
عَلِمْتَ أَنَّ وُقُوعَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرَ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَقْتَضِي قَصْرَ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَا غَلَبَ إِطْلَاقُهُ فِيهِ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ يَمُدُّونَهُمْ- بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ- تَقْتَضِي أَنْ يُعَدَّى فِعْلُ يَمُدُّونَهُمْ إِلَى الْمَفْعُولِ بِاللَّامِ، يُقَالُ مَدَّ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَتْ تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥].
وَالْغَيُّ الضَّلَالُ وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْغَيِّ بِمَكَانِ الْمُحَارِبَةِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَ لَهُمْ فِي الْغَيِّ مِنْ مَدٍّ لِلْبَعِيرِ فِي الطُّولِ.
أَيْ يُطِيلُونَ لَهُمُ الْحَبَلَ فِي الْغَيِّ، تَشْبِيهًا لِحَالِ أَهْلِ الْغِوَايَةِ وَازْدِيَادِهِمْ فِيهَا بِحَالِ النَّعَمِ الْمُطَالِ لَهَا الطُّولُ فِي الْمَرْعَى وَهُوَ الْغَيُّ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ تَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ فِي
أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ، وَهُوَ أَعْلَى أَحْوَالِ التَّمْثِيلِ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ قَوْلُ طَرَفَةَ:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخَطَأَ الْفَتَى | لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثُنْيَاهُ بِالْيَدِ |
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ أَيْ وَأَعْظَمُ مِنَ الْإِمْدَادِ لَهُمْ فِي الْغَيِّ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ جُهْدًا فِي الِازْدِيَادِ مِنَ الْإِغْوَاءِ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ إِخْوَانَهُمْ أَكْبَرَ الْغَاوِينَ.
[٢٠٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي.
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَاف: ١٩٩] وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ هَذِهِ مِنْ جَهَالَتِهِمْ وَالْآيَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا خَارِقُ الْعَادَةِ أَيْ هُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَيَسْأَلُونَ آيَاتٍ كَمَا يَشَاءُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ (فَجِّرْ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي شَرَحْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها صفحة رقم 236

فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٩]. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالْكَلْبِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَاد بِآيَة ءاية مِنَ الْقُرْآنِ يَقْتَرِحُونَ فِيهَا مَدْحًا لَهُمْ وَلِأَصْنَامِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يُونُس: ١٥] رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَتَادَةَ:
كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا تَأَخَّرَ الْوَحْيُ يَقُولُونَ لِلنَّبِيءِ هَلَّا أَتَيْتَ بِقُرْآنٍ مِنْ عِنْدِكَ يُرِيدُونَ التَّهَكُّمَ.
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ مِثْلَ (هَلَّا).
وَالِاجْتِبَاءُ الِاخْتِيَارُ، وَالْمَعْنَى: هَلَّا اخْتَرْتَ آيَةً وَسَأَلْتَ رَبَّكَ أَنْ يُعْطِيَكَهَا، أَيْ هَلَّا أَتَيْتَنَا بِمَا سَأَلْنَاكَ غَيْرَ آيَةِ الْقُرْآنِ فَيُجِيبَكَ اللَّهُ إِلَى مَا اجْتَبَيْتَ، وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ نَصْبُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي يَعْتَرِي أَهْلَ الْعُقُولِ السَّخِيفَةِ فِي فَهْمِ الْأَشْيَاءِ عَلَى خِلَافِ حَقَائِقِهَا وَبِحَسَبِ مَنْ يَتَخَيَّلُونَ لَهَا وَيَفْرِضُونَ.
وَالْجَوَابُ الَّذِي أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَالِاتِّبَاعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاقْتِصَارِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحَدِّ، أَيْ لَا أَطْلُبُ آيَةً غَيْرَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، وَيُعَضِّدُ هَذَا مَا
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَيَكُونُ الْمَعْنَى:
إِنَّمَا أَنْتَظِرُ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَلَا أَسْتَعْجِلُ نُزُولَ الْقُرْآنِ إِذَا تَأَخَّرَ نُزُولُهُ فَيَكُونُ الِاتِّبَاعُ مُتَعَلِّقًا بِالزَّمَانِ.
هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ كَلَامٍ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْمَقُولِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَجْمُوعِ أَغْرَاضِ السُّورَةِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ وَقَعَ التَّخَلُّصُ لِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هَذَا بَصائِرُ إِلَى الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّورَةِ أَوْ مِنَ الْمُحَاجَّةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ.