
فلولا المربي ما عرفت ربي، ولكن الإرادة الإلهية فوق كل شيء، والله غالب على أمره، ولله في خلقه شؤون، وله الحكمة العليا، وقد تجنح نفس الإنسان إلى السوء والفساد والانحراف، بالرغم من حسن التربية ورقابة المربي، كما نشاهد في بعض أولاد العلماء والصلحاء والأشراف.
غضب موسى وتعنيفه هارون لاتخاذ العجل إلها
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
الإعراب:
ابْنَ أُمَّ أمّ: تقرأ بكسر الميم وفتحها، فمن كسر الميم فعلى الأصل لأن الأصل فيه:
أمّي، وتكون فتحة ابْنَ فتحة إعراب لأنه منادى مضاف.
ومن فتح الميم بنى ابن مع أم، وجعلهما بمنزلة اسم واحد، كخمسة عشر، وتكون فتحة ابْنَ فتحة بناء، وليست بإعراب.
المفردات اللغوية:
غَضْبانَ بسبب فعل قومه أَسِفاً شديد الحزن، ومن استعمال الأسف بمعنى الحزن قول يعقوب: وَقالَ: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف ١٢/ ٨٤] وقد يستعمل الأسف بمعنى الغضب مثل: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف ٤٣/ ٥٥] قال أبو الدرداء: الأسف: أشد الغضب.

بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خروجي إلى ميقات ربي لمناجاته.
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ استعجلتم، والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته أما السرعة فهي عمل الشيء في أول أوقاته وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرح ألواح التوراة غضبا لربه، فتكسرت وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعره بيمينه، ولحيته بشماله يَجُرُّهُ إِلَيْهِ غضبا على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة ابْنَ أُمَّ ذكر الأم أعطف لقلبه وَكادُوا قاربوا فَلا تُشْمِتْ تفرح، والشماتة: الفرح بالمصيبة، ولا تشمت بي الأعداء: بإهانتك إياي. وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بعبادة العجل في المؤاخذة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة السامري باتخاذ العجل إلها لبني إسرائيل، ذكر أثر ذلك ووقعة على موسى إذ أنه في حال رجعته، كان غضبان أسفا، واشتد أساه وحزنه حين رأى الواقع المؤلم من ضلال قومه وغيهم، فبادر إلى تعنيف أخيه هارون بسبب عبادة قومه العجل، ولامه على سكوته على قومه. وهذا هو الفصل الثاني من قصة عبادة العجل.
التفسير والبيان:
أخبر الله موسى بفعل بني إسرائيل، وهو على الطور، بقوله: قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، قالَ: يا قَوْمِ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه ٢٠/ ٨٥- ٨٦].
فكان موسى أثناء رجوعه من الميقات غضبان أسفا، أي ساخطا شديد الحزن والأسى، وقال لقومه: بئسما فعلتم من بعد غيبتي، وبئست الخلافة التي خلفتموها من بعد ذهابي إلى جبل الطور لمناجاة ربي، حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري، وتركتم عبادة الله وتوحيده، وقد كنت أوضحت لكم عقيدة التوحيد، وغرست في قلوبكم تلك العقيدة، وطهرت نفوسكم من الشرك والوثنية، وحذرتكم من ضلال القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من

تماثيل البقر. وكان موسى في ذلك كله شديد الشكيمة، قوي العزيمة، لقنهم التوحيد الخالص، وأنكر عليهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم.
وقال موسى: أعجلتم أمر ربكم؟ أي استعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له، وهو ما وعدكم من الأربعين، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين، فقد مات «١»، أي تعجلتم في الحكم علي. قال الزمخشري: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده، وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدثتم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه ٢٠/ ٨٨] إن موسى لن يرجع وأنه قد مات «٢».
وطرح موسى الألواح من يده، لما اعتراه من فرط الدهشة، وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضبا لله، وحمية لدينه، وكان في نفسه حديدا (ذا حدة) شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى.
وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يرحم الله موسى، ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده، فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح».
وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه بذؤابته، لشدة ما استفزه من الأمر،
(٢) تفسير الكشاف: ١/ ٥٧٨.

وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه قصر في خلافته، وفرط في كفّ القوم عن عبادة العجل، ومن حق الخليفة اتباع سيرة سلفه: قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه ٢٠/ ٩٢] أي أن تتبعني إلى جبل الطور.
ولقد كان موسى عليه السّلام معذورا فيما فعل فهو غضب للحق، فقد كان نبينا عليه الصلاة والسّلام لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت حرمات الله، كان أشد ما يكون غضبا لله.
فأجابه هارون قائلا: يا ابن أمي، لا تتعجل بلومي وتعنيفي واتهامي بالتقصير في واجبي نحو الله تعالى، فإني أنكرت عليهم، ونصحتهم، ولكن القوم استضعفوني فوجدوني فردا واحدا، ولم يلتفتوا إلى كلامي، بل قاربوا أن يقتلوني.
يا ابن أمي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ، أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلى، ولا تجعلني في حنقك علي، وعقوبتك لي قرينا لهم وصاحبا، أو ولا تعتقد أني واحد من زمرة الظالمين لأنفسهم، يعني الذين عبدوا العجل، مع براءتي منهم ومن ظلمهم.
ولما اعتذر إليه أخوه واستعطف قلبه قال موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما قد فرط مني من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة لأخي، واغفر لأخي ما قد فرط أثناء خلافته عني، من مؤاخذة القوم على ما ارتكبوه من جرم وإثم، وأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ الواسعة، فأنت أرحم الراحمين، أي اجعل رحمتك ملازمة لنا لا تفارقنا في الدنيا والآخرة.
دعا موسى بهذا الدعاء ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا يشمتون به.

ودل ذلك على أن هارون كان دون موسى في شدة العزيمة وقوة الإرادة وأخذ الأمور بالحزم.
وأرشد اعتذار هارون أنه بريء من جريمة اتخاذ العجل إلها، وأنه لم يقصر في نصحهم والإنكار عليهم، وقد غفر الله له. وهذا مخالف لما في التوراة أن هارون هو الذي صنع العجل لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تختلف أحوال الناس وطبائعهم في سياسة الآخرين والاحتكاك بهم، فمنهم الحاد الطبع، السريع الانفعال كموسى عليه السّلام، الذي غضب للحق، وهو محق فيما فعل، ومتوقع منه كل ما فعل، ومنهم الهادي الطبع، اللين العريكة، الحليم مثل هارون عليه السّلام الذي لم يأل جهده في الإنكار على قومه، ولكنهم لم يرعووا لنصحه وهمّوا بقتله.
ولم يغضب موسى لخبر ربه غضبا مماثلا لما شاهده من الواقع المر لأنه ليس الخبر كالعيان، والشاهد يتألم ويتأثر عادة أكثر مما يتأثر به الغائب لأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
وكل هذه أحوال نفسية فطرية، لا سلطان للإنسان عليها، ومن المعروف أن الأمور الجبليّة من غضب وسرور ونحوهما لسنا مكلفين بها.
أما إلقاء موسى الألواح فكان بسبب دهشته واستفزازه ومن غير شعور منه تأثرا بما رأى، ففعل ما فعل، ولم يدر ما صنع. ولم يتعمد كسر الألواح، بل كان في غيبة وانفعال شديد، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه.
وأما أخذه برأس أخيه يجره إليه من شعره ولحيته فلا يتنافى مع عصمة الأنبياء لأنه لم يفعل ذلك على سبيل الإهانة والإذلال والاستخفاف، وإنما على

سبيل الإكرام والتعظيم، كما تفعل العرب عادة من قبض الرجل على لحية أخيه إكراما وتعظيما. ولكن هارون كره ذلك لئلا يظن بنو إسرائيل أنه إهانة.
وكان هارون أكبر من موسى عليهما السّلام بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ليّن الغضب. ثم إن موسى فعل ذلك بأخيه لظنه أو توهمه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل، ومثل هذا الميل لا يجوز على الأنبياء.
وزال الإشكال باعتذار هارون أن عبدة العجل استضعفوه، وقاربوا يقتلونه، فقبل موسى عذره ودعا له ولأخيه بالمغفرة وطلب الرحمة، المغفرة له على ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، والمغفرة لأخيه لما ظنه أنه مقصّر في الإنكار عليهم، وإن لم يقع منه تقصير، أي اغفر لي طرح الألواح، ولأخي إن قصر.
قال الحسن البصري: عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثمّ مؤمن غير موسى وهارون، لما اقتصر على قوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي، ولدعا لذلك المؤمن أيضا.
وإنما أقام هارون ولم يتبع أخاه موسى إلى الطور، خوفا على نفسه من القتل، فدلت الآية على أن من خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر له أن يسكت.
قال ابن العربي: هذا دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام، كما زعم بعض الناس، فإن موسى عليه السّلام لم يغيّر غضبه شيئا من أفعاله، بل اطّردت على مجراها من إلقاء لوح، وعتاب أخ، وصكّ ملك «١». قال المهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا ويتفرقوا.