
اتباع الحق لدى بعض قوم موسى ونعم الله على بني إسرائيل في صحراء التيه
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
الإعراب:
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً: إنما أنث اثنتي عشرة على تقدير أمة، وتقديره:
اثنتا عشرة أمة. واثْنَتَيْ عَشْرَةَ: حال. وأَسْباطاً: بدل منصوب من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. ولا يجوز أن يكون أَسْباطاً منصوبا على التمييز لأنه جمع، والتمييز لما عدا العشرة إنما يكون مفردا. وأُمَماً: صفة لقوله: أَسْباطاً كما ذكر ابن الأنباري. وقال الزمخشري عن كلمة «أمما» : بدل من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ بمعنى: وقطعناهم أمما لأن كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد. وقال: أَسْباطاً تمييز، ووجه كونه مجموعا أنه وضع أَسْباطاً موضع قبيلة وكل قبيلة أسباط لا سبط.
المفردات اللغوية:
أُمَّةٌ جماعة. يَهْدُونَ يرشدون الناس ويدلونهم. وَبِهِ يَعْدِلُونَ في الحكم، أي يحكمون بين الناس بالعدل. قَطَّعْناهُمُ فرقنا بني إسرائيل وصيرناهم فرقا وقطعا. أَسْباطاً قبائل، والأسباط: أولاد الأولاد، جمع سبط وهو عندهم كالقبيلة في ولد إسماعيل. وأسباط بني إسرائيل: سلائل أولاده العشرة ما عدا لاوى، وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما إفرايم ومنس لأن سلائل لاوى قامت بخدمة الدين في جميع الأسباط.

إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ طلبوا منه الماء للسقيا في التيه. فَانْبَجَسَتْ انفجرت. اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد الأسباط. كُلُّ أُناسٍ سبط منهم. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ جعلنا الغمام يظلهم في التيه، والغمام: سحاب رقيق أو أبيض أو السحاب مطلقا. الْمَنَّ مادة بيضاء تنزل على ورق الشجر وغيره كالندى، حلوة المذاق كالعسل. وَالسَّلْوى طير يشبه السّماني، لكنه أكبر منه.
المناسبة:
بعد أن رغب الله سبحانه بني إسرائيل باتباع ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق إنزال الرحمة عليهم ووصفهم بأنهم المفلحون، ذكر ثلاثة أحوال لهم، الحال الأولى: أن بعضهم اتبعوا موسى بحق واتبعوا أيضا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، والتزموا الحق وقضوا به، والحال الثانية: قسمتهم اثنتي عشرة فرقة بعدد أسباطهم الاثني عشر، والحال الثالثة: انفجار الحجر اثنتي عشرة عينا بقدر عدد الأسباط لما طلبوا السقيا من موسى عليه السلام، وتظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى عليهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى بأن طائفة من بني إسرائيل يتبعون الحق ويعدلون به، وهم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل، آمنوا بموسى عليه السلام، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهم جماعة قوموا أنفسهم بالإيمان، وأرشدوا الناس إليه ودلوهم عليه، وهدوهم بالحق الذي جاءهم من عند الله، ويعدلون بالحق بينهم في الحكم، لا يجورون، كما قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ، يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ، وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران ٣/ ١١٣] وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ... الآية [آل عمران ٣/ ١٩٩] وقال عز وجل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران ٣/ ٧٥].

والخلاصة: الخبر في هذه الآية متعلق بجماعة مؤمنة من بني إسرائيل في عصر موسى، وبعد عصره، وهم أصناف ثلاثة: صنف أدركوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وآمنوا به، وهم المشار إليهم في آية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة ٢/ ١٢١]. وصنف آمنوا بموسى واتبعوا من بعده من الأنبياء، وهم المذكورون في الآية هنا، وصنف محتمل للقسمين، كما في الآية المتقدمة:
يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ....
وهذه شهادة عظيمة من الله تعالى تثبت وجود أهل الحق والعدل في كل أمة، وهذه هي الحال الأولى لبني إسرائيل.
والحال الثانية: أنه تعالى صيّر قوم موسى اثنتي عشرة فرقة أو قبيلة تسمى أسباطا، أي أمما وجماعات، تمتاز كل جماعة منهم بنظام خاص بها في المعيشة وممارسة شؤون الحياة.
والحال الثالثة: حال الأسباط إزاء نعم الله تعالى عليهم، والنعمة الأولى:
إغاثة الله لهم، حينما طلبوا من موسى السقيا، وقد عطشوا في التيه، فأوحى الله إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فضربه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من الماء بقدر عدد أسباطهم، كل سبط له عين خاصة به قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط مشربهم منه. والفرق بين الانبجاس والانفجار أن الأول:
خروج الماء بقلة، والثاني: خروجه بكثرة.
والنعمة الثانية: تظليل الغمام، فكانوا إذا اشتد عليهم الحر في الصحراء، يسخر الله تعالى لهم الغمام أي السحاب، يظلهم بظله الظليل، رحمة من الله.
والنعمة الثالثة: إنزال المن والسلوى: فكان الطعام الشهي ينزل عليهم بسهولة، دون عناء ولا مشقة، وهو المن الذي كان يقوم مقام الخبز عندهم وهو

مادة حلوة الطعم يجتمع كالندى على ورق الشجر وغيره صباحا، والسلوى: يقوم مقام سائر اللحوم، وهو طير أكبر من السّمانى.
ثم قيل لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، فهي نعم خصصناها بكم، فما عليكم إلا شكر النعمة.
وَما ظَلَمُونا بكفرهم بهذه النعم، ولكنهم ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والإنكار لأن المكلف إذا أقدم على المعصية، فهو ما أضر إلا نفسه، حيث عرّض نفسه للعقاب الشديد، ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ.. على أن الإسلام لا عصبية فيه. وأن الله تعالى يعلمنا طريق الحكم على الناس والأشياء، وهو طريق الحق والعدل، فهو الحكم الموضوعي المجرد، وهو الحكم الأبقى والأخلد. إنها شهادة عظيمة من الله تعالى لجماعة من بني إسرائيل أنهم التزموا الحق والعدل في أنفسهم ومع غيرهم، فآمنوا بالنبي موسى عليه السلام وبمن بعده من الأنبياء، وقضوا بين الناس بالعدل، ودعوا الناس إلى الهداية بالحق.
وهذه المزية أيضا قائمة في أمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فقد أنزل الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء بعد رجوعه إلى الدنيا: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٨١] يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فالله يعلمه أن الذي أعطيت موسى في قومه أعطيتك في أمتك.
ودلت آية وَقَطَّعْناهُمُ على قسمة بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، فميزهم وفعل بهم ذلك، لئلا يتحاسدوا، فيقع بينهم الهرج والمرج. ولا شك أن القسمة تريح من عناء