إنى نهيت ٨٣ ٥٧ قل إنى على بينة ٨٤ ٥٨ قل لو أن عندي ٨٥ ٥٩ وعنده مفاتح الغيب ٨٧ ٦٠ وهو الذي يتوفاكم ٩٠ ٦١ وهو القاهر فوق عباده ٩٢ ٦٢ ثم ردوا إلى الله ٩٤ ٦٣ قل من ينجيكم من ٩٤ ٦٤ قل الله ينجيكم ٩٥ ٦٥ قل هو القادر ٩٦ ٦٦ وكذب به قومك ٩٧ ٦٧ لكل نبأ مستقر ٩٧ ٦٨ وإذا رأيت الذين ٩٨ ٦٩ وما على الذين يتقون ١٠٠ ٧٠ وذر الذين اتخذوا ١٠١ ٧١ قل أندعو من دون الله ١٠٣ ٧٢ وأن أقيموا الصلاة ١٠٥ ٧٣ وهو الذي خلق ١٠٥ ٧٤ وإذ قال إبراهيم ١٠٧ ٧٥ وكذلك نرى إبراهيم ١٠٩ ٧٦ فلما جن عليه الليل ١٠٩ ٧٧ فلما رأى القمر ١١٠ ٧٨ فلما رأى الشمس ١١٠ ٧٩ إنى وجهت وجهى ١١٢ ٨٠ وحاجه قومه ١١٢ ٨١ وكيف أخاف ١١٤ ٨٢ الذين آمنوا ولم يلبسوا ١١٥ ٨٣ وتلك حجتنا ١١٧ ٨٤ ووهبنا له إسحاق ١١٩ ٨٥ وزكريا ويحيى ١١٩ ٨٦ وإسماعيل واليسع ١١٩ ٨٧ ومن آبائهم وذرياتهم ١٢٢ ٨٨ ذلك هدى الله ١٢٢ ٨٩ أولئك الذين آتيناهم ١٢٢ ٩٠ أولئك الذين هدى الله ١٢٣ ٩١ وما قدروا الله ١٢٤ ٩٢ وهذا كتاب ١٢٨ ٩٣ ومن أظلم ممن افترى ١٢٩ ٩٤ ولقد جئتمونا فرادى ١٣١ ٩٥ إن الله فالق الحب ١٣٤ ٩٦ فالق الإصباح ١٣٧
صفحة رقم 466٩٧ وهو الذي جعل لكم ١٣٨ ٩٨ وهو الذي أنشأكم ١٣٩ ٩٩ وهو الذي أنزل من السماء ١٤٠ ١٠٠ وجعلوا لله شركاء الجن ١٤٤ ١٠١ بديع السموات والأرض ١٤٦ ١٠٢ ذلكم الله ربكم ١٤٧ ١٠٣ لا تدركه الأبصار ١٤٧ ١٠٤ قد جاءكم بصائر ١٤٨ ١٠٥ وكذلك نصرف ١٤٩ ١٠٦ اتبع ما أوحى إليك ١٥١ ١٠٧ ولو شاء الله ما أشركوا ١٥١ ١٠٨ ولا تسبوا الذين ١٥١ ١٠٩ وأقسموا بالله ١٥٤ ١١٠ ونقلب أفئدتهم ١٥٦ ١١١ ولو أننا نزلنا ١٥٧ ١١٢ وكذلك جعلنا لكل نبي ١٥٨ ١١٣ ولتصغى إليه أفئدة ١٦٠ ١١٤ أفغير الله أبتغى ١٦١ ١١٥ وتمت كلمة ربك ١٦٢ ١١٦ وإن تطع أكثر ١٦٣ ١١٧ إن ربك هو أعلم ١٦٣ ١١٨ فكلوا مما ذكر اسم الله ١٦٤ ١١٩ وما لكم ألا تأكلوا ١٦٥ ١٢٠ وذروا ظاهر الإثم ١٦٧ ١٢١ ولا تأكلوا مما لم يذكر ١٦٧ ١٢٢ أو من كان ميتا ١٦٩ ١٢٣ وكذلك جعلنا ١٧٠ ١٢٤ وإذا جاءتهم آية ١٧٢ ١٢٥ فمن يرد الله أن يهديه ١٧٤ ١٢٦ وهذا صراط ربك ١٧٥ ١٢٧ لهم دار السلام ١٧٥ ١٢٨ ويوم يحشرهم جميعا ١٧٦ ١٢٩ وكذلك نولي ١٧٩ ١٣٠ يا معشر الجن والإنس ١٨٠ ١٣١ ذلك أن لم يكن ربك ١٨٢ ١٣٢ ولكل درجات ١٨٣ ١٣٣ وربك الغنى ذو الرحمة ١٨٣ ١٣٤ إن ما توعدون لآت ١٨٤ ١٣٥ قل يا قوم اعملوا ١٨٤ ١٣٦ وجعلوا لله مما ذرأ ١٨٥ ١٣٧ وكذلك زين لكثير ١٨٨ ١٣٨ وقالوا هذه أنعام ١٨٩ ١٣٩ وقالوا ما في بطون هذه ١٩٠ ١٤٠ قد خسر الذين ١٩٢ ١٤١ وهو الذي أنشأ ١٩٣ ١٤٢ ومن الأنعام حمولة ١٩٦ ١٤٣ ثمانية أزواج ١٩٧ ١٤٤ ومن الإبل اثنين ١٩٧ ١٤٥ قل لا أجد في ما أوحى ٢٠٠ ١٤٦ وعلى الذين هادوا ٢٠٣ ١٤٧ فإن كذبوك فقل ٢٠٥ ١٤٨ سيقول الذين أشركوا ٢٠٥ ١٤٩ قل فلله الحجة البالغة ٢٠٩ ١٥٠ قل هلم شهداءكم ٢١٠
صفحة رقم 467١٥١ قل تعالوا أتل ٢١١ ١٥٢ ولا تقربوا مال اليتيم ٢١٩ ١٥٣ وأن هذا صراطي ٢٢١ ١٥٤ ثم آتينا موسى الكتاب ٢٢٢ ١٥٥ وهذا كتاب أنزلناه ٢٢٤ ١٥٦ أن تقولوا إنما ٢٢٤ ١٥٧ أو تقولوا لو أنا ٢٢٥ ١٥٨ هل ينظرون إلا ٢٢٦ ١٥٩ إن الذين فرقوا ٢٢٨ ١٦٠ من جاء بالحسنة ٢٢٩ ١٦١ قل إننى هداني ربي ٢٣٠ ١٦٢ قل إن صلاتي ٢٣٠ ١٦٣ لا شريك له وبذلك ٢٣١ ١٦٤ قل أغير الله أبغى ٢٣١ ١٦٥ وهو الذي جعلكم ٢٣١
صفحة رقم 468
فهرس إجمالى لتفسير سورة «الأعراف»
رقم الآية/ الآية المفسرة/ الصفحة المقدمة ٢٣٦ تمهيد بين يدي السورة ٢٣٧ ١ المص ٢٤١ ٢ كتاب أنزل إليك ٢٤٣ ٣ اتبعوا ما أنزل إليكم ٢٤٥ ٤ وكم من قرية ٢٤٥ ٥ فما كان دعواهم ٢٤٥ ٦ فلنسألن الذين ٢٤٦ ٧ فلنقصن عليهم بعلم ٢٤٧ ٨ والوزن يومئذ الحق ٢٤٨ ٩ ومن خفت موازينه ٢٤٨ ١٠ ولقد مكناكم في الأرض ٢٤٩ ١١ ولقد خلقناكم ثم ٢٤٩ ١٢ قال ما منعك ٢٥١ ١٣ قال فاهبط منها ٢٥٢ ١٤ قال أنظرنى إلى ٢٥٣ ١٥ قال إنك من ٢٥٣ ١٦ قال فبما أغويتنى ٢٥٣ ١٧ ثم لآتينهم ٢٥٤ ١٨ قال اخرج منها ٢٥٥ ١٩ ويا آدم أسكن ٢٥٥ ٢٠ فوسوس لهما الشيطان ٢٥٦ ٢١ وقاسمهما إنى لكما ٢٥٧ ٢٢ فدلاهما بغرور ٢٥٨ ٢٣ قالا ربنا ظلمنا ٢٥٩ ٢٤ قال اهبطوا بعضكم ٢٥٩ ٢٥ قال فيها تحيون ٢٥٩ ٢٦ يا بنى آدم قد أنزلنا ٢٥٩ ٢٧ يا بنى آدم لا يفتننكم ٢٦١ ٢٨ وإذ فعلوا فاحشة ٢٦٢ ٢٩ قل أمر ربي بالقسط ٢٦٣ ٣٠ فريقا هدى وفريقا ٢٦٣ ٣١ يا بنى آدم خذوا زينتكم ٢٦٤ ٣٢ قل من حرم زينة الله ٢٦٥ ٣٣ قل إنما حرم ربي ٢٦٦ ٣٤ ولكل أمة أجل ٢٦٧ ٣٥ يا بنى آدم إما يأتينكم ٢٦٧ ٣٦ والذين كذبوا بآياتنا ٢٦٨ ٣٧ فمن أظلم ممن افترى ٢٦٨ ٣٨ قال ادخلوا في أمم ٢٦٩ ٣٩ وقالت أولاهم لأخراهم ٢٧٠ ٤٠ إن الذين كذبوا بآياتنا ٢٧٠ ٤١ لهم من جهنم مهاد ٢٧٢ ٤٢ والذين آمنوا وعملوا ٢٧٢ ٤٣ ونزعنا ما في صدورهم ٢٧٣ ٤٤ ونادى أصحاب الجنة ٢٧٤ ٤٥ الذين يصدون عن ٢٧٦
٤٦ وبينهما حجاب ٢٧٧ ٤٧ وإذا صرفت أبصارهم ٢٧٩ ٤٨ ونادى أصحاب الأعراف ٢٧٩ ٤٩ أهؤلاء الذين أقسمتم ٢٧٩ ٥٠ ونادى أصحاب النار ٢٨٠ ٥١ الذين اتخذوا دينهم ٢٨٠ ٥٢ ولقد جئناهم بكتاب ٢٨١ ٥٣ هل ينظرون إلا ٢٨٢ ٥٤ إن ربكم الله ٢٨٣ ٥٥ ادعوا ربكم تضرعا ٢٨٧ ٥٦ ولا تفسدوا في الأرض ٢٨٩ ٥٧ وهو الذي يرسل الرياح ٢٩٠ ٥٨ والبلد الطيب يخرج ٢٩٣ ٥٩ لقد أرسلنا نوحا ٢٩٥ ٦٠ قال الملأ من قومه ٢٩٧ ٦١ قال يا قوم ليس بي ٢٩٨ ٦٢ أبلغكم رسالات ربي ٢٩٨ ٦٣ أو عجبتم أن جاءكم ٣٠٠ ٦٤ فكذبوه فأنجيناه ٣٠٠ ٦٥ وإلى عاد أخاهم هودا ٣٠١ ٦٦ قال الملأ الذين ٣٠٣ ٦٧ قال يا قوم ليس ٣٠٣ ٦٨ أبلغكم رسالات ربي ٣٠٣ ٦٩ أو عجبتم أن جاءكم ٣٠٤ ٧٠ قالوا أجئتنا ٣٠٥ ٧١ قال قد وقع عليكم ٣٠٦ ٧٢ فأنجيناه والذين ٣٠٧ ٧٣ وإلى ثمود أخاهم ٣٠٨ ٧٤ واذكروا إذ جعلكم ٣١٠ ٧٥ قال الملأ الذين ٣١١ ٧٦ قال الذين استكبروا ٣١٢ ٧٧ فعقروا الناقة ٣١٢ ٧٨ فأخذتهم الرجفة ٣١٣ ٧٩ فتولى عنهم ٣١٣ ٨٠ ولوطا إذ قال ٣١٤ ٨١ إنكم لتأتون ٣١٥ ٨٢ وما كان جواب ٣١٧ ٨٣ فأنجيناه وأهله ٣١٧ ٨٤ وأمطرنا عليهم ٣١٨ ٨٥ وإلى مدين أخاهم ٣١٩ ٨٦ ولا تقعدوا بكل ٣٢١ ٨٧ وإن كان طائفة ٣٢٢ ٨٨ قال الملأ الذين ٣٢٣ ٨٩ قد افترينا على الله ٣٢٦ ٩٠ وقال الملأ الذين ٣٢٨ ٩١ فأخذتهم الرجفة ٣٢٨ ٩٢ الذين كذبوا شعيبا ٣٢٩ ٩٣ فتولى عنهم وقال ٣٢٩ ٩٤ وما أرسلنا في قرية ٣٣١ ٩٥ ثم بدلنا مكان السيئة ٣٣٣ ٩٦ ولو أن أهل القرى ٣٣٤ ٩٧ أفأمن أهل القرى ٣٣٦ ٩٨ أو أمن أهل القرى ٣٣٦ ٩٩ أفأمنوا مكر الله ٣٣٧ ١٠٠ أو لم يهد للذين يرثون ٣٣٧ ١٠١ تلك القرى نقص ٣٣٩
صفحة رقم 470١٠٢ وما وجدنا لأكثرهم ٣٤٠ ١٠٣ ثم بعثنا من بعدهم ٣٤١ ١٠٤ وقال موسى يا فرعون ٣٤٤ ١٠٥ حقيق على أن لا أقول ٣٤٤ ١٠٦ قال إن كنت جئت ٣٤٥ ١٠٧ فألقى عصاه فإذا ٣٤٥ ١٠٨ ونزع يده فإذا ٣٤٥ ١٠٩ قال الملأ من قوم ٣٤٦ ١١٠ يريد أن يخرجكم ٣٤٦ ١١١ قالوا أرجه وأخاه ٣٤٧ ١١٢ يأتوك بكل ساحر ٣٤٧ ١١٣ وجاء السحرة فرعون ٣٤٨ ١١٤ قال نعم وإنكم ٣٤٨ ١١٥ قالوا يا موسى إما أن ٣٤٨ ١١٦ قال ألقوا فلما ٣٤٨ ١١٧ وأوحينا إلى موسى أن ٣٤٩ ١١٨ فوقع الحق وبطل ٣٤٩ ١١٩ فغلبوا هنالك ٣٥٠ ١٢٠ وألقى السحرة ساجدين ٣٥٠ ١٢١ قالوا آمنا برب العالمين ٣٥٠ ١٢٢ رب موسى وهارون ٣٥١ ١٢٣ قال فرعون آمنتم به ٣٥١ ١٢٤ لأقطعن أيديكم ٣٥١ ١٢٥ قالوا إنا إلى ربنا ٣٥٢ ١٢٦ وما تنقم منا إلا أن ٣٥٢ ١٢٧ وقال الملأ من قوم ٣٥٣ ١٢٨ قال موسى لقومه ٣٥٤ ١٢٩ قالوا أوذينا من ٣٥٤ ١٣٠ ولقد أخذنا آل ٣٥٥ ١٣١ فإذا جاءتهم الحسنة ٣٥٧ ١٣٢ وقالوا مهما تأتنا ٣٥٨ ١٣٣ فأرسلنا عليهم ٣٥٩ ١٣٤ ولما وقع عليهم الرجز ٣٦٠ ١٣٥ فلما كشفنا عنهم ٣٦٠ ١٣٦ فانتقمنا منهم ٣٦٢ ١٣٧ وأورثنا القوم ٣٦٢ ١٣٨ وجاوزنا ببني إسرائيل ٣٦٤ ١٣٩ إن هؤلاء متبر ٣٦٦ ١٤٠ قال أغير الله أبغيكم ٣٦٧ ١٤١ وإذ أنجيناكم من ٣٦٧ ١٤٢ وواعدنا موسى ٣٦٩ ١٤٣ ولما جاء موسى ٣٧١ ١٤٤ قال يا موسى إنى ٣٧٣ ١٤٥ وكتبنا له في الألواح ٣٧٣ ١٤٦ سأصرف عن آياتي ٣٧٦ ١٤٧ والذين كذبوا ٣٧٧ ١٤٨ واتخذ قوم موسى ٣٧٨ ١٤٩ ولما سقط في أيديهم ٣٨١ ١٥٠ ولما رجع موسى ٣٨١ ١٥١ قال رب اغفر لي ٣٨٤ ١٥٢ إن الذين اتخذوا ٣٨٤ ١٥٣ والذين عملوا السيئات ٣٨٤ ١٥٤ ولما سكت عن موسى ٣٨٥ ١٥٥ واختار موسى قومه ٣٨٦ ١٥٦ واكتب لنا في هذه ٣٨٩ ١٥٧ الذين يتبعون الرسول ٣٩٠
صفحة رقم 471
١٥٨ قل يا أيها الناس إنى ٣٩٥ ١٥٩ ومن قوم موسى ٣٩٦ ١٦٠ وقطعناهم اثنتي ٣٩٧ ١٦١ وإذ قيل لهم اسكنوا ٤٠١ ١٦٢ فبدل الذين ظلموا ٤٠٢ ١٦٣ واسألهم عن القرية ٤٠٦ ١٦٤ وإذ قالت أمة منهم ٤٠٩ ١٦٥ فلما نسوا ما ذكروا ٤١٠ ١٦٦ فلما عتوا عما نهوا ٤١١ ١٦٧ وإذ تأذن ربك ٤١٣ ١٦٨ وقطعناهم في الأرض ٤١٤ ١٦٩ فخلف من بعدهم خلف ٤٢٥ ١٧٠ والذين يمسكون ٤٢٨ ١٧١ وإذ نتقنا الجبل ٤٢٩ ١٧٢ وإذ أخذ ربك ٤٣١ ١٧٣ أو تقولوا إنما أشرك ٤٣٤ ١٧٤ وكذلك نفصل الآيات ٤٣٤ ١٧٥ واتل عليهم نبأ الذي ٤٣٥ ١٧٦ ولو شئنا لرفعناه ٤٣٦ ١٧٧ ساء مثلا القوم ٤٣٨ ١٧٨ من يهد الله فهو المهتدى ٤٣٩ ١٧٩ ولقد ذرأنا لجهنم ٤٤٠ ١٨٠ ولله الأسماء الحسنى ٤٤١ ١٨١ وممن خلقنا أمة يهدون ٤٤٣ ١٨٢ والذين كذبوا بآياتنا ٤٤٣ ١٨٣ وأملى لهم إن كيدي ٤٤٤ ١٨٤ أو لم يتفكروا ما
بصاحبهم ٤٤٥ ١٨٥ أو لم ينظروا في ملكوت ٤٤٥ ١٨٦ من يضلل الله فلا ٤٤٦ ١٨٧ يسألونك عن الساعة ٤٤٧ ١٨٨ قل لا أملك لنفسي ٤٥٠ ١٨٩ هو الذي خلقكم من ٤٥٢ ١٩٠ فلما آتاهما صالحا جعلا ٤٥٣ ١٩١ أيشركون ما لا يخلق ٤٥٥ ١٩٢ ولا يستطيعون لهم نصرا ٤٥٦ ١٩٣ وإن تدعوهم إلى الهدى ٤٥٦ ١٩٤ إن الذين تدعون من دون ٤٥٦ ١٩٥ ألهم أرجل يمشون بها ٤٥٦ ١٩٦ إن وليي الله الذي ٤٥٧ ١٩٧ والذين تدعون من ٤٥٧ ١٩٨ وإن تدعوهم إلى الهدى ٤٥٧ ١٩٩ خذ العفو وأمر بالعرف ٤٥٨ ٢٠٠ وإما ينزغنك من الشيطان ٤٥٩ ٢٠١ إن الذين اتقوا إذا ٤٦٠ ٢٠٢ وإخوانهم يمدونهم في ٤٦٠ ٢٠٣ وإذا لم تأتهم بآية ٤٦١ ٢٠٤ وإذا قرئ القرآن ٤٦٢ ٢٠٥ واذكر ربك في نفسك ٤٦٢ ٢٠٦ إن الذين عند ربك ٤٦٤
[المجلد السادس]
سورة الأنفالبسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه وبعد فهذا تفسير لسورة الأنفال أسأل الله- تعالى- أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده إنه سميع مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف د. محمد سيد طنطاوى صفحة رقم 5
تمهيد بين يدي تفسير السورة
١- سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف، فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية، ثم جاءت بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم، وهن سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة. ثم جاءت بعد هذه السور الأربع سورتان مكيتان، وهما أطول السور المكية في القرآن، سورتا: الأنعام والأعراف.
ثم جاءت سورة الأنفال بعد ذلك، فكانت الثامنة في ترتيب سور المصحف.
٢- وعدد آياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي، وست وسبعون في الحجازي، وسبع وسبعون في الشامي.
٣- وقد سميت سورة الأنفال بهذا الإسم، لحديثها عن الأنفال أى الغنائم في أكثر من موضع.
وقد أطلق عليها بعض الصحابة سورة بدر، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها فقال: تلك سورة بدر «١».
٤- وسورة الأنفال كلها مدنية، وممن قال بذلك: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح والحسن، وعكرمة.
قال صاحب المنار: وقيل إنها مدنية إلا آية «٦٤» وهي قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام، وروى عن مقاتل استثناء قوله- تعالى- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ... «الآية «٣٠» لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي ﷺ قبيل الهجرة، بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله ﷺ مع صاحبه أبى بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار، وهذا استنباط من المعنى، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت في المدينة.
وزاد بعضهم استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية، وهي قوله- تعالى-: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا.. إلى قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ «الآيات من
٣١- ٣٥» لأن موضوعها حال كفار قريش في مكة، وهذا لا يقتضى نزولها في مكة، بل ذكّر الله بها رسوله بعد الهجرة، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني» «١».
والذي ترتاح إليه النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية، وأن ما في بعض آياتها من أوصاف لأحوال المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعنى كون هذه الآيات مكية لأن هذه الآيات إنما هي من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عناد ومكابرة وانحراف عن الطريق القويم، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر فيها للمؤمنين.
٥- وقد ذكر بعض المفسرين- ومنهم الزمخشري- أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة، ولعل مرادهم بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة، لأنه من المعروف أن سورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة، ثم امتد هذا النزول لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بمدة قصيرة.
٦- قال الآلوسى: ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ... وفي هذه- أى الأنفال- كثير من أفراد المأمور به، وفي الأعراف ذكر قصص الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم، وفي هذه ذكره ﷺ وذكر ما جرى بينه وبين قومه.
وقد فصل- سبحانه- في تلك- قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ...
وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله- تعالى-: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها... وصرح بذلك هنا إذ يقول.. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا... إلى غير ذلك من المناسبات.
ثم قال الآلوسى: «والظاهر أن وضعها هنا توقيفي، وكذا وضع براءة بعدها، وإلى ذلك ذهب غير واحد... » «٢».
والحق أنه بمطالعتنا لما يقوله الآلوسى وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي قبلها، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف، وأن كثيرا مما ذكروه من مناسبات بين سورتين معينتين لا يختص بهما، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٩ ص ١٥٨ بتصرف يسير.
فالآلوسى- مثلا- يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ. وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به..
وهذا المعنى نراه في كثير من السور المتتالية، فسورة آل عمران- مثلا- من بين آياتها قوله- تعالى-: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. «١».
وسورة النساء- التي بعدها- فيها- أيضا- كثير من أفراد المأمور به لأن الأمر بالمعروف من الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامى.
والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها.
٧- وسورة الأنفال عند ما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات، نراها تحدثنا- في مجموعها- عن غزوة بدر، فتعرض أحداثها الظاهرة، كما تعرض بشارات النصر فيها، وتكشف عن قدرة الله وتدبيره في وقائع هذه الغزوة الحاسمة، وتبين كثيرا من الإرشادات والتشريعات الحربية التي يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح.
أخرج البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر «٢» :
(أ) لقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أى- الغنائم- مردها إلى الله ورسوله، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم ﷺ ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف، وبشرتهم بأسمى المنازل، وأرفع الدرجات.
قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
(ب) وبعد هذا الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر، لأنهم لم يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من بلاد الشام لكن الله- تعالى- أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره، لا فيما يقدرون ويريدون.
(٢) صحيح البخاري. كتاب التفسير ج ٦ ص ٧٧ طبعة مصطفي الحلبي سنة ١٣٤٥ هـ.
استمع إلى السورة الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول.
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
(ج) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من البشارات التي تشعر المؤمنين بأن الله- تعالى- قد أجاب لهم دعاءهم، وأنه- سبحانه- سيجعل النصر في هذه المعركة حليفا لهم.
ومن مظاهر هذه البشارات أن الله- تعالى- أمدهم بألف من الملائكة مردفين، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها، ولتثبت الأرض من تحتهم، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الإقدام والشجاعة.
قال- تعالى-: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.
(د) ثم وجهت السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم.
فقد أمرتهم في النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم، ونهتهم عن الفرار منهم، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير، وأخبرتهم بأن الله معهم ما داموا معتمدين عليه، ومستجيبين لما يدعوهم إليه.
وأمرتهم في النداء الثاني بطاعة الله ورسوله، وحذرتهم من المعصية، ومن التشبه بالكافرين الذين «قالوا سمعنا وهم لا يسمعون».
وأمرتهم في النداء الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم، وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره.
ونهتهم في النداء الرابع عن خيانة الله ورسوله، أى: عن ترك فرائض الله، وعن هجر
سنة رسوله.. وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله وعن أداء واجباته.
ثم بشرتهم في النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته، فإنه- سبحانه- سيرزقهم الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه.
تدبر معى- أخى القارئ- هذه النداءات، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية، حيث يقول- سبحانه-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ..
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ..
(هـ) ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكرا، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران.
فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة.
وحكت استهزاءهم بالدين، وإمعانهم في الجحود، وتعجلهم للعذاب..
وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن، حتى يشغلوا الناس عن سماعه..
وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم، لا في وجوه الخير، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير.
وبعد أن حكت كل هذه الرذائل عن الكافرين، أمرت الرسول ﷺ أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم، فإن الله- تعالى- سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم.
أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم، فستدور الدائرة عليهم.
قال- تعالى-: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
(و) وبعد أن افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب.
بعد كل ذلك عادت السورة إلى الحديث عن الغنائم، ففصلت ما أجملته في مطلعها، وذكّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم الله إياها في بدر.
ومن ذلك: أنّه- سبحانه- هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون موعد سابق.. وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضى- سبحانه- قضاءه النافذ..
قال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
(ز) ثم يأتى بعد ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين، فيأمرهم- سبحانه- فيه بالثبات عند لقائهم لأعدائهم، وبالإكثار من ذكره، وبالطاعة التامة له ولرسوله، وبالابتعاد عن التنازع والاختلاف.
ثم ينهاهم عن التشبه بالمرائين، والمتكبرين، والمغرورين، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم- ولكنه عند ما تراءى الجمعان نكص على عقبيه- والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات الله، وإيثارهم الضلالة على الهداية.
قال- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ.
(ح) ثم تمضى السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم، وإعداد العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم.. ، فإن جنحوا للسلم. ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك- أيها الرسول الكريم،
واحترس من خداعهم وغدرهم، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد.
قال- تعالى-: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
(ط) ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول ﷺ والمؤمنين في شأنهم، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما عند الله من ثواب عظيم، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه، فإنه حلال طيب، وأمرت النبي ﷺ أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة..
تأمل معى- أخى القارئ- هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى.
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
(ى) وإذا كانت السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين.. الصادقين، وعن حال الذين كرهوا الخروج إلى القتال في بدر.. فإنها قد تحدثت في ختامها- أيضا- عن أصناف المؤمنين.. فمدحت المهاجرين السابقين، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا، لأنهم قد اشتركوا جميعا في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله.. ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، بل ظلوا في أرض الشرك. ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية- وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين.
قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
٨- هذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية، وآداب عالية، وتشريعات حكيمة...
ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي:
(ا) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة، وعلى الطاعة لله ولرسوله. وإصلاح ذات بينهم، والثبات في وجه أعدائهم، والإكثار من التقرب إلى خالقهم، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره، فهو الذي هداهم للإيمان، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات.. بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض.
ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا- في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم- فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي..
(ب) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد، وبما كان منهم من مكر برسولهم ﷺ ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلا لاستحواذ الشيطان عليهم...
وهذا التذكير قد تكرر كثيرا في سورتنا هذه، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء، وما يبيتونه لهم من سوء وشر.
(ج) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر، وصاحبهم التوفيق.
ففي حالة الحرب: أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة.
وأن يبذلوا أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق.. وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام، وأن يكثروا من التقرب إلى الله بصالح الأقوال والأعمال- خصوصا في مواطن القتال-.. وأن
يجعلوا غايتهم في قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ....
وأن يؤثروا السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها.. أما في حالة سلمهم: فقد أمرتهم السورة الكريمة بالتآخى والتناصر والتواد والتراحم والتصالح.. ونبذ التنازع والتخاصم والاختلاف والبطر.
كما أمرتهم بتقوى الله وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد.
قال- تعالى-: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
وهناك موضوعات أخرى تعرضت لها السورة:
كحديثها عن الغنائم، وعن الأسرى، وعن المعاهدات، وعن أحداث غزوة بدر، وعن المشاعر التي تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها.
وقد ساقت السورة الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدى القلوب، ويشرح الصدور، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم وسعادتهم.
هذا، ونرى من المناسب- أخى القارئ- أن نختم هذا العرض المجمل لسورة بدر- كما سماها ابن عباس- بتلخيص لقصة هذه الغزوة لنتنسم الجو الذي نزلت فيه هذه السورة، ولندرك مرامي النصوص فيها.. لأننا نعتقد أن ما يعين على فهم الآيات القرآنية فهما قويما مستنيرا، أن يكون القارئ أو المفسر لها ملما بأسباب نزولها وبالجو التاريخى الذي نزلت فيه، وبالأحداث التي لا بست نزولها.. يجانب إلمامه بمدلولاتها اللغوية والبيانية..
قال الإمام ابن هشام عند حديثه عن «غزوة بدر الكبرى» «١».
قال ابن إسحاق: لما سمع رسول الله ﷺ بأبى سفيان مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة.. ندب المسلمين إليها وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حربا.
وكان أبو سفيان- حين دنا من الحجاز- يتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان: تخوفا على أمر الناس- أى: على أموالهم التي معه في القافلة حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن
عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
فلما وصلها أخذ يصرخ ببطن الوادي.. ويقول يا معشر قريش: اللطيمة اللطيمة- أى:
العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب..- أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث.
فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد.
- خرجوا بالقيان والدفوف يغنين في كل منهل، وينحرون الجزر، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا، وقادوا مائة فرس، عليها مائة درع سوى درع المشاة، وكانت إبلهم سبعمائة بعير.
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه: واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، واستعمل على المدينة أبا لبابة.. ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير.
وكان إبل المسلمين يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها- أى كانوا يركبونها بالتعاقب- وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.
وسلك رسول الله ﷺ طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة.. ثم نزل قريبا من بدر.. وأتى إلى رسول الله ﷺ الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال وأحسن.
ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ثم قال رسول الله ﷺ أشيروا على أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، وذلك لأنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فلما قال رسول الله ﷺ ذلك، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، وإنا
لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.
ففرح- رسول الله ﷺ بقول سعد..
ثم قال: سيروا وأبشروا، فإن الله- تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم.
قال ابن إسحاق: ثم ركب رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر فسارا حتى وقفا على شيخ من العرب. فسأله الرسول ﷺ عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله ﷺ إذا أخبرتنا أخبرناك.
قال: أذاك بذاك؟ قال: نعم، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرنى، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون.
وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرنى صدقنى، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش.
فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله ﷺ نحن من ماء، ثم انصرف عنه.
ثم رجع رسول الله ﷺ إلى أصحابه فلما أمسى أرسل بعضهم إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له.. فأصابوا ساقيين لقريش فأتوا بهما.. فقال لهما النبي ﷺ أخبرانى عن قريش.
قالا: هم والله وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
فقال لهما: كم القوم؟ قالا كثير قال: ما عددهم؟ قالا لا ندري قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. فقال: القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما.
فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف.. فأقبل رسول الله ﷺ على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها..
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، فنقيم عليه ثلاثة، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها.
وقال الأخنس بن شريق لبنى زهرة، يا بنى زهرة قد نجى الله لكم أموالكم فارجعوا فرجعوا فلم يشهد غزوة بدر زهري واحد.
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي: وبعث الله السماء بالماء فأصاب المسلمون منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء ماء نزل به..
فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله؟ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والمكيدة والحرب؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأى والمكيدة والحرب.
فقال الحباب يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله، ثم نغور ما وراءه من القلب- أى: ثم نغطى ما خلفه من الآبار- ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله ﷺ «لقد أشرت بالرأى» ثم نهض ومعه الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء. ثم قال سعد بن معاذ يا رسول الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا. كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا. فقد تخلف عنك أقوام- يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك.
فأثنى عليه رسول الله ﷺ ودعا له بخير، ثم بنى لرسول الله عريش فكان فيه.
ثم ارتحلت قريش حين أصبحت، فلما رآها رسول الله ﷺ قادمة من الكثيب إلى الوادي قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحثهم الغداة».
ثم أرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي فقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد، فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا..
ولقد رأيت- يا معشر قريش- البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع.
قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم. والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد
إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى أن تفعل شيئا تذكر به بخير إلى آخر الدهر؟ فقال عتبة: وما ذاك يا حكيم؟
قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي...
قال عتبة: قد فعلت.. ثم قام عتبة خطيبا في الناس فقال:
يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه. قتل ابن عمه أو ابن خاله.. فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون..
وبلغ كلام عتبة أبا جهل فسبه.. ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال له: هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثارك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك- أى: فقم فاطلب من الناس الوفاء بالعهد والأخذ بثأر أخيك..
فقام ابن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه، وا عمراه، فحميت الحرب، واشتد أمر الناس، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد أبو جهل الرأى الذي دعا عتبة الناس إليه..
قال ابن إسحاق: ثم خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي- وكان شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه فلما دنا منه خرج إليه حمزة بن عبد المطلب. فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه- أى.
أطارها- وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه. ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، فضربه حمزة حتى قتله في الحوض..
ثم خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة.. فنادى يا محمد: أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله ﷺ قم يا عبيدة وقم يا حمزة وقم يا على.. أما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه- أى: جرحه جرحا شديدا لا يملك معه الحركة- وكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا عبيدة فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله الناس أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل»...
ثم عدل رسول الله ﷺ الصفوف، ورجع إلى العريش فدخله- ومعه أبو بكر الصديق.. وأخذ الرسول ﷺ يناشد ربه ويقول فيما يقول: «اللهم إن تهلك هذه
العصابة اليوم لا تعبد، وأبو بكر يقول: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك».
ثم خفق رسول الله ﷺ خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل آخذ بعنان فرس.. يقوده على ثناياه النقع» - أى الغبار.
وكان قد رمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل.. من المسلمين.
ثم رمى حارثة بن سراقة وهو يشرب من الحوض بسهم فقتل.
ثم خرج رسول الله ﷺ إلى الناس فحرضهم وقال: «والذي نفس محمد بيده.
لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة»...
ثم إن رسول الله- ﷺ أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها، ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال: «شدوا» فكانت الهزيمة فقتل الله- تعالى- من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم..
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله ﷺ في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله ﷺ متوشحا السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله ﷺ في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!».
فقال سعد: أجل والله يا رسول الله؟ كانت هذه أول موقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال..
ثم قال رسول الله ﷺ لأصحابه يومئذ: «إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، ولا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله ومن لقى أبا البحتري فلا يقتله..
قال ابن إسحاق: - وبعد انتهاء المعركة- أمر رسول الله ﷺ بالقتلى من المشركين أن يطرحوا في القليب فلما طرحوا وقف عليهم فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم- يا أهل القليب- لقد كذبتموني وصدقنى الناس، وأخرجتموني وآوانى الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس»..
ثم قال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإنى قد وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال المسلمون: يا رسول الله! أتنادي قوما قد جيّفوا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».
ثم إن رسول الله ﷺ أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع، فاختلف فيه المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو..: والله لولا نحن ما أصبتموه..
ثم بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر الله لهم على المشركين.
ثم فرق الرسول ﷺ الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم:
«استوصوا بالأسارى خيرا».
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له: ما وراءك؟ فقال، قتل عتبة، وشيبة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف..
فلما جعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فاسألوه عنى!! فقالوا له: ما فعل صفوان بن أمية؟ فقال: ها هو ذاك في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا..
ولما قدم أبو سفيان بن الحارث قال له أبو لهب: هلم إلى، فعندك لعمري الخبر!! فجلس إليه الناس قيام عليه فقال له أبو لهب: يا ابن أخى أخبرنى كيف كان أمر الناس؟
فقال أبو سفيان: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا..
أما بعد: فهذا ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلى لسورة الأنفال، وقصدنا من ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة: أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة- كما سبق أن أشرنا وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحا مستنيرا..
لأن سورة الأنفال هي سورة بدر كما سماها ابن عباس- رضى الله عنه- وفي ختام هذا التعريف بسورة الأنفال، نسأل الله- تعالى- أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحا مقبولا، بعيدا عن الانحراف. محررا من لغو القول وباطله..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
المؤلف د. محمد سيد طنطاوى